Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 15-16)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام ابن كثير لما ذكر - تعالى - فى الآية الأولى التوحيد له ، وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف ، بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون فى غير ما آية من القرآن ، كقوله { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وقال { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وقوله - سبحانه - { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً … } من الإِيصاء بالشئ بمعنى الأمر به . قال - تعالى - { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } أى أمرنى بالمحافظة على أدائهما … وقوله { إِحْسَاناً } قراءة عاصم وحمزة والكسائى . وقرأ غيرهم من بقية السبعة { حسنا } وعلى القراءتين فانتصابهما على المصدرية . أى ووصينا الإِنسان وأمرناه بأن يحسن إلى والديه إحسانا أو حسنا ، بأن يقدم إليهما كل ما يؤدى إلى برهما وإكرامهما . ويصح أن يكون وصينا بمعنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فيكون المفعول الثانى منها ، قوله { إِحْسَاناً } أو { حسنا } . وقوله - سبحانه - { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } تعليل للإِيصاء المذكور ولفظ { كُرْهاً } قرئ بضم الكاف وفتحها ، وهما قراءتان سبعيتان ، قالوا ومعناهما واحد كالضُّعف - بتشديد الضاد وفتحها أو ضمها - فهما لغتان بمعنى واحد . وهذا اللفظ منصوب على الحال من الفاعل . أى حملته أمة ذات كره . ووضعته ذات كره ، أو هو صفة لمصدر مقدر ، أى حملته حملا ذا كره ، ووضعته كذلك . ولا شك فى أن الأم تعانى فى أثناء حملها ووضعها لوليدها ، الكثير من المشاق والآلام والمتاعب … فكان من الوفاء أن يقابل ذلك منها بالإِحسان والإِكرام . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى آية أخرى { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } أى حملته أمة ضعفا على ضعف ، لأن الحمل كلما تزايد وعظم فى بطنها ، ازداد ضعفها … وقوله - تعالى - { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } بيان لمدة الحمل والفطام ، والكلام على حذف مضاف . والفصال مصدر فاصل ، وهو بمعنى الفطام ، وسمى الفطام فصالا ، لأن الطفل ينفصل عن ثدى أمه فى نهاية الرضاع . أى ومدة حمل الطفل مع مدة فصاله عن ثدى أمه ، ثلاثون شهرا . قال صاحب الكشاف فإن قلت المراد بيان مدة الرضاع لا الفطام ، فكيف عبر عنه بالفصال … قلت لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه ، لأنه ينتهى به ويتم ، سمى فصالا … وفيه فائدة ، وهى الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته … وقال الشوكانى وقد استدل بهذه الآية على أن أقل الحمل ستة أشهر ، لأن مدة الرضاع سنتان ، أى مدة الرضاع الكامل ، كما فى قوله - تعالى - { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } فذكر - سبحانه - فى هذه الآية أقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع . وفى هذه الآية إشارة الى أن حق الأم ، آكد من حق الأب ، لأنها هى التى حملت وليدها بمشقة ووضعته بمشقة ، وأرضعته هذه المدة بتعب ونصب . . وقوله - تعالى - { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ … } غاية لمحذوف يفهم من سياق الكلام . والأشد قوة الإِنسان واشتعال حرارته ، من الشدة بمعنى القوة والارتفاع . يقال شد النهار ، إذا ارتفع ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ، ولا واحد له من لفظه . والمراد ببلوغ أشده أن يصل سنه على الراجح - إلى ثلاث وثلاثين سنة . وقوله { أَوْزِعْنِيۤ } أى رغبنى ووفقنى ، من قولك أوزعت فلانا بكذا ، إذا أغريته وحببته فى فعله . أى أن هذا الإِنسان بعد أن بقى فى بطن أمه ما بقى ، وبعد أن وضعته وأرضعته وفطمته وتولته برعايتها ، واستمرت حياته " حتى إذا بلغ أشده " أى حتى إذا بلغ زمن استكمال قوته ، وبلغ أربعين سنة وهى تمام اكتمال العقل والقوة والفتوة . { قَالَ } على سبيل الشكر لخالقه { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ … } أى يا رب وفقنى وألهمنى { أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } بأن وفقتنى ووفقتهما إلى صراطك المستقيم ، وبأن رزقتهما العطف علىَّ ، ورزقتنى الشكر لهما ، ووفقنى - أيضا - { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } منى ، وتقبله عندك { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } أى واجعل - يا إلهى - الصلاح راسخا فى ذريتى ، وساريا فيها ، لأن صلاح الذرية فيه السعادة الغامرة للآباء . { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } توبة صادقة نصوحا وإنى من المسلمين الذين أخلصوا نفوسهم لطاعتك ، وقلوبهم لمرضاتك . فأنت ترى أن الآية الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الدعوات ، التى عن طريق إجابتها تتحقق السعادة الدنيوية والأخروية . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى " فى " فى قوله { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } ؟ قلت معناه أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنته ، كأنه قال هب لى الصلاح فى ذريتى ، وأوقعه فيهم . وفى الآية الكريمة تنبيه للعقلاء ، إلى أن شأنهم - خصوصا عند بلوغ سن الأربعين . أن يكثروا من التضرع إلى الله بالدعاء ، وأن يتزودوا بالعمل الصالح ، فإنها السن التى بعث الله - تعالى - فيها معظم الأنبياء ، والتى فيها يكتمل العقل ، وتستجمع القوة ، ويرسخ فيها خلق الإِنسان الذى تعوده وألفه ورحم الله القائل @ إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذى مضى وإن جر أسباب الحياة له العمر @@ ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة من يسلك هذا الطريق القويم فقال { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ … } . واسم الإِشارة يعود إلى الإِنسان باعتبار الجنس . أى أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الجميلة ، هم { ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } من الأعمال الطيبة المتقبلة عندنا … { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } فلا نعاقبهم عليها ، لكثرة توبتهم إلينا . . بل نجعلهم { فِيۤ } عداد { أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ } الخالدين فيها ، والمتنعمين بخيراتها . فالجار والمجرور فى قوله { أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ } فى محل نصب على الحال ، على سبيل التشريف والتكريم ، كما تقول أكرمنى الأمير فى أصحابه ، أى حالة كونى معدودا من أصحابه . وقوله - تعالى - { وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } تذييل مؤكد لما قبله . ولفظ { وَعْدَ } مصدر لفعل مقدر . أى وعدهم الله - تعالى - وعد الصدق الذى كانوا يوعدون به على ألسنة الرسل فى الدنيا . هذا ، وقد ذكر بعض المفسرين أن هاتين الآيتين نزلتا فى شأن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - ، وقد استجاب الله دعاءه ، فأسلم أبواه وأولاده جميعا … وبعد أن ساق - سبحانه - هذه الصورة الوضيئة لأصحاب الجنة ، أتبع ذلك ببيان صورة سيئة لنوع آخر من الناس ، فقال - تعالى - { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ … وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } .