Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 11-11)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها أنها نزلت فى قوم من بنى تميم ، سخروا من بلال ، وسلمان ، وعمار ، وخباب … لما رأوا من رثاثة حالهم ، وقلة ذات يدهم . ومن المعروف بين العلماء ، أن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب . وقوله { يَسْخَرْ } من السخرية ، وهى احتقار الشخص لغيره بالقول أو بالفعل ، يقال سخر فلان من فلان ، إذا استهزأ به ، وجعله مثار الضحك ، ومنه قوله - تعالى - حكاية عن نوح مع قومه { … قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } قال صاحب الكشاف والقوم الرجال خاصة ، لأنهم القوام بأمور النساء … واختصاص القوم بالرجال صريح فى الآية ، وفى قول الشاعر أقوم آل حصن أم نساء . وأما قولهم فى قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإِناث ، فليس لفظ القوم بمتعاطف للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور ، وترك ذكر الإِناث لأنهن توابع لرجالهن . أى يا من آمنتم بالله حق الإِيمان ، لا يحتقر بعضكم بعضا ولا يستهزئ بعضكم من بعض . وقوله { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } تعليل للنهى عن السخرية . أى عسى أن يكون المسخور منه خيرا عند الله - تعالى - من الساخر ، إذ أقدار الناس عنده - تعالى - ليست على حسب المظاهر والأحساب … وإنما هى على حسب قوة الإِيمان ، وحسن العمل . وقوله { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } . معطوف على النهى السابق ، فى ذكر النساء بعد القوم قرينة على أن المراد بالقوم الرجال خاصة . أى عليكم يا معشر الرجال أن تبتعدوا عن احتقار غيركم من الرجال ، وعليكن يا جماعة النساء أن تقلعن إقلاعا تاما من السخرية من غيركن . ونكر - سبحانه - لفظ { قَوْمٌ } و { نِسَآءٌ } للإِشعار بأن هذا النهى موجه إلى جميع الرجال والنساء ، لأن هذه السخرية منهى عنها بالنسبة للجميع . وقد جاء النهى عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال والنساء ، جريا على ما كان جاريا فى الغالب ، من أن السخرية كانت تقع فى المجامع والمحافل ، وكان الكثيرون يشتركون فيها على سبيل التلهى والتلذذ . ثم قال - تعالى - { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أى ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة سواء أكان على وجه يضحك أم لا ، وسواء كان بحضرة الملموز أم لا ، فهو أعم من السخرية التى هى احتقار الغير بحضرته ، فالجملة الكريمة من باب عطف العام على الخاص . يقال لمز فلان فلانا ، إذا عابه وانتقصه ، وفعله من باب ضرب ونصر . ومنهم من يرى أن اللمز ما كان سخرية ولكن على وجه الخفية ، وعليه يكون العطف من باب عطف الخاص على العام ، مبالغة فى النهى عنه حتى لكأنه جنس آخر . أى ولا يعب بعضكم بعضا بأى وجه من وجوه العيب . سواء أكان ذلك فى حضور الشخص أم فى غير حضوره . وقال - سبحانه - { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } مع أن اللامز يلمز غيره ، للإِشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم ، فكأنما عاب نفسه ، كما قال - تعالى { … فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وقوله { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } أى ولا يخاطب أحدكم غيره بالألفاظ التى يكرهها ، بأن يقول له أحمق ، أو يا أعرج ، أو يا منافق … أو ما يشبه ذلك من الألقاب السيئة التى يكرهها الشخص . فالتنابر التعاير والتداعى بالألقاب المكروهة ، يقال نبزه ينبزه - كضربه يضربه - إذا ناداه بلقب يكرهه ، سواء أكان هذا اللقب للشخص أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما . وقوله - تعالى - { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } تعليل للنهى عن هذه الرذائل والمراد بالاسم ما سبق ذكره من السخرية واللمز والتنابر بالألقاب ، والمخصوص بالذم محذوف . أى بئس الفعل فعلكم أن تذكروا إخوانكم فى العقيدة بما يكرهونه وبما يخرجهم عن صفات المؤمنين الصادقين ، بعد أن هداهم الله - تعالى - وهداكم إلى الإِيمان . وعلى هذا فالمراد من الآية نهى المؤمنين أن ينسبوا إخوانهم فى الدين إلى الفسوق بعد اتصافهم بالإِيمان . قال صاحب الكشاف الاسم ها هنا بمعنى الذِّكْر ، من قولهم فلان طار اسمه فى الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال طار ثناؤه وَصِيتُه … كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين … أن يذكروا بالفسق . ويصح أن يكون المراد من الآية الكريمة نهى المؤمنين عن ارتكابهم لهذه الرذائل ، لأن ارتكابهم لهذه الراذائل ، يؤدى بهم إلى الفسوق والخروج عن طاعة الله - تعالى - بعد أن اتصفوا بصفة الإِيمان . وقد أشار إلى هذا المعنى الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه وقوله { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } . يقول - تعالى - ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ونبزه بالألقاب ، فهو فاسق ، بئس الاسم الفسوق بعد الإِيمان ، يقول فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه . أن تسموا فساقا - بعد أن وصفتهم بصفة الإِيمان . وقال الإِمام الفخر الرازى ما ملخصه هذا أى قوله - تعالى - { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } من تمام الزجر كأنه - تعالى - يقول يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ، ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا فإن من يفعل ذلك يفسق بعد إيمانه ، والمؤمن يقبح منه أن يأتى بعد إيمانه بفسوق … ويصير التقدير بئس الفسوق بعد الإِيمان . ويبدو لنا أن هذا الرأى أنسب للسياق ، إذ المقصود من الآية الكريمة نهى المؤمنين عن السخرية أو اللمز أو التنابز بالألقاب ، لأن تعودهم على ذلك يؤدى بهم إلى الفسوق عن طاعة الله - تعالى - والخروج عن آدابه ، وبئس الوصف وصفهم بذلك أى بالفسق بعد الإِيمان . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } أى ومن لم يتب عن ارتكاب هذه الرذائل ، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث وضعوا العصيان موضع الطاعة ، والفسوق فى موضع الإِيمان . هذا ، ومن الإِحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية وجوب الابتعاد عن أن يعيب المسلم أخاه المسلم ، أو يحتقره ، أو يناديه بلقب سيئ . قال الآلوسى انفق العلماء على تحريم تلقيب الإِنسان بما يكره ، سواء كان صفة له أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما . ويستثنى من ذلك نداء الرجل بلقب قبيح فى نفسه ، لا على قصد الاستخفاف به ، كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته ، كقول المحدثين سليمان الأعمش ، وواصل الأحدب . ثم وجه - سبحانه - إلى عباده المؤمنين نداء خامسا ، نهاهم فيه عن أن يظن بعضهم ببعض ظنا سيئا بدون مبرر ، كما نهاهم عن التجسس وعن الغيبة ، حتى تبقى للمسلم حرمته وكرامته … فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ … } .