Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 29-29)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - تعالى - { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } مبتدأ وخبر ، أو { مُّحَمَّدٌ } خبر لمتبدأ محذوف ، و { رَّسُولُ ٱللَّهِ } بدل أو عطف بيان من الاسم الشريف . أى هذا الرسول الذى أرسله الله - تعالى - بالهدى ودين الحق ، هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } وهم أصحابه - وعلى رأسهم من شهد معه صلح الحديبية ، وبايعه تحت الشجرة - من صفاتهم أنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } أى غلاظ عليهم ، وأنهم { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } . أى أنهم مع إخوانهم المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتعاونون على البر والتقوى … وقوله - تعالى - { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } فيه أسمى التكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث شهد له - سبحانه - بهذه الصفة ، وكفى بشهادته - عز وجل - شهادة ، وحيث قدم الحديث عنه بأنه أرسله بالهدى ودين الحق ، ثم أخر اسمه الشريف على سبيل التنويه بفضله ، والتشويق إلى اسمه . وفى وصف أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، مدح عظيم لهم ، وجمع بين الوصفين على سبيل الاحتراس ، فهم ليسوا أشداء مطلقا ، ولا رحماء مطلقا ، وإنما شدتهم على أعدائهم ، ورحمتهم لإِخوانكم فى العقيدة ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ … } قال صاحب الكشاف " وعن الحسن أنه قال " بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم ، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه … " . وأسمى من هذا كله فى بيان تراحمهم قوله - تعالى - { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … } ثم وصفهم بوصف آخر فقال { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } . أى تراهم وتشاهدهم - أيها العاقل - راكعين ساجدين محافظين على الصلاة ولا يريدون من وراء ذلك إلا التقرب إلى الله - تعالى - والظفر برضاه وثوابه … ثم وصفهم بوصف ثالث فقال { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ … } أى علامتهم وهو نور يجعله الله - تعالى - فى وجوههم يوم القيامة ، وحسن سمت يعلو وجوههم وجباهم فى الدنيا ، من أثر كثرة سجودهم وطاعتهم لله رب العالمين . فالمقصود بهذه الجملة بيان أن الوضاءة والإِشراق والصفاء … يعلو وجوههم من كثرة الصلاة والعبادة لله ، وليس المقصود أن هناك علامة معينة - كالنكتة التى تكون فى الوجه - كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان . واختار - سبحانه - لفظ السجود ، لأنه يمثل أعلى درجات العبودية والإِخلاص لله - تعالى - . قال الآلوسى " أخرج بن مردويه بسند حسن عن أَبَىِّ بن كعب قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فى قوله - تعالى - { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } النور يوم القيامة " . ثم قال الآلوسى ولا يبعد أن يكون النور علامة على وجوههم فى الدنيا والآخرة - للآثار السابقة - لكنه لما كان فى الآخرة أظهر وأتم خصه النبى - صلى الله عليه وسلم - بالذكر … " . واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } يعود إلى جميع أوصافهم الجليلة السابقة ، والمثل هو الصفة العجيبة والقصة ذات الشأن . أى ذلك الذى ذكرناه عن هؤلاء المؤمنين الصادقين من صفات كريمة تجرى مجرى الأمثال ، صفتهم فى التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - . ثم بين - سبحانه - صفتهم فى الإِنجيل فقال { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ … } . وقوله { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ } معطوف على ما قبله وهو مثلهم فى التوراة ، والإِنجيل هو الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى - عليه السلام - . والشط فروع الزرع ، وهو ما خرج منه وتفرغ على شاطئيه . أى جانبيه . وجمعه أشطاء ، وشطوء ، يقال شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فروعه التى تتولد عن الأصل . وقوله { فَآزَرَهُ } أى فقوت تلك الفروع أصولها ، وآزرتها ، وجعلتها مكينة ثابتة فى الأرض . وأصله من شد الإِزار . تقول أزَّرْت فلانا ، إذا شددت إزاره عليه . وتقول آزرت البناء - بالمد والقصر - إذا قويت أساسه وقواعده . ومنه قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - { وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } . وقوله { فَٱسْتَغْلَظَ } أى فصار الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا . وقوله { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } أى فاستقام وتكامل على سيقانه التى يعلو عليها . وقوله { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } أى يعجب الخبراء بالزراعة لقوته وحسن هيئته . والمعنى أن صفة المؤمنين فى الإِنجيل ، أنهم كالزرع ، يظهر فى أول أمره رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد ، وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها . فكذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، كانوا فى أول الأمر فى قلة وضعف ، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة ، حتى بلغوا ما بلغوا فى ذلك . وصدق الله إذا يقول { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } قال صاحب الكشاف " وهذا مثل ضربه الله - تعالى - لبدء أمر الإِسلام وترقيه فى الزيادة إلى أن قوى واستحكم . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قام وحده ، ثم قواه الله - تعالى - بمن معه . كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها ، حتى يعجب الزراع " . وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه يكون وصفهم فى التوراة ، هو المعبر عنه بقوله - تعالى - { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } ويكون وصفهم فى الإِنجيل هو المعبر عنه بقوله - سبحانه - { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ … } . ولا شك أن هذه الأوصاف كانت موجودة فى الكتابين قبل أن يحرفا ويبدلا ، بل بعض هذه الأوصاف موجودة فى الكتابين ، حتى بعد تحريفهما . فقد أخرج بن جرير وعبد بن حميد عن قتادة قال " مكتوب فى الإِنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر … " . ويرى بعض المفسرين أن المذكور فى التوراة والإِنجيل شئ واحد ، وهو الوصف المذكور إلى نهاية قوله { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ } وعلى هذا الرأى يكون الوقف تاما على هذه الجملة ، وما بعدها وهو قوله { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ … } كلام مستأنف . قال القرطبى " قوله - تعالى - { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ … } قال الفراء فيه وجهان إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم فى التوراة وفى الإِنجيل أيضا ، كمثلهم فى القرآن ، فيكون الوقف على " الإِنجيل " . وإن شئت قلت تمام الكلام ذلك مثلهم فى التوراة . ثم ابتدأ فقال ومثلهم فى الإِنجيل . وكذا قال ابن عباس وغيره هما مثلان ، أحدهما فى التوراة ، والآخر فى الإِنجيل … " . والذى نراه أن ما ذهب إليه ابن عباس من كونهما مثلين ، أحدهما مذكور فى التوراة والآخر فى الإِنجيل ، هو الرأى الراجح ، لأن ظاهر الآية يشهد له . وفى هذه الصفات ما فيها من رسم صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المؤمنين الصادقين . وقوله - تعالى - { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } تعليل لما يعرب عنه الكلام ، من إيجاده - تعالى - لهم على هذه الصفات الكريمة . أى جعلهم - سبحانه - كذلك بأن وفقهم لأن يكونوا أشداء على الكفار ، ولأن يكونوا رحماء فيما بينهم ، ولأن يكونوا مواظبين على أداء الطاعات … لكى يغيظ بهم الكفار ، فيعيشوا وفى قلوبهم حسرة مما يرونه من صفات سامية للمؤمنين . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الوعد الجميل ، فقال { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } . و " من " فى قوله { مِنْهُم } الراجح أنها للبيان والتفسير ، كما فى قوله - تعالى - { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ … } أى وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وهم أهل بيعة الرضوان ، ومن كان على شاكلتهم فى قوة الإِيمان … وعدهم جميعا مغفرة لذنوبهم ، وأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا هو - سبحانه - . ويجوز أن تكون من هنا للتبعيض ، لكى يخرج من هؤلاء الموعودين بالمغفرة والأجر العظيم أولئك الذين أظهروا الإِسلام وأخفوا الكفر ، وهم المنافقون الذين أبوا مبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبوا الخروج معه للجهاد ، والذين من صفاتهم أنهم كانوا إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ، { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ … } هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم ، والثناء عليهم ، لأن الله - تعالى - قد مدحهم ووعدهم بالمغفرة وبالأجر العظيم . قال القرطبى " روى أبو عروة الزبيرى من ولد الزبير أنه قال كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ مالك هذه الآية { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } . فقال مالك من أصبح من الناس فى قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية . ثم قال الإِمام القرطبى - رحمه الله - قلت لقد أحسن مالك فى مقالته وأصاب فى تأويله ، فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه فى روايته ، فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين " … وبعد فهذا تفسير لسورة " الفتح " تلك السورة التى بشرت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بألوان من البشارات العالية ، وأدبتهم بأنواع من الآداب السامية ، وعرفتهم بأعدائهم من المنافقين والكافرين ، وحكت الكثير من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته بعباده المؤمنين … نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم …