Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 111-115)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال ابن كثير ما ملخصه وقوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } هذا أيضاً من الامتنان على عيسى ، بأن جعل الله له أصحاباً وأنصاراً - وهم الحواريون - والمراد بهذا الوحى الإِلهام كما فى قوله { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } وكما فى قوله { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } وقال بعض السلف فى هذه الآية { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } أى ألهموا ذلك فامتثلوا ما الهموا . فأنت ترى أن الإِمام ابن كثير يرى أن المراد بالوحى هنا الإِلهام . وعلى ذلك كثير من المفسرين ، ومنهم من يرى أن المراد بقوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } أى مرتهم فى الإِنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلى . قال الآلوسى معززاً هذا الرأى وقد جاء استعمال الوحى بمعنى الأمر فى كلام العرب ، كما قال الزجاج وأنشد @ الحمد لله الذى استقلت بإذنه السماء وأطمأنت أوحى لها القرار فاستقرت @@ أى أمرها أن تقر فامتثلت . والحواريون جمع حوارى . وهم أنصار عيسى الذين لازموه وآمنوا به وصدقوه . وكانوا عونا له فى الدعوة إلى الحق . يقال فلان حوارى فلان . أى خاصته من أصحابه . ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم فى الزبير بن العوام " لكل نبى حوارى وحوارى الزبير " . وأصل مادة " حور " الدلالة على شدة الصفاء ونصوع البياض ، ولذلك قالوا فى خالص لباب الدقيق الحوارى وقالوا فى النساء البيض الحواريات والحوريات . وقد سمى الله - تعالى - أنصار عيسى بالحواريين ، لأنهم أخلصوا لله نياتهم ، وطهروا نفوسهم من النفاق والخداع فصاروا فى نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص البياض . قال الراغب والحواريون أنصار عيسى - عليه السلام - قيل كانوا صيادين وقال بعض العلماء إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم . والمعنى اذكر نعمتى عليك - يا عيسى - حين { أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } بطريق الإِلهام أو بطريق الأمر على لسانك ، وقلت لهم { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } أى آمنوا وصدقوا بأنى أنا الواحد الأحد المستحق للعبادة والخضوع وآمنوا برسولى عيسى بأنه مرسل من جهتى لهدايتكم وسعادتكم . وفى ذكر كلمة { برسولي } إشارة إلى مقامه من الله - عز وجل - وانفصال شخصه عن ذات الله - سبحانه - وأن عيسى ما هو إلا رسول من رب العالمين وأن من زعموا أنه غير ذلك جاهلون وضالون . وقوله { قَالُوۤاْ آمَنَّا وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } حكاية لما نطق به الحواريون من إيمان وطاعة . أى أن الحورايين عندما دعوا إلى الدين الحق { قَالُوۤاْ آمَنَّا } بأن الله هو الواحد الأحد المستحق للعبادة وأنه لا والد له ولا ولد . ثم أكدوا إيمانهم هذا ، بأن قالوا { وَٱشْهَدْ } علينا يا آلهنا واشهد لنا يا عيسى يوم القيامة { بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أى منقادون لكل ما جئتنا به وما تدعونا إليه . وقدموا ذكر الإِيمان لأنه صفة القلب ، وأخروا ذكر الإِسلام لأنه عبارة عن الانقياد الظاهر فكأنهم قالوا لقد استقر الإيمان فى قلوبنا استقراراً مكينا ، كان من ثماره أن انقادت ظواهرنا لكل ما يأمرنا الله به على لسانك يا عيسى . قال الفخر الرازى ما ملخصه فإن قيل إنه - تعالى - قال فى أول الآية { ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ } ثم إن جميع ما ذكره - تعالى - من النعم مختص بعيسى ، وليس لأمه تعلق بشىء منها . قلنا كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم ولذلك قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر . وإنما ذكر - سبحانه قوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ } فى معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإِنسان مقبول القول عند الناس محبوباً فى قلوبهم ، من أعظم نعم الله على الإِنسان . وقد عدد عليه من النعم سبعاً { إِذْ أَيَّدتُّكَ } { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ } { وَإِذْ تَخْلُقُ } { وَإِذْ َتُبْرِىءُ } { وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ } { وَإِذْ كَفَفْتُ } { وَإِذْ أَوْحَيْتُ } ثم حكى - سبحانه - بعض ما دار بين عيسى وبين الحواريين فقال { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } . " المائدة " الخوان إذا كان عليه الطعام من ماد يميد ، إذا تحرك . فكأن المائدة تتحرك بما عليها . وقال أبو عبيدة سميت " مائدة " لأنها ميد بها صاحبها . أى أعطيها وتفضل عليه بها . والخوان ما يؤكل عليه الطعام . ويرى الأخفش وغيره أن المائدة هى الطعام نفسه ، مأخوذة من " ماده " إذا أفضل . و " إذ " فى قوله { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقت قول الحواريين يا عيسى ابن مريم . وقد ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه - كما حكى القرآن عنهم - لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا ألوهيته أو ولديته وقوله { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } فيه قراءتان سبعيتان الأولى { يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بالياء - على أنه فعل فاعل . وقوله { أَن يُنَزِّلَ } المفعول . والاستفهام على هذه القراءة محمول على المجاز ، لأن الحواريين كانوا مؤمنين ، ولا يعقل من مؤمن أن يشك فى قدرة الله . ومن تخرجاتهم فى معنى هذه القراءة أن قوله { يستطيع } بمعى " يطيع " والسين زائدة . كاستجاب وأجاب . أى أن معنى الجملة الكريمة هل يطيعك - ربك يا عيسى إن سألته أن ينزل علينا مائدة من السماء . وسنفصل القول فى تخريج هذه القراءة ، وفى اختلاف المفسرين فى إيمان الحواريين بعد انتهائنا من تفسير هذه الآيات الكريمة . أما القراءة الثانية فهى " هل تستطيع ربك " بالتاء وبفتح الباء فى " ربك " والمعنى هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء . فقوله " ربك " منصوب على التعظيم بفعل محذوف يقدر على حسب المقام وهذه القراءة لا إشكال فيها ، لأن الاستطاعة فيها متجهة إلى عيسى . أى أتستطيع يا عيسى سؤال ربك إنزال المائدة أم لا تستطيع ؟ قال القرطبى قراءة الكسائى وعلى وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بالنصب وقرأ الباقون بالياء " هل تستطيع " " ربك " بالرفع . والمعنى على قراءة الكسائى - بالتاء هل تستطيع أن تسأل ربك … قالت عائشة كان القوم أعلم بالله - تعالى - من أن يقولوا " هل يستطيع ربك " وقال معاذ أقرأنا النبى صلى الله عليه وسلم هل تستطيع ربك قال معاذ وسمعت النبى صلى الله عليه وسلم مراراً يقرأ بالتاء " . وقوله - سبحانه - { قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } حكاية لما رد به عيسى على الحواريين فيما طلبوه من إنزال المائدة أى قال لهم عيسى اتقوا الله وقفوا عند حدوده ، واملأوا قلوبكم هيبة وخشية منه ، ولا تطلبوا أمثال هذه المطالب إن كنتم مؤمنين حق الإِيمان ، فإن المؤمن الصادق فى إيمانه يبتعد ، عن أمثال هذه المطالب التى قد تؤدى إلى فتنته . ثم حكى القرآن ما رد به الحواريون على عيسى فقال { قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ } . أى قال الحواريون لعيسى إننا نريد نزول هذه المائدة علينا من السماء لأسباب أولها إننا نرغب فى الأكل منها لننال البركة ، ولأننا فى حاجة إلى الطعام بعد أن ضيق علينا أعداؤك وأعداؤنا الذين لم يؤمنوا برسالتك . وثانيها أننا نرغب فى نزولها لكى تزداد قلوبنا اطمئنانا إلى أنك صادق فيما تبلغه عن ربك ، فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالى ، مما يؤدى إلى رسوخ الإِيمان ، وقوة اليقين . وثالثها أننا نرغب فى نزولها لكى نعلم أن قد صدقتنا فى دعوة النبوة ، وفى جميع ما تخبرنا به من مأمورات ومنهيات ، لأن نزولها من السماء يجعلها تخالف ما جئتنا به من معجزات أرضية ، وفى ذلك ما فيه من الدلالة على صدقك فى نبوتك . ورابع هذه الأسباب أننا نرغب فى نزولها لكى نكون من الشاهدين على هذه المعجزة عند الذين لم يحضروها من بنى إسرائيل ، ليزداد الذين آمنوا منهم إيماناً ، ويؤمن الذى عنده استعداد للإِيمان . وبذلك نرى أن الحواريين قد بينوا لعيسى - كما حكى القرآن عنهم - أنهم لا يريدون نزول المائدة من السماء لأنهم يشكون فى قدرة الله ، أو فى نبوة عيسى أو أن مقصدهم من هذا الطلب التعنت . وإنما هم يريدون نزولها لتلك الأسباب السابقة التى يبغون من ورائها الأكل وزيادة الإِيمان واليقين والشهادة أمام الذين لم يحضروا نزولها بكمال قدرة الله وصدق عيسى فى نبوته . ثم حكى - سبحانه - ما تضرع به عيسى بعد أن سمع من الحواريين ما قالوه فى سبب طلبهم لنزول المائدة من السماء فقال - تعالى - { قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } . وقوله { اللهم } أى يا الله . فالميم المشددة عوض عن حرف النداء ، ولذلك لا يجتمعان . وهذا التعويض خاص بنداء الله ذى الجلال والإِكرام . وقوله { عيدا } أى سرورا وفرحا لنا ، لأن كلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور . قال القرطبى والعيد واحد الأعياد . أصله من عاد يعود أى رجع وقيل ليوم الفطر والأضحى عيد ، لأنهما يعودان كل سنة . وقال الخليل " العيد كل يوم يجمع الناس فيه كأنهم عادوا إليه ، وقال ابن الانبارى سمى عيدا للعود إلى المرح والفرح فهو يوم سرور " . والمعنى قال عيسى بضراعة وخشوع - بعد أن سمع من الحواريين حجتهم - { ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ } أى يا الله يا ربنا ومالك أمرنا ، ومجيب سؤالنا . أتوسل إليك أن تنزل علينا { مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أى أطعمة كائنة من السماء ، هذه الأطعمة { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } أى يكون يوم نزولها عيدا نعظمه ونكثر من التقرب إليك فيه نحن الذين شاهدناها ، ويكون - أيضاً - يوم نزولها عيداً وسروراً وبهجة لمن سيأتى بعدنا ممن لم يشاهدنا . قال ابن كثير . قال السدى أى نتخذ ذلك اليوم الذى نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا . وقال سفيان الثورى يعنى يوما نصلى فيه . وقال قتادة أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم . وقال سلمان الفارسى تكون عظة لنا ولمن بعدنا . وقوله { وَآيَةً مِّنْكَ } معطوف على قوله { عيداً } . أى تكون هذه المائدة النازلة من السماء عيداً لأولنا وآخرنا ، وتكون أيضاً - دليلا - وعلامة منك - سبحانك - على صحة نبوتى ورسالتى ، فيصدقونى فيما أبلغه عنك ، ويزداد يقينهم بكمال قدرتك . وقوله { وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } تذييل بمثابة التعليل لما قبله . أى أنزلها علينا يا ربنا وأزرقنا من عندك رزقا هنيئا رغداً ، فإنك أنت خير الرازقين ، وخير المعطين ، وكل عطاء من سواك لا يغنى ولا يشبع . وقد جمع عيسى فى دعائه بين لفظى " اللهم ربنا " إظهارا لنهاية التضرع وشدة الخضوع ، حتى يكون تضرعه أهلا للقبول والإِجابة . وعبر عن مجىء المائدة بالإنزال من السماء للإِشارة إلى أنها هبة رفيعة ، ونعمة شريفة ، آتية من مكان عال مرتفع فى الحسن والمعنى ، فيجب أن تقابل بالشكر لواهبها - عز وجل - وبتمام الخضوع والإِخلاص له . وقوله { تَكُونُ لَنَا عِيداً } صفة ثانية لمائدة ، وقوله { لنا } خبر كان وقوله { عيداً } حال من الضمير فى الظرف . قال الفخر الرازى تأمل فى هذا الترتيب ، فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا فى طلبها أغراضا ، فقدموا ذكر الأكل فقالوا { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } وأخروا الأغراض الدينية الروحانية . فأما عيسى فإنه لما ذكر المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال { وَٱرْزُقْنَا } وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح فى كون بعضها روحية ، وبعضها جسمانية . ثم إن عيسى لشدة صفاء دينه لما ذكرالرزق انتقل إلى الرازق بقوله { وَٱرْزُقْنَا } لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } فقوله { ربنا } ابتداء منه بذكر الحق . وقوله { أَنزِلْ عَلَيْنَا } انتقال من الذات إلى الصفات . وقوله { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة ، بل من حيث إنها صادرة من المنعم . وقوله { وَآيَةً مِّنْكَ } إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال . وقوله { وَٱرْزُقْنَا } إشارة إلى حصة النفس . ثم قال الإِمام الرازى فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون . ثم قال { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ، ومن غير الله إلى الله ، وعند ذلك تلوح لك سمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية إلى الكمالات الإِلهية ونزولها . ثم ختم - سبحانه - حديثه عن هذه المائدة وما جرى بشأنها بين عيسى والحواريين من أقوال فقال - تعالى - { قَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ } . وقوله { منزلها } ورد فيه قراءتان متواتران . إحداهما منزلها - بتشديد الزاى - من التنزيل وهى تفيد التكثير أو التدريج كما تنبئ عن ذلك صيغة التفعيل . وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وعاصم ونافع . وقرأ الباقون { منزلها } بكسر الزاى - من الإِنزال المفيد لنزولها دفعة واحدة . والمعنى قال الله - تعالى - إنى منزل عليكم المائدة من السماء إجابة لدعاء رسولى عيسى - عليه السلام - { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } أى فمن يكفر بعد نزولها منكم أيها الطالبون لها { فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ } أى فإن الله - تعالى - يعذب هذا الكافر بآياته عذاباً لا يعذب مثله أحداً من عالمى زمانه أو من العالمين جميعاً . وقد أكد - سبحانه - عذابه للكافر بآيات الله بعد ظهورها وقيام الأدلة على صحتها بمؤكدات منها حرف إن فى قوله { فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ } ومنها المصدر فى قوله { فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً } إذ المفعول المطلق هنا لتأكيد وقوع الفعل وهو العذاب . ومنها وصف هذا العذاب بأنه لا يعذب مثله لأحد من العالمين . وهذه المؤكدات لوقوع العذاب على الكافر بآيات الله بعد وضوحها من أسبابه أن الكفر بعد إجابة ما طلبوه ، وبعد رؤيته ومشاهدته وبعد قيام الأدلة على وحدانية الله وكمال قدرته ، وبعد ظهور البراهين الدالة على صدق رسوله . أقول الكفر بعد كل ذلك يكون سببه الجحود والعناد والحسد ، والجاحد والمعاند والحاسد يستحقون أشد العذاب ، وأعظم العقاب . هذا ، وهنا مسألتان تتعلقان بهذه الآيات الكريمة ، نرى من الخير أن نتحدث عنهما بشىء من التفصيل . المسألة الأولى آراء العلماء فى إيمان الحواريين وعدم إيمانهم . المسألة الثانية آراء العلماء فى نزول المائدة وعدم نزولها . وللاجابة على المسألة الأولى نقول لعل منشأ الخلاف فى إيمان الحواريين وعدم إيمانهم مرجعه إلى قولهم لعيسى - كما حكى القرآن عنهم - { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } ؟ فإن هذا القول يشعر بشكهم فى قدرة الله على إنزال هذه المائدة . وقد ذهب فريق من العلماء - وعلى رأسهم الزمخشرى - إلى عدم إيمانهم ، وجعلوا الظرف فى قوله { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ } متعلقا بقوله قبل ذلك { قَالُوۤاْ آمَنَّا وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } . أى أنهم قالوا لعيسى آمنا واشهد بأننا مسلمون ، فى الوقت الذى قالوا له فيه { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } فكأنهم ادعوا الإِيمان والاسلام ادعاء بدون إيقان وإذعان ، وإلا فلو كانوا صادقين فى دعواهم لما قالوا لعيسى بأسلوب الاستفهام { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } . قال صاحب الكشاف فإن قلت كيف قالوا { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بعد إيمنهم وإخلاصهم ؟ قلت ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى ادعاءهم لهما ، ثم اتبعه بقوله وَإِذْ قَالُواْ فإذن دعواهم كانت باطلة ، وانهم كانوا شاكين ، وقوله { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم . وكذلك قول عيسى لهم معناه اتقوا الله ولا تشكوا فى اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا عليه ولا تحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها { إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أى إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة . وذهب جمهور العلماء إلى أن الحواريين عندما قالوا لعيسى { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } كانوا مؤمنين واستدلوا على ذلك بأدلة منها 1 - أن الظرف فى قوله { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ } ليس متعلقا بقوله { قَالُوۤاْ آمَنَّا } وإنما هو منصوب بفعل مضمر تقديره اذكر ، وهذا ما رجحه العلامة أبو السعود فى تفسيره فقد قال قوله { إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ } كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام - وبين قومه منقطع عما قبله ، كما ينبئ عنه الإِظهار فى موضع الاضمار وإذ منصوب بمضمر . وقيل هو ظرف لقالوا أريد به التنبيه على أن ادعاءهم الإيمان والإخلاص لم يكن عن تحقيق وإيقان ولا يساعده النظم الكريم " . 2 - أن قول الحواريين لعيسى { َلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } لا يسحب عنهم الإِيمان ، وقد خرج العلماء قولهم هذا بتخريجات منها . أ أن قولهم لم يكن من باب الشك فى قدرة الله ، وإنما هو من باب زيادة الاطمئنان عن طريق ضم علم المشاهدة إلى العلم النظرى بدليل أنهم قالوا بعد ذلك { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } . وشبيه بهذا قول إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } قال القرطبى ما ملخصه " الحواريون خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم ، وقد كانوا عالمين باستطاعة الله لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ، كما قال إبراهيم { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } وقد كان إبراهيم علم ذلك علم خبر ونظر ، ولكن أراد المعاينة التى لا يدخلها ريب ولا شبهة لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة ، لا يدخله شىء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } كما قال إبراهيم { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ب أن السؤال إنما هو الفعل لا عن القدرة عليه ، وقد بسط الآلوسى هذا المعنى فقال إن معنى { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هل يفعل ربك كما تقول للقادر على القيام هل تستطيع أن تقوم معى مبالغة فى التقاضى . والتعبير عن الفعل بالاستطاعة ، من باب التعبير عن المسبب بالسبب ، إذ هى - أى الاستطاعة - من أسباب الإيجاد . جـ أن الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة - كما سبق أن أشرنا - ويشهد لذلك قول الفخر الرازى قال السدى قوله { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } أى هل يطيعك ربك إن سألته . وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة . والذى نراه أن رأى الجمهور أرجح للأدلة التى ذكرناها ، ولأن الله - تعالى - قد ذكر قبل هذه الآية أنه قد امتن عليهم بإلهامهم الإِيمان فقال { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين لكشف الله عن حقيقتهم ، فقد جرت سنته - سبحانه - مع أنبيائه أن يظهر لهم نفاق المنافقين حتى يحذروهم . ولأنهم لو كانوا غير مؤمنين ، لما أمر الله أتباع النبى صلى الله عليه وسلم بالتأسى بهم فى إخلاصهم ورسوخ يقيتهم قال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ } وقال - تعالى - { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } فهاتان الآيتان صريحتان فى مدح الحواريين وفى أنهم قوم التفوا حول عيسى - عليه السلام - وناصروه مناصرة صادقة ، وآمنوا به إيمانا سليما من الشك والتردد . وأما المسألة الثانية وهى آراء العلماء فى نزول المائدة فالجمهور على أنها نزلت . وقد رجح ذلك ابن جرير فقال ما ملخصه والصواب من القول عندنا فى ذلك أن يقال إن الله أنزل المائدة … لأن الله لا يخلف وعده ، ولا يقع فى خبره الخلف وقد قال - تعالى - مخبرا فى كتابه عن إجابة نبيه عيسى حين سأله ما سأله من ذلك { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } وغير جائز أن يقول الله إنى منزلها عليكم ثم لا ينزلها ، لأن ذلك منه - تعالى - خبر ، ولا يكون منه خلاف ما يخبر . وقد علق ابن كثير على ما رجحه ابن جرير فقال وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب ، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم . ومن الآثار ما خرجه الترمذى عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحما ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخهم قردة وخنازير " . قال الترمذى وقد روى عن عمار من طريق موقوفا وهو أصح . وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم قالوا له ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء . قال فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها . عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة . فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم . والذى يراجع بعض كتب التفسير يرى كلاما كثيراً عما كان على المائدة من أصناف الطعام ، وعن كيفية نزولها ومكانه ، وعن كيفية استقبالها وكشف غطائها ، والأكل منها والباقى عليها بعد الأكل . وهذا الكلام الكثير رأينا من الخير أن نضرب عنه صفحا ، لضعف أسانيده ، ولأنه لا يخلو عن غرابة ونكارة - كما قال ابن كثير - فقد ذكر - رحمه الله - أثرا طويلا فى هذا المعنى ثم قال فى نهايته هذا أثر غريب جدا قطعه ابن حاتم فى مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم " . ويعجبنى فى هذا المقام قول ابن جرير وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة ، فأن يقال كان عليها مأكول . وجائز أن يكون هذا المأكول سمكا وخبزاً ، وجائز أن يكون من ثمر الجنة ، وغير نافع العلم به ، ولا ضار الجهل به ، إذا أقر تالى الآية بظاهر ما احتمله التنزيل . ويرى الحسن ومجاهد أن المائدة لم تنزل ، فقد روى ابن جرير - بسنده - عن قتادة قال كان الحسن يقول لما قيل لهم { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } قالوا لا حاجة لنا فيها فلم تنزل . وروى منصور بن زادان عن الحسن أيضاً أنه قال فى المائدة إنها لم تنزل . وروى ابن أبى حاتم وابن جرير عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد قال هو مثل ضربه الله ولم ينزل شىء . أى مثل ضربه الله للناس نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه . قال الحافظ ابن كثير وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى . ولس فى كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوفر الدواعى على نقله . وكان يكون موجوداً فى كتابهم متواتراً ولا أقل من الآحاد " . وقد علق بعض العلماء على كلام ابن كثير هذا فقال ولنا أن نقول إن هذا الاستدلال إن كان يعنى عدم نزولها فقط ، فقد يكون له شىء من الوجاهة وإن كان يعنى أنها لا تنزل ولم يسأل ، فهو محل نظر كبير ، لأن السؤال مالم ينته بإجابة كونية فعلية تبرز بها المائدة للناس ويرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم فلا يعد بذلك مما تتوافر الدواعى على نقله ، لا سيما وعيسى فى بيئة محصورة جماعة سألوا وأجيبوا ، وانتهى الأمر برجوعهم عما سألوا فعدم تواتر سؤالها فى كتب النصارى أو عدم وجوده فيها لا يستغرب كما يستغرب الأمر فيما لو نزلت المائدة فعلا ورآها الناس فعلا وأكلوا منها . وتذوقوا طعامها ، ولم يذكر عن ذلك شىء . وقد ذكر القرآن هذه الحقيقة ابتداء وانفرد بها عن سائر الكتب ، ولا يلزم أن يكون كل ما قصه الله - تعالى - فى القرآن قد قصه فى غيره من الكتب المتقدمة ، ولا أن أصحاب الأناجيل علموا بكل شىء حتى بمثل هذه المحاورة الخاصة التى لم تنته بحادث كونى حتى يكون عدم ذكرهم إياها فى أنا جيلهم - التى وضعوها - دليلا على عدم سؤالها . فقصة السؤال إذن لم ترد فيما عند النصارى ولكنها وردت فيما عند المسلمين . ومن الجائز أن تكون مما ورد فى الأناجيل ، وأن تكون مما أخفاه أهل الكتاب أو ضاع منهم علمه بسبب ما . والقرآن كما وصف نفسه مهيمن على كتبهم التى وصفها بأنهم حرفوها وأنهم كانوا يخفون كثيراً منها ، وأنه يبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون " . هذا ومما سبق يتبين لنا أن العلماء متفقون على أن الحواريين قد سألوا عيسى أن يدعو ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء ، وأن عيسى قد دعا ربه فعلا أن ينزلها ، كما جاء فى الآية الكريمة . ومحل الخلاف بينهم أنزلت أم لا ؟ فالجمهور يرون أنها نزلت لأن الله وعد بذلك فى قوله { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } والحسن ومجاهد يريان أنها لم تنزل ، لأن الوعد بنزولها مقيد بما رتب على من وقوع العذاب بهم إذا لم يؤمنوا بعد نزولها ، وأن القوم بعد أن سمعوا هذا الشرط قالوا لا حاجة لنا فيها . فلم تنزل . ويبدو لنا أن رأى الجمهور أقرب إلى الصواب ، لأن ظاهر الآيات يؤيده ، وكذلك الآثار التى وردت فى ذلك . ثم حكت السورة الكريمة ما سيقوله الله لعيسى يوم القيامة ، وما سيرد به عيسى على خالقه - عز وجل - حتى تزداد حسرة الذين وصفوا المسيح وأمه . بما هما بريئان منه فقال - تعالى - { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ … }