Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 18-24)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
واللام فى قوله - تعالى - { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ … } هى الموطئة للقسم ، وتسمى هذه البيعة بيعة الرضوان . والشجرة كانت بالحديبية ، وقد جلس - صلى الله عليه وسلم - تحتها ليبايع أصحابه على الموت أو على عدم الفرار ، فبايعوه على ذلك - ما عدا بعض المنافقين - ، وقد كان الناس بعد ذلك يترددون على تلك الشجرة ويصلون تحتها ، ويدعون الله - تعالى - … فأمر عمر - رضى الله عنه - قطعها خشية الافتتان بها . أى والله لقد رضى الله - تعالى - عن المؤمنين الذين بايعوك - أيها الرسول الكريم - تحت الشجرة ، على الموت من أجل إعلاء كلمة ربهم . وفى هذه الجملة أسمى وأعلى ما يتمناه إنسان ، وهو رضا الله - تعالى - عنه ودخوله فى زمرة العباد الذين ظفروا بمغفرته - سبحانه - ورحمته . قال الآلوسى - رحمه الله - والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة هذه المبايعة . وقوله - سبحانه - { تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } متعلق بيبايعونك … وفى التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة فى النفوس . ولذا استوجبت رضا الله - تعالى - الذى لا يعادله شئ ، ويستتبع ما لا يكاد يخطر على البال . ويكفى فيما ترتب على ذلك ما أخرجه أحمد عن جابر ، ومسلم عن أم بشر ، عنه ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " . وصح برواية الشيخين وغيرهما فى أولئك المؤمنين من حديث جابر ، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم " أنتم خير أهل الأرض … " . وقوله - تعالى - { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } بشارة أخرى لهؤلاء المؤمنين الصادقين . أى لقد رضى - سبحانه - عن الذين بايعوك تحت الشجرة - أيها الرسول الكريم - حيث علم ما فى قلوبهم من الصدق والإِخلاص وإيثار الآخرة على الأولى ، فأنزل السكينة والطمأنينة والأمان عليهم ، { وَأَثَابَهُمْ } أى وأعطاهم منحهم فتحا قريبا ، وهو فتح خيبر ، الذى كان بعد صلح الحديبية بأقل من شهرين . وقيل المراد به فتح مكة ، والأول أرجح ، لأن فتح خيبر لم يكن فتح أقرب منه ، ولأن المسلمين قد أصابوا من فتح خيبر غنائم كثيرة . وقد أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى تلك الغنائم فقال { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا … } . أى وأثابكم مغانم كثيرة تأخذونها من خيبر . { وَكَان ٱللَّهُ } - تعالى - وما زال { عَزِيزاً } أى غالبا { حَكِيماً } فى كل أفعاله وأحكامه . { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا … } أيها المؤمنون من أعدائكم فى مستقبل أيامكم . وقد صدق الله - تعالى - وعده معهم ، فلقد غنموا بعد ذلك من بلاد فارس والروم وغيرهما . والإِشارة فى قوله { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } تعود إلى مغانم خيبر ، كما روى عن مجاهد - وعليه يكون المراد بالناس فى قوله { وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ } أهل خيبر وحلفاءهم من بنى أسد وغطفان حين جاءوا لنصرة يهود خيبر ، فألقى الله الخوف فى قلوبهم جميعا . ويرى بعض المفسرين أن الإِشارة فى قوله { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } إلى صلح الحديبية وقد روى ذلك عن ابن عباس . وعليه يكون المراد بالناس فى قوله { وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ } مشركى قريش ، أى منعهم من حربكم ، بأن قذف فى قلوبهم الرعب منكم . ويبدو لنا أن هذا الرأى الذى قاله ابن عباس - رضى الله عنهما - هو الأقرب إلى الصواب ، لأنه يتسق مع سياق الآيات ، ولأنه يؤكد أن صلح الحديبية كان فتحا ومغنما ، كان فتحا بدليل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن شك فى ذلك " أى والذى نفسى بيده إنه لفتح " وكان مغنما لأن المسلمين غنموا من ورائه انتشار الدعوة الإِسلامية فى آفاق الأرض . واللام فى قوله { وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } متعلقة بمحذوف ، أى فعل ما فعل من التعجيل والكف لتكون تلك النعم والبشارات علامات للمؤمنين على رعاية الله - تعالى - لهم ، ورضاه عنهم . { وَيَهْدِيَكُمْ } أيها المؤمنون { صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أى طريقا واضحا قويما ، به تصلون إلى ما تبغونه من عزة وأمان . وقوله { وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا … } معطوف على { هَـٰذِهِ } . أى فعجل لكم هذه المغانم ، وعجل لكم مغانم أخرى ، لم تقدروا على الحصول عليها قبل ذلك لبعدها عن أن تنالها أيديكم . وقد أحاط الله بها لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } . وتختلف الأقوال فى هذه المغانم الأخرى فمنهم من يرى أنها فتح مكة ، ومنهم من يرى أنها فتح خيبر . ومنهم من يرى أنها مغانم هوازن وثقيف ، ومنهم من يرى أنها مغانم المسلمين من الفرس والروم . ويبدو لنا أن أرجح هذه الأقوال أولها ، لأنه ترتب على هذا الصلح فى الحديبية أن فتحت مكة بعد سنتين منه ، بسبب نقض المشركين له ، وقد تم فتحا بدون قتال يذكر ، بعد أن حدث ما حدث بين المسلمين وبين مشركى مكة من قتال انتصر فيه المسلمون تارة كغزوة بدر ، وانتصر فيه المشركون أخرى كغزوة أحد … فالمسلمون لم يقدروا على دخول مكة إلا فى عام الفتح ، وبعد أن أحاط الله - تعالى بها - بقدرته التى لا يغلبها شئ ، وبعد أن استعصت على المسلمين زمنا طويلا ، وقد سلمها - سبحانه - لهم بأقل أنواع القتال { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } . والذى يتأمل فى هذه الآيات الكريمة يرى الله - تعالى - ، قد بشر المسلمين الذين شهدوا صلح الحديبية ببشارات متعددة . بشرهم - أولا - برضاه عنهم - وهذه أسمى بشارة وأعلاها … وبشرهم - ثانيا - بتفضله عليهم بمنحهم السكينة والطمأنينة التى تجعلهم فى ثبات وأمان … وبشرهم - ثالثا - بفتوحات وغنائم منها القريب العاجل ، ومنها الآجل المتحقق ، الذى يكاد لتحققه أن يشاهدوه بأعينهم لأن الله - تعالى وعد به ووعده لا يتخلف . ثم بشرهم - رابعا - بأنهم هم المنصورون لأن سنته قد اقتضت ذلك ، فقال { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ … } وتولية الأدبار كناية عن الهزيمة ، لأن المنهزم يعطى ظهره لمن انتصر عليه . أى ولو قاتلكم الذين كفروا وأنتم على تلك الحالة من قوة الإِيمان ، وصدق العهد ، وإخلاص النية ، وحسن الاستعداد ، ومباشرة الأسباب … لولوا الأدبار أمامكم { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يعينهم { وَلاَ نَصِيراً } لنصرهم . وقوله { سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ … } زيادة فى تثبيتهم وفى إدخال السرور على قلوبهم … ولفظ { سُنَّةَ } منصوب على المصدرية بفعل محذوف . أى سن الله انتصار أهل الحق على أهل الباطل سنة قديمة وممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . { وَلَن تَجِدَ } أيها العاقل - { لِسُنَّةِ ٱللَّهِ } - تعالى - { تَبْدِيلاً } أو تغييرا أو تحويلا . وفى هذا المعنى وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة من نعمه التى أنعمها عليهم فى رحلتهم هذه التى انتهت بصلح الحديبية فقال { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ … } . والمراد ببطن مكة الحديبية ، وسميت بذلك لأنها قريبة من مكة . أى وهو - سبحانه - الذى منع المشركين - بقدرته وحكمته من مهاجمتكم والاعتداء عليكم ، ومنعكم من مهاجمتهم وقتالهم ، فى هذا المكان القريب من مكة ، وكان ذلك بعد أن نصركم عليهم ، وجعلكم أعلى منهم فى القوة والحجة والثبات ، وكان - سبحانه - وما زال { بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } . وقد ذكروا فى هذا الظفر روايات منها ما أخرجه الإِمام مسلم وغيره عن أنس قال لما كان يوم الحديبية ، هبط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . ثمانون رجلا من أهل مكة فى السلاح ، من قبل جبل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عليهم ، فأخذوا فعفا عنهم ، فنزلت هذه الآية " . فالآية الكريمة تذكير من الله - تعالى - لعباده المؤمنين ، بجانب من نعمه عليهم ، ورحمته بهم . وهو تذكير يتعلق بأمور شاهدوها بأعينهم ، وعاشوا أحداثها ، وعند ما يأتى التذكير بالأمور المشاهدة المحسوسة ، يكون أدعى إلى الشكر لله - عز وجل - . ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة أخرى من نعمه عليهم ، وكشف لهم عن جانب من حكمته فى منع القتال بينهم وبين مشركى مكة ، وفى هدايتهم إلى هذا الصلح فقال { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ … بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } .