Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 109-110)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الفخر الرازى اعلم أن عادة الله تعالى - جارية فى هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام ، أتبعها إما بالإِلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر - فيما تقدم أنواعا كثيرة من الشرائع ، أتبعها بوصف أحوال القيامة . ثم قال وفى هذه الآية قولان أحدهما أنها متصلة بما قبلها والتقدير واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل - فيكون قوله { يَوْمَ يَجْمَعُ } بدل اشتمال من قوله فى الآية السابقة { وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ } والقول الثانى أنها منقطعة عما قبلها والتقدير اذكروا { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } . والمعنى لقد سقنا لكم - أيها الناس - ما سقنا من الترغيب والترهيب وبينا لكم ما بينا من الأحكام والآداب ، فمن الواجب عليكم أن تتقوا الله وأن تحذروا عقابه ، وأن تذكروا ذلك اليوم الهائل الشديد يوم يجمع الله الرسل الذين أرسلهم إلى مختلف الأقوام . فى شتى الأمكنة والأزمان فيقول لهم ماذا أجبتم من أقوامكم ؟ أى ما الإِجابة التى أجابكم بها أقوامكم ؟ وخص - سبحانه - الرسل بالذكر - مع أن الرسل وغيرهم سيجمعون للحساب يوم القيامة - لإِظهار شرفهم وللإِيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم من الأقوام لأن هؤلاء الأقوام إنما هم تبع لهم . وقال - سبحانه - { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } ولم يقل - مثلا - " هل بلغتم رسالتى أولا " ؟ للإِشعار بأن الرسل الكرام قد بلغوا رسالة الله على أكمل وجه وأن الذين خالفوهم من أقوامهم سيتحملون وزر مخالفتهم يوم القيامة . وقوله { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } حكاية لاجابة الرسل فإن قيل لماذا نفوا عن أنفسهم العلم مع أن عندهم بعض العلم ؟ فالجواب على ذلك أن هذا من باب التأدب مع الله - تعالى - فكأنهم يقولون لا علم لنا يذكر بجانب علمك المحيط بكل شىء ، ونحن وإن كنا قد عرفنا ما أجابنا به أقوامنا ، إلا أن معرفتنا هذه لا تتعدى الظواهر ، أما علمك أنت - يا ربنا - فشامل للظواهر والبواطن ، أو أنهم قالوا ذلك إظهارا للتشكى والالتجاء إلى الله ليحكم بينهم وبين أقوامهم الذين كذبوهم . أو أن مرادهم لا علم لنا بما كان منهم بعد أن فارقناهم وفارقنا من جاء بعدنا من الناس ، لأن علمنا مقصور على حال من شاهدناهم وعاصرناهم . ورحم الله صاحب الكشاف قد حكى هذه الأقوال وغيرها بأسلوبه البليغ فقال فإن قلت ما معنى سؤالهم ؟ قلت توبيخ قومهم . كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد . فإن قلت كيف يقولون " لا علم لنا وقد علموا بما أجيبوا ؟ " . قلت يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم - أى بما ابتلوا به منهم - ، وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهارا للتشكى واللجأ إلى ربهم فى الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة ، وأفت فى أعضادهم ، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم فى أيديهم ، إذا اجتمع توبيخ الله لهم وتشكى أنبيائه منهم . ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة ، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه . فجمع بينهما ويقول له ما فعل بك هذا الخارجى ؟ - وهو عالم بما فعل به - يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له أنت أعلم بما فعل بى ، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه واتكالا عليه ، وإظهارا للشكاية وتعظيما لما حل به منه - ولله المثل الأعلى - وقيل من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم . وقيل معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور ، لأنك علام الغيوب ، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التى فيها إجابة الأمم لرسلهم . وقيل معناه " لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة ، وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجه موبخين " . ثم ذكر - سبحانه - بعض النعم التى أنعم بها على عيسى وأمه فقال { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ } . وقوله { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } بدل من قوله { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } وقد نصب بإضمار اذكر . والمعنى اذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم ماذا أجبتم ؟ . واذكر - أيضاً - زيادة فى العبرة والعظة قوله - سبحانه - { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } تذكر يا عيسى نعمى المتعددة عليك وعلى والدتك - وعبر بالماضى فى قوله { إذ قال الله } مع أن هذا القول سيكون فى الآخرة ، للدلالة على تحقيق الوقوع ، وأن هذا القول سيحصل بلا أدنى ريب يوم القيامة . قال أبو السعود قوله - تعالى { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } شروع فى بيان ما جرى بينه - تعالى - وبين واحد من الرسل المجموعين ، من المفاوضة على التفصيل ، إثر بيان ما جرى بينه - تعالى - وبين الكل على وجه الإِجمال ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين ، وتخصيص شأن عيسى بالبيان ، لما أن شأنه - عليه السلام - متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعت عليهم هذه السورة جناياتهم . فتفصيل شأنه يكون أعظم عليهم ، وأجلب لحسراتهم ، وأدخل فى صرفهم عن غيهم وعنادهم " . والمراد بالنعمة فى قوله { ٱذْكُرْ نِعْمَتِي } النعم المتعددة التى أنعم بها - سبحانه - على عيسى وعلى والدته مريم حيث طهرها من كل ريبة ، واصطفاها على نساء العالمين . وفى ندائه - سبحانه - لعيسى بقوله { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } إشارة إلى أنه ابن لها وليس ابنا لأحد سواها ، فقد ولد من غير أب ، ومن كان شأنه كذلك لا يصلح أن يكون إلها ، لأن الإِله الحق لا يمكن أن يكون مولودا أو محدثا . وقوله { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } تعديد للنعم التى أنعم الله - تعالى - بها على عيسى . وقوله { أيدتك } أى قويتك من التأييد بمعنى التقوية . والمراد بروح القدس جبريل - عليه السلام - فإن من وظيفته أن يؤيد الله به رسله بالتعليم الإلهى ، وبالتثبيت فى المواطن التى من شأن البشر أن يضعفوا فيها . وقيل المراد { بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } روح عيسى حيث أيده - سبحانه - بطبيعة روحانية مطهرة فى وقت سادت فيه المادية وسيطرت . أى أيدتك بروح الطهارة والنزاهة والكمال ، فكنت متسما بهذه الروح الطاهرة من كل سوء . والمهد سن الطفولة والصبا - والكهولة السن التى يكون فى أعقاب سن الشباب . والمعنى اذكر يا عيسى نعمتى عليك وعلى والدتك ، وقت أن قويتك بروح القدس الذى تقوم به حجتك ، ووقت أن جعلتك تكلم الناس فى طفولتك بكلام حكيم لا يختلف عن كلامك معهم فى حال كهولتك واكتمال رجولتك . وقوله { إِذْ أَيَّدتُّكَ } ظرف لنعمتى . أى اذكر إنعامى عليكما وقت تأييدى لك . وذكر - سبحانه - كلامه فى حال الكهولة - مع أن الكلام فى هذه الحالة معهود فى الناس - للإِيذان بأن كلامه فى هاتين الحالتين - المهد والكهولة - كان على نسق واحد بديع صادر عن كمال العقل والتدبير ، دون أن يكون هناك فرق بين حالة الضعف وحالة القوة . قال الرازى وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له ، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده . وقال ابن كثير قوله { ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أى فى خلقى إياك من أم بلا ذكر ، وجعلى إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتى { وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ } حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة و { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } وهو جبريل ، وجعلتك نبيا داعيا إلى الله فى صغرك وكبرك . فأنطقتك فى المهد صغيراً فشهدت ببراءة أمك من كل عيب . واعترفت لى بالعبودية . وأخبرت عن رسالتى إياك ودعوتك إلى عبادتى ولهذا قال { تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } أى تدعو إلى الله الناس فى صغرك وكبرك . وضمّن { تكلم } معنى تدعو ، لأن كلامه الناس فى كهولته ليس بأمر عجيب " . وقوله { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - على عيسى . والمراد بالكتاب الكتابة . أى أن عيسى - عليه السلام - لم يكن أميا بل كان قارئا وكاتبا وقيل المراد به ما سبقه من كتب النبيين كزبور داود ، وصحف إبراهيم ، وأخبار الأنبياء الذين جاءوا من قبله . والمراد بالحكمة الفهم العميق للعلوم مع العمل بما فهمه وإرشاد الغير إليه . أى واذكر وقت أن علمتك الكتابة حتى تستطيع أن تتحدى من يعرفونها من قومك . ووقت أن علمتك { الحكمة } بحيث تفهم أسرار العلوم فهما سليما تفوق به غيرك ، كما علمتك أحكام الكتاب الذى انزلته على أخيك موسى وهو التوراة وأحكام الكتاب الذى أنزلته عليك وهو الإنجيل . ثم ذكر - سبحانه - بعض معجزات عيسى ، بعد أن بين بعض ما منحه من علم ومعرفة ، فقال { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } أى واذكر وقت أن وفقتك لأن تخلق أى تصور من الطين صورة مماثلة لهيئة الطير { فتنفخ فيها } أى فى تلك الهيئة المصورة { فتكون } أى فتصير تلك الهيئة المصورة { طَيْراً بِإِذْنِي } أى تصير كذلك بقدرتى وإرادتى وأمرى . ثم قال - تعالى { وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ } وهو الذى يولد أعمى وتبرئ كذلك { وَٱلأَبْرَصَ } وهو المريض بهذا المرض العضال { بِإِذْنِي } . وقوله { وتبرئ } معطوف على { تخلق } . وقوله { وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ } معطوف على قوله { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ } . أى واذكر وقت أن جعلت من معجزاتك أن تخرج الموتى من القبور أحياء ينطقون ويتحركون . وكل ذلك بإذنى ومشيئتى وإرادتى . وقد ذكر المفسرون أن إبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياءه للموتى كان عن طريق الدعاء ، وكان دعاؤه يا حى يا قيوم ، وذكروا من بين من أحياهم سام بن نوح . وبعد أن ذكر - سبحانه - بعض المعجزات التى أعطاها لعيسى لكى ينفع بها الناس ، أتبعها بذكر ما دفعه عنه من مضار فقال { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } . أى واذكر نعمتى عليك وقت أن صرفت عنك اليهود الذين أرادوا السوء ، وسعوا فى قتلك وصلبك مع أنك قد بشرتهم وأنذرتهم وجئتهم بالمعجزات الواضحات التى تشهد بصدقك فى نبوتك . وقوله { فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تذييل قصد به ذمهم وتسجيل الحقد والجحود عليهم . أى لقد أعطيناك يا عيسى ما أعطيناك من النعم والمعجزات لتكون دليلا ناطقا بصدقك ، وشاهداً يحمل الناس على الإِيمان بنبوتك ، ولكن الكافرين من بنى إسرائيل الذين أرسلت إليهم لم يصدقوا ما جئتهم به من معجزات واضحات ، بل سارعوا إلى كذيبك قائلين ما هذا الذى جئتنا به يا عيسى إلا سحر ظاهر ، وتخبيل بين . وهكذا نرى أن الكافرين من بنى إسرائيل ، لم تزدهم البينات التى جاء بها عيسى إلا جحوداً وعناداً . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله الحواريون لعيسى ، وما طلبوه منه ، مما يدل على إكرام الله - تعالى - لنبيه عيسى فقال { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ … }