Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 20-26)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه الآيات الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من جبن شديد ، وعزيمة خوارة ، وعصيان لرسلهم . وإيثار للذلة مع الراحة على العزة مع الجهاد وهى تحكى بأسلوبها البليغ قصة تاريخية معروفة ، وملخص هذه القصة أن بنى إسرائيل بعد أن ساروا مع نبيهم موسى - عليه السلام - إلى بلاد الشام ، عقب غرق فرعون أمام أعينهم . أوحى الله - تعالى - إلى موسى أن يختار من قومه اثنى عشر نقيبا ، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة التى كان يسكنها الكنعانيون حينئذ . ليتحسسوا أحوال سكانها ، وليعرفوا شيئا من أخبارهم . وقد أشار القرآن قبل ذلك إلى هذه القصة بقوله { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } ولقد نفذ موسى - عليه السلام - ما أمره به ربه - سبحانه - ، وكان مما قاله موسى للنقباء عند إرسالهم لمعرفة أحوال سكان الأرض المقدسة " لا تخبروا أحد سواى عما ترونه " . فلما دخل النقباء الأرض المقدسة ، واطلعوا على أحوال سكانها . وجدوا منهم قوة عظيمة ، وأجساما ضخمة … فعاد النقباء إلى موسى وقالوا له - وهو فى جماعة من بنى إسرائيل - قد جئنا إلى الأرض التى بعثتنا إليها ، فإذا هى فى الحقيقة تدر لبنا وعسلا ، وهذا شىء من ثمارها ، غير أن الساكنين فيها أقوياء ، ومدينتهم حصينة . وأخذ كل نقيب منهم ينهى سبطه عن القتال . إلا اثنين منهم ، فإنما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى - عليه السلام - وبقتال الكنعانيين معه . ولكن بنى إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين ، وأطاعوا أمر بقية النقباء العشرة " وأصروا على عدم الجهاد ، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا يا ليتنا متنا فى مصر أو فى هذه البرية . وحاول موسى - عليه السلام - أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان وأن يحملهم على قتال الجبارين ولكنهم عموا وصموا . وأوحى الله - تعالى - إلى موسى أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض جزاء عصيانهم وجبنهم . هذا هو ملخص هذه القصة كما وردت فى كتب التفسير والتاريخ . وقد حشا بعض المفسرين كتبهم بأوصاف للجبارين - الذين ورد ذكرهم فى الآيات الكريمة - لا تقبلها العقول السليمة ، وليس لها أصل يعتمد عليه بل هى مما يستحى من ذكره كما قال ابن كثير . هذا ، وقوله - تعالى - { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان بعض ما فعله بنو إسرائيل من رذائل بعد أخذ الميثاق عليهم ، وتفصيل لكيفية نقضهم لهذا الميثاق . و إذا ظرف للزمن الماضى بمعنى وقت . وهو مفعول به لفعل ملاحظ فى الكلام ، تقديره اذكر . وقد خوطب بهذا الفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق قرينة الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ، ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من جنايات . أى واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك ، قول موسى لآبائهم على سبيل النصح والإِرشاد يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . أى تذكروا إنعامه عليكم بالشكر والطاعة . والمراد بذكر الوقت تذكر ما حدث فيه من وقائع وخطوب . قال أبو السعود وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت ، دون ما وقع فيه من حوادث ، - مع أنها هى المقصودة ، لأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا " . وفى قول موسى لهم - كما حكى القرآن عنه - { يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } تلطف معهم فى الخطاب ، وحمل لهم على شكر النعمة ، واستعمالها فيما خلقت له لكى يزيدهم الله منها . وفيه كذلك تذكير لهم بما يربطهم به من رابطة الدم والقرابة التى تجعله منهم ، يهمه ما يهمهم ، ويسعده ما يسعدهم ، فهو يوجه إليهم ما هو كائن لهدايتهم وسعادتهم . وقوله - تعالى - { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ } بيان لنعم ثلاث أسبغها الله عليهم . أما النعمة الأولى فهى جعل كثير من الأنبياء فيهم كموسى وهارون ، واسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، - عليهم السلام - . وقد أرسل الله - تعالى - هؤلاء الأنبياء وغيرهم فى بنى إسرائيل ، لكى يخرجوهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والطاعة والإِيمان . والتنكير فى قوله { أَنْبِيَآءَ } للتكثير والتعظيم . أى تذكروا يا بنى إسرائيل نعم الله عليكم ، وأحسنوا شكرها ، حيث جعل فيكم أنبياء كثيرين يهدونكم إلى الرشد . قال صاحب الكشاف " لم يبعث الله فى أمة ما بعث فى بنى إسرائيل من الأنبياء " . وأما النعمة الثانية فهى جعلهم ملوكا . أى جعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه ، الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب . أى جعلكم تملكون المساكن وتستعملون الخدم ، بعد أن كنتم لا تملكون شيئاً من ذلك وأنتم تحت سيطرة فرعون وقومه . قال الآلوسى " أخرج البخارى عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل فقال ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله ألك زوجة تأوى إليها ؟ قال نعم ، قال ألك مسكن تسكنه ؟ قال نعم . قال فأنت من الأغنياء . قال الرجل فإن لي خادما . قال عبد الله فأنت من الملوك " . واخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا " . وهذه النعمة - أى نعمة الحرية بعد الذل ، والسعة بعد الضيق - من النعم العظمى التى لا يقدرها ويحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة ، التى تعاف الظلم ، وتأبى الضيم ، وتحسن الشكر لله - تعالى - . قال صاحب الانتصاف فإن قلت فلماذا لم يقل إذ جعلكم أنبياء ، كما قال { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } ؟ قلت لأن النبوة مزية غير الملك . وآحاد الناس يشارك الملك فى كثير مما به صار الملك ملكا ، ولا كذلك النبوة ، فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته فى مزيتها وخصوصيتها ونعتها ، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك " . وأما النعمة الثالثة فهى أنه - سبحانه - آتاهم من ألوان الإِكرام والمنن ما لم يؤت أحدا من عالمى زمانهم . فقد فلق لهم البحر فساروا فى طريق يابس حتى نجوا وغرق عدوهم . وأنزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات ، وفجر لهم من الحجر اثنتى عشرة عينا حتى يعلم كل أناس مشربهم … إلى غير ذلك من ألوان النعم التى حباهم الله - تعالى - بها ، والتى كانت تستلزم منهم المبادرة إلى امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه . قال الآلوسى و " أل " فى { ٱلْعَٱلَمِينَ } للعهد والمراد عالمى زمانهم . أو للاستغراق والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه ، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية ، لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبنى إسرائيل ، فوجود خطاب فى الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم " . وبعد هذا التذكير بالنعم ، وجه إليهم نداء ثانيا طلب منهم فيه دخول الأرض المقدسة فقال - كما حكى القرآن عنه { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } . ومعنى المقدسة المطهرة المباركة بسبب أنها كانت موطنا لكثير من الأنبياء . والمراد بها . بيت المقدس وقيل المراد بها اريحاء وقيل الطور وما حوله . قال ابن جرير وهى لا تخرج عن أن تكون من الأرض التى ما بين الفرات وعريش مصر ، لإجماع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك " . ومعنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قدر لكم سكناها ، ووعدكم إياها متى آمنتم به وأطعتم أنبياءه ، أو معناه فرض عليكم دخولها وأمركم به كما أمركم بأداء الصلاة والزكاة - وسنفصل القول فى هذه المسألة بعد تفسيرنا للآيات - . ومفعول كتب محذوف . أى كتب لكم أن تدخلوها وفرض عليكم دخولها لإِنقاذكم من الأهوال التى نزلت بكم فى أرض مصر من فرعون وجنده . وقد تعدى فعل كتب هنا باللام دون على ، للإِشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لمنفعتهم ولعزتهم ورفعة شأنهم . وفى تكرير النداء من موسى لهم بقوله { يَاقَوْمِ } مبالغة فى حثهم على الامتثال لما يأمرهم به ، وتنبيه إلى خطر ما يدعوهم إليه وعظم شأنه . وقوله { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فيه حض شديد لهم على الاستجابة لأمره ، وإغراء لهم بالنصر والفوز ، لأن الذى كتب لهم أن يدخلوها متى آمنوا وأطاعوا هو الله الذى لا معقب لحكمه . قال الإِمام الرازى فى قوله { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فائدة عظيمة . وهى أن القوم كانوا جبارين إلا أن الله - تعالى - لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم ، فإن كان مؤمنين مقرين بصدق موسى - عليه السلام - علموا قطعا أن الله ينصرهم عليهم ، فلا بد وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع " . وقوله - تعالى - { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحذير لهم من الجبن والإِحجام ، بعد ترغيبهم الشديد فى الشجاعة والإِقدام . وقوله ترتدوا من الارتداد وهو الرجوع إلى الخلف . و الأدبار جمع دبر وهو الظهر . وهذا التعبير استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه ، يحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء ، بدل أن يسير بوجهه إلى الأمام . وهذا التعبير يصور قبح الجبن والتخاذل حسا ومعنى . وقوله فتنقلبوا من الانقلاب بمعنى الرجوع والانصراف عن الشىء وهو مجزوم عطفا على فعل النهى وهو { وَلاَ تَرْتَدُّوا } . والمعنى أمضوا أيها القوم لأمر الله ، وسيروا خلفى لقتال الأعداء ودخول الأرض المقدسة التى أمركم - سبحانه - بدخولها ، ولا ترجعوا القهقرى منصرفين عن القتال خوفا من أعدائكم ، ومبتعدين عن طاعتى وأمرى ، فإن ذلك يؤدى بكم إلى الخسران فى الدنيا والآخرة ، وإلى الحرمان من خيرات الأرض التى أوجب الله عليكم دخولها . قال ابن جرير فإن قال قائل وما كان وجه قيل موسى لقومه إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } . أو يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضا جعلت له ؟ قيل إن الله - تعالى - كان أمره بقتال من فيها من أهل الكفر به ، وفرض عليهم دخولها ، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم فرض الله عليهم من وجهين أحدهما تضييع فرض الجهاد الذى كان الله فرضه عليهم . والثانى مخالفتهم أمر الله فى تركهم دخول الأرض المقدسة " . هذا ، وقد جاءت هذه الجملة الكريمة ، وهى قوله - تعالى - { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } تحمل طابع التحذير الشديد ، وتنذرهم بالخسران المبين إذا لم يستجيبوا لأمر الله بعد أن ساق لهم موسى ألوانا من المشجعات والمرغبات فى الجهاد ، وذلك لأنه - عليه السلام - كان متوقعاً منهم الإِحجام عن القتال ، بعد أن جرب عنادهم وعصيانهم ونكوصهم على أعقابهم فى مواطن كثيرة ، فهذه التجارب جعلته وهو يأمرهم بدخول الأرض المقدسة يذكر لهم أكبر النعم ويسوق لهم أكرم الذكريات وأقوى الضمانات وأشد التحذيرات لكى يقبلوا على الجهاد بعزيمة صادقة . ولكن بنى إسرائيل هم بنو إسرائيل ، مهما قيل لهم من ألوان الترغيب والترهيب فإن همتهم الساقطة وعزيمتهم الخائرة ، وطبيعتهم المنتكسة لم تتركهم فقد قالوا لنبيهم متذرعين بالمعاذير الكاذبة { يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } وقوله { جَبَّارِينَ } جمع جبار " والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثى . ويطلق فى اللغة على الطويل القوى العاتى الذى يجير غيره على ما يريد . مأخوذ من قولهم مخلة جبارة أى طويلة لا ينال ثمرها بالأيدى . أى قال بنو إسرائيل لنبيهم موسى - عليه السلام - إن الأرض التى وعدتنا بدخولها فيها قوم متغلبون على من يقاتلهم ، ولا قدرة لنا على لقائهم وإنا لن ندخل هذه الأرض المقدسة التى أمرتنا بدخولها ما دام هؤلاء الجبارين فيها ، فإن يخرجوا منها لأى سبب من الأسباب التى لا شأن لنا بها ، فنحن على استعداد لدخولها فى راحة ويسر ، وبلا أدنى تعب أو جهد . ولا شك أن قولهم هذا الذى حكته الآية الكريمة عنهم ليدل على منتهى الجبن والضعف ، لأنهم لا يريدون أن ينالوا نصرا باستخدام حواسهم البدنية أو العقلية ، وإنما يريدون أن ينالوا ما يبغون بقوة الخوارق والآيات ، وأمة هذا شأنها لا تستحق الحياة الكريمة ، لأنها لم تقدم العمل الذى يؤهلها لتلك الحياة وفى ندائهم لنبيهم باسمه مجرداً { قَالُوا يَامُوسَىٰ } سوء أدب منهم معه ، حيث استهانوا بمقام النبوة فنادوه باسمه حتى يكف عن دعوتهم إلى الجهاد . وفى قولهم { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا } امتناع عن القتال بإصرار شديد ، حيث أكدوا عدم دخولهم بحرف النفى لن وجعلوا غاية النفى أن يخرج الجبارون منها ، مع أن خروجهم منها بدون قتال أمر مستبعد ، وهم لا يريدون قتالا ، بل يريدون دخولا من غير معاناة ومجاهدة . ثم بين القرآن بعد ذلك أن رجلين مؤمنين منهم قد استنكروا إحجام قومهم عن الجهاد ، وحرضاهم على طاعة نبيهم فقال { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } والمراد بالرجلين يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، وكانا من الاثنى عشر نقيباً . وقد وصف الله - تعالى - هذين الرجلين بوصفين . أولهما قوله { مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ } أى من الذين يخافون الله وحده ويتقونه ولا يخافون سواه وفى وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه - تعالى - بل يخافون العدو . وقيل المعنى من الذين يخافون الأعداء ويقدرون قوتهم إلا أن الله - تعالى - ربط على قلبيهما بطاعته . فجعلهما يقولان ما قالا الوصف الثانى فهو قوله { أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا } فهذه الجملة صفة ثانية للرجلين . أى قال رجلان موصوفان بأنهما من الذين يخافون الله - تعالى - ولا يخافون سواه ، وبأنهما من الذين أنعم الله عليهما بالإِيمان والتثبيت والثقة بوعده ، والطاعة لأمره قالا لقومهما . ادخلوا عليهم الباب . هذا ، وقد ذكر صاحب الكشاف وغيره وجها ثالثا فقال ويجوز أن تكون الواو فى قوله { يَخَافُونَ } - لبنى إسرائيل . والراجع إلى الموصول محذوف . والتقدير قال رجلان من الذين يخاف بنو إسرائيل منهم ، - وهم الجبارون - وهما رجلان منهم " أنعم الله عليهما " بالإِيمان فآمنا ، قالا لهم إن العمالقة أجسام لا قلوب فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم ، يشجعانهم على قتالهم . وقراءة من قرأ يخافون - يضم الياء - شاهدة له . وكذلك . أنعم الله عليهما " . والذى نراه أن الرأى الأول أرجح وهو أن الرجلين من بنى إسرائيل ، وأن قوله - تعالى - { مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا } صفتان للرجلين وأن مفعول يخافون محذوف للعلم به وهو الله - تعالى - أى يخافون الله ويخشون لأن هذا هو الظاهر من معنى الآية ، وهو الذى صدر به المفسرون تفسيرهم للآية ، ولأنه لم يرد نص يعتمد عليه فى أن أحد الجبارين قد آمن وحرض بنى إسرائيل على قتال قومه ، بينما وردت الآثار فى بيان اسمى الرجلين وأنهما كانا من الاثنى عشر نقيبا - كما سبق أن ذكرنا - وقوله - تعالى - { ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } تشجيع من الرجلين لقومهما ليزيلا عنهم الخوف من قتال الجبارين . أى قال الرجلان اللذان يخافان الله لقومهما ادخلوا على أعدائكم باب مدينتهم وفاجئوهم بسيوفكم ، وباغتوهم بقتالكم إياهم ، فإذا فعلتم ذلك أحرزتم النصر عليهم ، وأدركتم الفوز ، فإنه " ما غزى قوم فى عقر دارهم إلا ذلوا " . قال صاحب الكشاف فإن قلت من أين علما أنهم غالبون ؟ قلت من جهة إخبار موسى بذلك . ومن جهة قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وقيل من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله فى نصرة رسله ، وما عهدوا من صنع الله لموسى فى قهر أعدائه ، وما عرفا من حال الجبابرة " . وقوله - تعالى - { وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } دعوة من الرجلين المؤمنين لقومها ، بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب ، وأن يعقدوا عزمهم على دخول الباب على أعدائهم ، إن كانوا مؤمنين حقا ، فإن النصر يحتاج إلى تأييد من الله - تعالى - لعباده ، وإلى توكل عليه وحده ، وإلى عزيمة صادقة ، ومباشرة للأسباب التى توصل إليه . ولكن هذه النصيحة الحكيمة من هذين الرجلين المؤمنين ، لم تصادف من بني إسرائيل قلوبا واعية ، ولا آذانا صاغية بل قابلوها بالتمرد والعناد وكرروا لنبيهم موسى عليه السلام - نفيهم القاطع للإِقدام على دخول الأرض المقدسة ما دام الجبارون فيها فقالوا - كما حكى القرآن عنهم { يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا } . أى قالوا غير عابئين بالنصيحة . بل معلنين العصيان والمخالفة يا موسى إنا لن ندخل هذه الأرض التى أمرتنا بدخولها فى أى وقت من الأوقات ، ما دام أولئك الجبارون يقيمون فيها ، لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم . وقد أكدوا امتناعهم عن دخول هذه الأرض فى هذه المرة بثلاث مؤكدات ، هى إن ، ولن ، وكلمة أبدا . أى لن ندخلها بأى حال من الأحوال ما دام الجبارون على قيد الحياة ويسكنون فيها . ثم أضافوا إلى هذا القول الذى يدل على جبنهم وخورهم ، سلاطة فى اللسان ، وسوء أدب فى التعبير ، وتطاولا على نبيهم فقالوا { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . أى إذا كان دخول هذه الأرض يهمك أمره ، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم منها لأنه - سبحانه - ليس ربا لهم - فى زعمهم - إن كانت ربوبيته تكلفهم قتال سكان تلك الأرض . وقولهم { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } تأكيد منهم لعدم دخولهم لتلك الأرض المقدسة . أى إنا ها هنا قاعدون فى مكاننا لن نبرجه ، ولن نتقدم خطوة إلى الأمام لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين فنحن فى غنى عنه ، ولا رغبة لنا فيه . وإن هذا الوصف الذى وصفوا به أنفسهم ، ليدل على الخسة وسقوط الهمة ، لأن القعود فى وقت وجوب النشاط للعمل الصالح يؤدى بصاحبه إلى المذمة ، والمذلة ، قال - تعالى - ذمٍّا لأمثالهم { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } قال الآلوسى ما ملخصه وقوله - تعالى - حكاية عنهم { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ } قالوا ذلك استهانة واستهزاء به - سبحانه - وبرسوله موسى وعدم مبالاة . وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم ، وقسوة قلوبهم والمقابلة { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . ولم يذكروا أخاه هارون ولا الرجلين اللذين قالا ، كأنهم لم يجزموا بذهابهم ، أو يعبأوا بقتالهم وأرادوا بالعقود عدم التقدم لا عدم التأخر ثم قصت علينا السورة الكريمة أن موسى - عليه السلام - بعد أن رأى من قومه ما رأى من عناد وجبن ، لجأ إلى ربه يشكو إليه منهم ، يلتمس منه أن يفرق بينه وبينهم ، فقال { رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } . أى قال موسى باثا شكواه وحزنه إلى الله ، ومعتذرا إليه من فسوق قومه وسفاهتهم وجبنهم رب إنك تعلم أنى لا أملك لنصرة دينك أمر أحد ألزمه بطاعتك سوى أمر نفسى ، وأمر أخى هارون ، ولا ثقة لى فى غيرنا أن يطيعك فى العسر واليسر والمنشط والمكره . ولم يذكر الرجلين اللذين قالا لقومهما فيما سبق { ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ } لعدم ثقتة الكاملة فى دخولهما معه أرض الجبارين ، وفى وقوفهما بجانبه عند القتال إذا تخلى بقية القوم عنه فإن بعض الناس كثيرا ما يقدم على القتال مع الجيش الكبير ، ولكنه قد يحجم إذا رأى أن عدد المجاهدين قليل . ومن هنا لم يذكر أنه يملك أمر هذين الرجلين كما يملك أمر نفسه وامر أخيه . وصرح موسى - عليه السلام - بأنه يملك أمر أخيه هارون كما يملك أمر نفسه ، لمؤازرته التامة له فى كفاحه ظلم فرعون ، ولوقوفه إلى جانبه بعزيمة صادقة فى كل موطن من مواطن الشدة وليقينه بأنه مؤيد بروح من الله - تعالى . قال صاحب الكشاف فإن قلت أما كان معه الرجلان المذكوران ؟ قلت كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحية من أحوال قومه ، وتلونهم وقسوة قلوبهم فلم يذكر إلا النبى المعصوم الذى لا شبهة فى أمره . ويجوز أن يكون قال ذلك لفرط ضجره عندما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه . ويجوز أن يريد ومن يؤاخينى على دينى . هذا وقد ذكر النحويون وجوها من الإِعراب لقوله وأخى منها أنه منصوب عطفا على قوله نفسى أى ولا أملك إلا أخى مع ملكى نفسى دون غيرهما . وقوله - تعالى - { فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } بيان لما يرجوه موسى من ربه - عز وجل - بعد أن خرج بنو إسرائيل عن طاعته . والفاء هنا لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله . والفرق معناه الفصل بين شيئين . والمعنى قال موسى مخاطباً ربه لقد علمت يا إلهى أنى لا أملك لنصرة دينك إلا أمر نفسى وأمر أخى ، أما قومى فقد خرجوا عن طاعتى وفسقوا عن أمرك وما دام هذا شأنهم فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل ، بأن تحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون فإنك أنت الحكم العدل بين العباد . وهذا الرجاء من موسى لربه فى معنى الدعاء عليهم بسبب جبنهم وعصيانهم وقد أجاب الله - تعالى - دعاءه فيهم ، بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا وجاء الحكم الفاصل ممن يملكه فقال - تعالى - { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } . وقوله { يَتِيهُونَ } من التيه وهو الحيرة . يقال تاه يتيه ويتوه إذا تحير وضل الطريق . ووقع فلان فى التيه أى فى مواضع الحيرة . وقوله { فَلاَ تَأْسَ } أى فلا تحزن عليهم من الأسى وهو الحزن . يقال أسى - كتعب - أى حزن . فهو اسين مثل حزين . وأسا على مصيبته - من باب عدا - أى حزن قال امرؤ القيس @ وقوفا بها صحبى على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل @@ أى يقولون لا تهلك نفسك حزنا وتجمل بالصبر . والمعنى قال الله - تعالى - لنبيه موسى مجيبا لدعائه يا موسى إن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة ، يسيرون خلالها فى الصحراء تائيهن حيارى لا يستقيم لهم أمر ، ولا يستقر لهم قرار ، فلا تحزن عليهم بسبب هذه العقوبة فإننا ما عاقبناهم بهذه العقوبة إلا بسبب خورجهم عن طاعتنا ، وتمردهم على أوامرنا ، وجبنهم عن قتال أعدائنا ، وسوء أدبهم مع أنبيائنا . قال الآلوسى قوله { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أى لا يدخلونها ولا يملكونها . والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد ، وجوز أن يكون تحريم العبد والأول أظهر وقوله { أَرْبَعِينَ سَنَةً } متعلق بقوله محرمة فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبداً ، فلا يكون مخالفا لظاهر قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة ، لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها ، بل بعضهم ممن بقى - يجوز له دخولها - فقد روى أن موسى سار بمن بقى من بنى إسرائيل - بعد انقضاء هذه المدة - إلى الأرض المقدسة . وقوله { يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } استئناف لبيان كيفية حرمانهم . وقيل حال من ضمير { عَلَيْهِمْ } وقيل الظرف متعلق بقوله { يَتِيهُونَ } فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه " . وقال الفخرى الرازى اختلف الناس فى أن موسى وهارون - عليهما السلام - هل بقيا فى التيه أو لا ؟ فقال قوم إنهما ما كانا فى التيه لأن موسى دعا الله أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ، ودعوات الأنبياء مجابة ، لأن التيه كان عذاباً والأنبياء لا يُعذبون . وقال آخرون إنهما كانا مع القوم فى ذلك التيه ، إلا أن الله - تعالى - سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها بردا وسلاما . وإنهما قد ماتا فى التيه وبقى يوشع بن نون - وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته - وهو الذى فتح الأرض المقدسة - بعد انقضاء مدة التيه . وقيل بل بقى موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة " . هذا ونرى من المناسب فى هذا المقام أن نتعرض بشىء من التفصيل للمسائل الآتية أولا الرد على اليهود فى دعواهم أن الأرض المقدسة - فلسطين - ملك لهم مستندين إلى قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } . ثانيا الحكمة فى كون عقابهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض . ثالثاً ما يؤخذ من هذه الآيات من العبر والعظات . وللإِجابة على المسألة الأولى نقول للمفسرين أقوال فى المراد من الكتابة فى قوله - تعالى - { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أشهرها قولان أولهما أن معنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أمركم بدخولها ، وفرضه عليكم كما أمركم بالصلاة والزكاة فالكتب هنا مثله فى قوله - تعالى - { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } أى فرض عليكم وهذا قول قتادة والسدى . والثانى أن معنى { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } قدرها لكم وقضى أن تكون مساكن لكم دون الجبارين . وهذا القضاء مشروط بالإِيمان ، وطاعة الأنبياء ، والجهاد فى سبيل نصرة الحق ، فإذا لم يكونوا كذلك - وهم لم يكونوا كذلك فعلا - لم يتحقق لهم التمكين فى الأرض المقدسة ، ولذا بعد أن أغراهم نبيهم موسى - عليه السلام - بدخولها ، حذرهم من الجبن والعصيان فقال لهم { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } . قال الآلوسى " وترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعاً " . وقال ابن عباس كانت هبة من الله لهم ثم حرمها - سبحانه - عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم . وقال الفخر الرازى إن الوعد بقوله { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط " . والخلاصة أن الكتابة فى قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } إما أن تكون تكليفية على معنى أن الله - تعالى - كتب عليكم وفرض أن تدخلوها مجاهدين مطيعين لنبيكم فإذا خالفتم ذلك حقت عليكم العقوبة . وإما أن تكون كتابة قدرية . أى قضى وقدر - سبحانه - أن تكون لكم متى آمنتم وأطعتم . وبنو إسرائيل ما آمنوا وما أطاعوا ، بل كفروا وعصوا فحرمها - سبحانه - عليهم . وبذلك ترى أن دعوى اليهود بأن الأرض المقدسة ملك لهم ، بدليل قوله - تعالى - { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } لا أساس لها من الصحة ولا يشهد لها عقل أو نقل . وللإِجابة على المسألة الثانية نقول اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يجعل عقوبته لقوم مناسبة لما اجترحوا من ذنوب وآثام وبنو إسرائيل لطول ما ألفوا من ذل واستعباد ، هانت عليهم نعمة الحرية . وضعف عندهم الشعور بالعزة . وأصبحت حياة الذلة مع العقود . أحب إليهم من حياة العزة مع الجهاد ولهذا عندما أمرهم نبيهم موسى - عليه السلام - بدخول الأرض المقدسة اعتذروا بشتى المعاذير الواهية وأكدوا له عدم اقترابهم منها ما دام الجبارون فيها وقالوا { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . فاقتضت حكمة الله - تعالى - أن يحرمهم منها جزاء جبنهم وعصيانهم وأن يعاقبهم بما يشبه القعود ، بأن يحكم عليهم بالتيهان فى بقعة محدودة من الأرض ، يذهبون فيها ويجيئون وهم حيارى لا يعرفون لهم مقرا وأن يستمروا على تلك الحالة أربعين سنة حتى ينشأ من بينهم جيل آخر سوى ذلك الجيل الذى استمرأ الذل والهوان . قال ابن خلدون فى مقدمته … ويظهر من مساق قوله - تعالى - { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } ومن مفهومه أن حكمة ذلك التيه مقصودة ، وهى فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر ، وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ فى ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف القهر ولا يسام بالمذلة . فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتى فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر . فسبحان الحكيم العليم " . هذا ولصاحب المنار كلام حسن فى حكمة هذه العقوبة ، نرى من المناسب إثباته هنا ، فقد قال - رحمه الله - فى ختام تفسيره لهذه الآيات " إن الشعوب التى تنشأ فى مهد الاستبداد ، والإِحساس بالظلم والاضطهاد ، تفسد أخلاقها ، وتذل نفوسها . وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة ، حتى تكون كالغرائز الفطرية . والطبائع الخلقية ، وإذا أخرجت صاحبها من بيئتها ، ورفعت عن رقبته نيرها ، ألفيته ينزع بطبعه إليها ويتفلت منك ليقتحم فيها ، وهذا شأن البشر فى كل ما يألفونه ، ويجرون عليه من خير وشر ، وإيمان وكفر . أفسد ظلم فرعون فطرة بنى إسرائيل فى مصر ، وطبع عليها بطابع المهانة والذل . وقد أراهم الله - تعالى - من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى - عليه السلام - وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل إلى الحرية . ولكنهم كانوا مع هذا كله إذا أصابهم ضرر يتطيرون بموسى ، ويذكرون مصر ويحنون إليها . وكان الله - تعالى - يعلم أنهم لا تطاوعهم أنفسهم المهينة على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده - تعالى - لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته فى طبيعة الاجتماع البشرى ، إذا هلك ذلك الجيل الذى نشأ فى الوثنية والعبودية . ونشأ بعده جيل جديد فى حرية البداوة ، وعدل الشريعة ، ونور الآيات الإِلهية ، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم ، حتى يبين لهم حجته عليهم ، ليعلموا أنه لم يظلمهم إنما يظلمون أنفسهم . وعلى هذه السنة العادلة أمر الله - تعالى - بنى إسرائيل بدخول الأرض المقدسة ، فأبوا واستكبروا . فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم قوماً آخرين . فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التى ضربها الله لنا ، وأن نعلم أن إصلاح الأمم من بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد جمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها ، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها . وللإِجابة على المسألة الثالثة - وهى ما يؤخذ من هذه الآيات من عظات وعبر - نقول إن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على لون حكيم فى أسلوب الدعوة إلى الله - تعالى - فقد بدأت بتذكير بنى إسرائيل بأمجادهم وبعظم نعم الله عليهم ، لتغرس فيهم الشعور بالعزة ولتغريهم بالاستجابة لما أمر به - سبحانه - . كما اشتملت على تحذيرهم من مغبة الجبن والمخالفة لأن ذلك يؤدى إلى الخسران . وفوق ذلك فقد صورت تصويرا معجزا طبيعة بنى إسرائيل على حقيقتها وكشفت عن خور عزيمتهم ، وسقوط همتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم … بما جعلهم أهلا العقوبات الرادعة وفى كل ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه من اليهود المعاصرين له من أذى ، وتحذير لهم من السير على طريق آبائهم المعوجة ، حتى لا يعرضوا أنفسهم للعقوبات التى حلت بأسلافهم . قال الإِمام ابن جرير عند تفسيره للآيات الكريمة وهذا - أيضاً - من الله - تعالى تعريف - لنبيه صلى الله عليه وسلم يتمادى هؤلاء اليهود فى الغى ، وبعدهم عن الحق ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، وشدة خلافهم لأنبيائهم وبطء إثابتهم إلى الرشاد ، مع كثرة نعم الله عندهم ، وتتابع آياته وآلائه عليهم ، مسليا بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم عما ينزل به من مجادلاتهم فى ذات الله ، يقول الله - له لا تأس على ما أصابك منهم ، فإن الذهاب عن الله ، والبعد عن الحق ، وما فيه من الحظ لهم فى الدنيا والآخرة ، من عاداتهم وعادات أسلافهم ، وأوائلهم ، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى - عليه السلام - . وقال الإِمام ابن كثير وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود ، وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم كليم الله وصفيه من خلقه فى ذلك الزمان . وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم . هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من الغرق له ولجنوده فى اليم وهم ينظرون . لتقر به أعينهم - وما بالعهد من قدم - ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هى بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار فى عدة أهلها وعددهم . وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل . وقال - رحمه الله - قبل ذلك وما أحسن ما أجاب به الصحابة - رضى الله عنهم - يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم فى قتال قريش . فقد قالوا فأحسنوا . لقد قال المقداد يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن نقول لك " إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون " . كذلك يؤخذ من هذه القصة أن معصية الله ورسله تؤدى إلى الخسران ، فإن بنى إسرائيل لما جبنوا عن دخول الأرض المقدسة ، وعصوا أمر نبيهم ، عاقبهم الله بالتيه مدة أربعين سنة ، صارت قصتهم عبرة للمعتبرين ، وموعظة للمتقين . وبعد أن ساق - سبحانه - جوانب متعددة من أحوال أهل الكتاب وما جبلوا عليه من أخلاق سيئة ، أتبع ذلك بقصة ابنى آدم ، فقال - تعالى - { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ … }