Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 4-6)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والفاء فى قوله - تعالى - { فَإِذَا لَقِيتُمُ } لترتيب ما بعدها من إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند قتل أعدائهم ، على ما قبلها وهو بيان حال الكفار . فالمراد باللقاء هنا القتال لا مجرد اللقاء والرؤية . كما أن المراد بالذين كفروا هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم ممن ليس بيننا وبينهم عهد بل بيننا وبينهم حرب وقتال . وقوله - سبحانه - { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } أمر للمؤمنين بما يجب فعله عند لقائهم لأعدائهم . وقوله { فَضَرْبَ } منصوب على أنه مصدر لفعل محذوف . أى فإذا كان حال الذين كفروا كما ذكرت لكم من إحباط أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق ، فإذا لقيتموهم للقتال ، فلا تأخذكم بهم رأفة ، بل اضربوا رقابهم ضربا شديدا . والتعبير عن القتل بقوله { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } ، لتصويره فى أفظع صوره . ولتهويل أمر القتال ، ولإِرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله . قال صاحب الكشاف قوله { لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } أصله فاضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ، لأنك تذكر المصدر ، وتدل على الفعل بالنصبة التى فيه . وضرب الرقاب عبارة عن القتل … وذلك أن قتل الإِنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل . على أن فى هذه العبارة من الغلظة والشدة ، ما ليس فى لفظ القتل ، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق ، وإطارة العضو الذى هو رأس البدن . وقوله - سبحانه - { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } بيان لما يكون من المؤمنين بعد مثل حركة أعدائهم ، وإنزال الهزيمة بهم . وقوله { أَثْخَنتُمُوهُمْ } من الإِثخان بمعنى كثرة الجراح ، مأخوذ من الشئ الثخين ، أى الغليظ ، يقال أثخن الجيش فى عدوه ، إذا بالغ فى إنزال الجراحة الشديدة به ، حتى أضعفه وأزال قوته . والوثاق - بفتح الواو وكسرها - اسم للشئ الذى يوثق به الأسير كالرباط أى عند لقائكم - أيها المؤمنون - لأعدائكم ، فاضربوا أعناقهم ، فإذا ما تغلبتم عليهم وقهرتموهم ، وأنزلتم بهم الجراح التى تجعلهم عاجزين عن مقاومتكم ، فأحكموا قيد من أسرتموه منهم ، حتى لا يستطيع التفلت أو الهرب منكم . وقوله - سبحانه - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } إرشاد لما يفعلونه بعد ذلك . والمن الإِطلاق بغير عوض ، يقال مَّن فلان على فلان إذا أنعم عليه بدون مقابل . والفداء ما يقدمه الأسير من أموال أو غيرها لكى يفتدى بها نفسه من الأسر . وقوله { مَنًّا } و { فِدَآءً } منصوبان على المصدرية بفعل محذوف أى فإما تمنون عليهم بعد الأسر منا بأن تطلقوا سراحهم بدون مقابل ، وإما أن تفدوا فداء بأن تأخذوا منهم فدية فى مقابل إطلاق سراحهم . وقوله - سبحانه - { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } غاية لهذه الأوامر والإِرشادات . وأوزار الحرب آلاتها وأثقالها التى لا تقوم إلا بها ، كالسلاح وما يشبه . قال الشاعر @ وأعددتَ للحرب أوزارها رماحا طوالاً وخيلا ذكورا @@ أى افعلوا بهم ما أمرناكم بفعله ، واستمروا على ذلك حتى تنتهى الحرب التى بينكم وبين أعدئاكم بهزيمتهم وانتصاركم عليهم . وسميت آلات الحرب وأحمالها بالأوزار ، لأن الحرب لما كانت لا تقوم إلا بها ، فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت الحرب فكأنها وضعت أحمالها وانفصلت عنها . ثم بين - سبحانه - الحكمة من مشروعية قتال الأعداء ، مع أنه - سبحانه - قادر على إهلاك هؤلاء الأعداء ، فقال { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } . واسم الإِشارة خبر لمبتدأ محذوف ، أى الأمر ذلك ، أو فى محل نصب على المفعولية بفعل محذوف ، أى افعلوا ذلك الذى أمرناكم به وأرشدناكم إليه واعلموا أنه - سبحانه - لو يشاء الانتصار من هؤلاء الكافرين والانتقام منهم لفعل ، أى لو يشاء إهلاكهم لأهلكم ، ولكنه - سبحانه - لم يفعل ذلك بل أمركم بمحاربتهم ليختبر بعضكم ببعض ، فيتميز عن طريق هذا الاختبار والامتحان ، قوى الإِيمان من ضعيفه . كما قال - تعالى - { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمجاهدين من ثواب عظيم فقال { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أى والذين استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله . { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أى فلن يضيع أعمالهم ولن يبطلها . بل { سَيَهْدِيهِمْ } أى بل سيوصلهم إلى طريق السعادة والفلاح . { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أى ويصلح أحوالهم وشئونهم وقلوبهم . { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أى ويدخلهم بعد كل ذلك الجنة يوم القيامة ويهديهم إلى بيوتهم ومساكنهم فيها ، بحيث لا يخطئونها ، حتى لكأنهم يقيمون فيها منذ خلقوا ، وذلك كله بإلهام من الله - تعالى - لهم . قال الآلوسى ما ملخصه { عَرَّفَهَا لَهُمْ } هذا التعريف فى الآخرة . قال مجاهد يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله - تعالى - لهم منها ، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا … وذلك بإلهام منه - عز وجل - . وورد فى بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا له على منزلته فيها ، وقيل إنه - تعالى - رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف . وقيل معنى عرفها لهم . طيبها لهم من العرف وهو الرائحة الطيبة ، ومنه طعام معرف ، أى مطيب . وعن الجبائى أن التعريف فى الدنيا ، وهو يذكر أوصافها ، والمراد أنه - سبحانه - لم يزل يمدحها لهم ، حتى عشقوها ، فاجتهدوا فى فعل ما يوصلهم إليها … هذا ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى 1 - وجوب قتال الكافرين بكل شدة وقوة ، حتى تضعف شوكتهم ، وتدول دولتهم ، ويخضعوا لحكم شريعة الإِسلام فيهم . وفى هذه المعنى وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } 2 - أخذ بعض العلماء من قوله - تعالى - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أن الأسير من الأعداء يدور أمره بين هاتين الحالتين إما أن نطلق سراحه بدون مقابل ، وإما أن نطلق سراحه فى مقابل فدية معينة نأخذها منه ، وقد تكون هذه الفدية مالا ، أو عملا ، أو غير ذلك مما فيه منفعة للمسلمين . ويرى بعض العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله - تعالى - { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } ويرى المحققون من العلماء أن هذه الآية ، وهى قوله - تعالى - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } . تحكى حالات معينة يكون امر الأسرى فيها دائرا بين المن والفداء ، لأنهما من مصلحة المسلمين ، وهناك حالات أخرى يكون الأصلح فيها قتل الأعداء ، أو استرقاقهم . فمسألة الأسرى من الأعداء ، يكون الحكم فيها على حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين ، ومرجع الحكم فيها إلى البصراء بالحرب وبوضع خططها ، لأنهم أعرف الناس بكيفية معاملة الأسرى . وهذا الرأى الأخير هو الذى تطمئن إليه النفس ، لأنه الثابت من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أفعال أصحابه ، ولأن ذكر المن والفداء لا ينافى جواز غيره كالقتل - مثلا - لأن هذا الغير مفهوم من آيات أخرى ذكرت هذا الحكم فى أوقات وحالات معينة . وقد رجح هذا الرأى كثير من العلماء ، منهم الإِمام ابن جرير ، فقد قال ما ملخصه - بعد أن ساق جملة من الأقوال - والصواب من القول عندنا فى ذلك ، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة لأنه غير مستنكر أن يكون جعل الخيار من المن والقتل والفداء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى القائمين بعده بأمر الأمة . وإن لم يكن القتل مذكورا فى هذه الآية ، لأنه قد أذن - سبحانه - بقتلهم فى آيات أخرى منها { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وقد فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك ، مع الأسرى ففى بدر قتل عقبة بن أبى معيط . وأخذ الفداء من غيره … ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفى وهو أسير فى يده . وقال القرطبى - بعد أن ذكر أربعة أقوال - الخامس أن الآية محكمة ، والإِمام مخير فى كل حال . وبهذا قال كثير من العلماء منهم ابن عمر ، والحسن وعطاء ، وهو مذهب مالك والشافعى والثورى والأوزاعى … وغيرهم ، وهو الاختيار لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك . فقد قتل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بدر النضر بن الحارث . وأخذ الفداء من أسارى بدر … وقد مَنَّ على سبى هوزان ، وهذا كله ثابت فى الصحيح . وقال بعض العلماء ما ملخصه وما نحسبنا مخطئين إذ قلنا إن الذى كان من النبى - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال المختلفة ، كان نزولا على مقتضى المصلحة ، ولذلك نراه كان يجتهد فى تعرف وجوه المصلحة ، فيستشير أصحابه . ولو كان الأمر أمر خطة مرسومة ، واحدا لا يتخطى . ما كان هناك معنى للاستشارة ، ولا للنزول على رأى بعض أصحابه ، ولما خالف فى الحرب الواحدة بين أسير وأسير ، فقتل هذا ، وأخذ الفداء من هذا . ومنَّ على هذا . وإذا فالمصلحة العامة وحدها المحكْمة ، وهى الخطة التى تتبع فى الحروب ، خصوصا والحرب مكر وخديعة ، ما دامت مكر أو خديعة فليترك للماكرين وضع خطط المكر والخديعة ولا يرسم لهم كيف يمكرون ، وإلا ما كانوا ماكرين . 3 - بشارة الشهداء بالثواب الجزيل ، وبالأجر العظيم ، ويكفى لذلك قوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } . وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث منها ما أخرجه الإِمام أحمد عن قيس الجذامى قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه يكفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حلة الإِيمان " . ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين بشرهم بنصره متى نصروا دينه ، وتوعد الكافرين بالخيبة والخسران ، ووبخهم على عدم تدبرهم فى مصير الذين من قبلهم ، وسلى النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من أعدائه ، فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ … فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } .