Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 25-26)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والمراد بالذين كفروا فى قوله - تعالى - { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ } مشركو قريش ، الذين منعوا النبى - صلى الله عليه وسلم - من دخول مكة ، ومن الطواف بالبيت الحرام . والهدى مصدر بمعنى المفعول ، أى المهدى ، والمقصود به ما يهدى إلى بيت الله الحرام من الإِبل والبقر والغنم ، ليذبح تقربا إلى الله - تعالى - وكان مع المسلمين فى رحلتهم هذه التى تم فيها صلح الحديبية سبعين بدنة - على المشهور - ولفظ الهدى قرأه الجمهور بالنصب عطفا على الضمير المنصوب فى قوله { صدوكم } وقرأ أبو عمرو بالجر عطفا على المسجد … وقوله { مَعْكُوفاً } أى محبوسا . يقال عكفه يعكفه عكفا ، إذا حبسه ومنه الاعتكاف فى المسجد ، بمعنى الاحتباس فيه ، وهو حال من الهدى . وقوله { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } منصوب بنزع الخافض ، أى عن أن يبلغ محله ، أى مكانه الذى يذبح فيه وهو منى . والتعبير بقوله { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } تصريح بذمهم وتوبيخهم على موقفهم المشين من المؤمنين ، الذين لم يأتوا إلى مكة لحرب ، وإنما أتوا لأداء شعيرة من شعائر الله . أى هم فى ميزان الله واعتباره الكافرون حقا . لأنهم صدوكم ومنعوكم - أيها المؤمنون - عن دخول المسجد الحرام ، وعن الطواف به ، ولم يكتفوا بذلك ، بل منعوا الهدى المحبوس من أجل ذبحه على سبيل التقرب به إلى الله - تعالى - من الوصول إلى محله الذى يذبح فيه فى العادة وهو منى . قال القرطبى ما ملخصه " قوله { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً } أى محبوسا … { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } . أى منحره … والمحل - بالكسر - غاية الشئ ، وبالفتح هو الموضع الذى يحله الناس ، وكان الهدى سبعين بدنة ، ولكن الله - تعالى - بفضله جعل ذلك الموضع - وهو الحديبية - له محلا . وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة … وفى البخارى عن ابن عمر قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنة وحلق رأسه … " . وقوله - تعالى - { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ … } بيان لحكمة الله - تعالى - فى منع الحرب بين الفريقين . وجواب " لولا " محذوف لدلالة الكلام عليه . والمراد بالرجال المؤمنين وبالنساء المؤمنات سبع رجال وامرأتان كانوا بمكة . قال الآلوسى " وكانوا على ما أخرج أبو نعيم بسند جيد وغيره عن أبى جمعة جنبذ بن سبع - تسعة نفر سبعة رجال - وهو منهم - وامرأتين . وجملة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } صفة رجال ونساء على تغليب المذكر على المؤنث . وقوله { أَن تَطَئُوهُمْ } بدل اشتمال من رجال ونساء ، والوطء الدَّوْس ، والمراد به هنا الإِهلاك . وقوله { مَّعَرَّةٌ } أى مكروه وأذى يقال عَرَّه يعُره عَرًّا ، إذا أصابه بمكروه ، وأصله من العُرِّ وهو الجرب . والمراد به هنا تعيير الكفار للمؤمنين بقولهم لقد قتلتم من هم على دينكم . والمعنى ولولا كراهة أن تهلكوا - أيها المؤمنين - أناسا مؤمنين موجودين فى مكة بين كفارها ، وأنتم لا تعرفونهم ، فيصيبكم بسبب إهلاكهم مكروه ، لولا كل ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة ، بل لسلطكم عليهم لكى تقتلوهم . واللام فى قوله - سبحانه - { لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } متعلقة بما يدل عليه جواب لولا المقدر . أى لولا ذلك لما كف أيديكم عن كفار مكة ، ولكنه - سبحانه - كف أيديكم عنهم ، ليدخل فى رحمته بسبب هذا الكف من يشاء من عباده ، وعلى رأس هؤلاء العباد ، المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا فى مكة ، والذين اقتضت رحمته أن يتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهرانى الكفار ، ويفك أسرهم ، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب … كذلك قد شملت رحمته - تعالى - بعض كفار مكة ، الذين تركوا بعد ذلك الكفر ودخلوا فى الإِسلام ، كأبى سفيان وغيره من الذين أسلموا بعد فتح مكة أو بعد صلح الحديبية . وقوله - سبحانه - { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } تأكيد لما دل عليه الكلام السابق ، من أن حكمته - تعالى - قد اقتضت كف أيدى المؤمنين عن الكافرين ، رحمة بالمؤمنين الذين يعيشون فى مكة مع هؤلاء الكافرين . وقوله { تَزَيَّلُواْ } أى تميزَّوا . يقال زِلْتُه زَيْلاً ، أى مِزْتُه ، وزيله فتزيل أى فرقه فتفرق أى لو تميز هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين يعيشون فى مكة عن كفارها وفارقوهم وخرجوا منها ، وانعزلوا عنهم ، لعدبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ، تارة عن طريق إهلاكهم ، وتارة عن طريق إذلالهم وأخذهم أسرى ، و " من " فى قوله { مِنْهُمْ } للبيان لا للتبعيض . ثم بين - سبحانه - ما كان عليه المشركون من جهالات وحماقات استولت على نفوسهم فقال { إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } . والظرف { إِذْ } منصوب بفعل مقدر . والحمية الأنفة والتكبر والغرور والتعالى بغير حق . يقال حَمِىَ أنفه من الشئ - كرضى - إذا غضب منه ، وأعرض عنه . أى واذكر - أيها العاقل - وقت أن تمسك الكافرون وقيدوا أنفسهم بالحمية الباطلة ، التى هى حمية المِلّة الجاهلية ، حيث منعوا المسلمين من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام ، وحيث منعوا الهدى من أن يبلغ محله ، وحيث أبوا أن يكتب فى الصحيفة التى عقدت بينهم وبين المسلمين ، بسم الله الرحمن الرحيم ، أو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . … فهذا كله من حميتهم الجاهلية التى لا أساس لها من علم أو خلق أو دين … وقوله { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ … } معطوف على ما قبله ، للمقابلة بين حال الفريقين ، مقابلة تتجلى فيها رعايته - سبحانه - للمؤمنين ، وغضبه على الكافرين . أى هذا هو حال الكافرين ، رسخت الجهالات فى قلوبهم حتى صرفتهم عن سبيل الرشد ، أما حال المؤمنين فأنهم قابلوا تصرفات هؤلاء الكافرين بالاحتقار والازدراء ومبايعة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - على الموت إذا لزم الأمر ذلك . فأنزل الله - تعالى - طمأنينته وسكينته على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قلوب أصحابه ، حيث لم يجعلهم يقابلون سفاهات المشركين بسفاهات مثلها … { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } أى وجعلهم ملتزمين بما تقتضيه كلمة التقوى ، وهى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، من أناة وسكون وثبات ووقار وخلق كريم وإخلاص فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله . { وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أى وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة من الكفار ، وكانوا أهلا لها دون الكفار ، لأن المؤمنين استجابوا للحق . أما الكافرون فقد أنفوا منه ، وتطاولوا عليه ، بمقتضى حميتهم الجاهلية … { وَكَانَ } - سبحانه - وما زال { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } لا يخفى عليه أمر ، ولا يغيب عن علمه شئ ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يرى ألوانا من المقابلات التى تدل على مدح الله - تعالى - للمؤمنين ، وعلى احتقاره للكافرين . فقد عبر - سبحانه - فى جانب الكافرين بكلمة جعل التى تشعر بأن الكافرين كأنهم قد ألقوا هذه الحمية الجاهلية فى قلوبهم إلقاء بدون تعقل أو تدبر ، بينما عبر فى جانب المؤمنين بكلمة أنزل التى تشعر كأن السكينة كانت فى خزائنه - تعالى - ثم أنزلها بعد ذلك على قلب رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قلوب المؤمنين ، ليزدادوا إيمانا على إيمانهم … ونرى الفاعل لجعل هو الذين كفروا ، بينما الفاعل لأنزل هو الله - عز وجل - . ونرى المفعول لجعل هو الحمية ، وهى كلمة مشتعلة منفرة ، وقد كررها - سبحانه - ليزداد العقلاء نفورا منها … ونرى المفعول لأنزل هو السكينة وهى كلمة فيها ما فيها من الوقار والسكون والثبات والطمأنينة . ونرى الحمية قد أضيفت إلى الجاهلية ، بينما السكينة أضيفت إلى الله - تعالى - . ونرى أن الله - تعالى - قد أضاف كل ذلك مدحا عظيما لعباده المؤمنين حيث ألزمهم كلمة التقوى ، وجعلهم أحق بها وأهلا لها دون أعدائهم الذين آثروا الغى على الرشد ، والباطل على الحق … وفى ذلك ما فيه من الثناء على المؤمنين والتحقير للكافرين . ثم أكد الله - تالى - صدق ما شاهده النبى - صلى الله عليه وسلم - فى رؤياه ، وبين الحكمة التى من أجلها أرسله إلى الناس كافة فقال - تعالى - { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ … بِٱللَّهِ شَهِيداً } .