Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 64-64)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال ابن عباس قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس يا محمد إن ربك بخيل لا ينفق . فأنزل الله هذه الآية . وقد أضاف - سبحانه - المقالة إلى اليهود جميعا ، لأنهم لم ينكروا على القائل ما قاله ورضوا به . وقال عكرمة إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه . فقد كانت لهم أموال فلما كفروا بالنبى صلى الله عليه وسلم قل ما لهم ، فقالوا ما قالوا . وقيل إنهم لما رأوا النبى صلى الله عليه وسلم فى فقر وقلة مال وسمعوا { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } قالوا إن إله محمد بخيل . وقوله - تعالى - حكاية عنهم { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } إخبار من الله عن جراءة اليهود عليه - سبحانه - وسوء أدبهم معه ، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التى لا تحصى . وأرادوا بقولهم { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أنه - سبحانه - بخيل عليهم ، ممسك خيره عنهم ، مانع فضله عن أن يصل إليهم ، حابس عطاءه عن الاتساع لهم ، كالمغلولة يده الذى لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف . وأصل الغل - كما يقول الراغب - تدرع الشىء وتوسطه ، ومنه الغلل للماء الجارى بين الشجر . والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال . وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم ، لأن الله - تعالى - منزه عن مشابهة الحوادث . وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء . والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال ، لا سيما فى دفع المال وإنفاقه . فأطلقوا اسم السبب على المسبب ، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد ، مبسوط الكف ، وقيل للبخيل مقبوض اليد ، كز الكف . وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله " غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود " ومنه قوله - تعالى - { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط . ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة ، حتى إنه يستعمله فى ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها . ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود . وقد استعملوها حيث لا تصح اليد كقول القائل @ جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده @@ ويقال بسط اليأس كفيه فى صدرى ، فجعلت لليأس الذى هو من المعانى لا من الأعيان كفين . وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف " غل اليد وبسطها مجاز " فقال والنكتة فى استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا ، وهى بسط اليد للجود وقبضها للبخل ، ولا شىء أثبت من الصور الحسية فى الذهن ، فلما كان الجود والبخل معنيين لا يدركان بالحس . عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإِيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات . وقوله { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُوا } دعاء عليهم بالشح المرير والبخل الشنيع بأن يخلق - سبحانه - فيهم الشح الذى يجعلهم منبوذين من الناس ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله ، وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - بسبب سوء أدبهم معه - سبحانه - وجحودهم لنعمه . وهذه الجملة تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم ، وأساءوا الأدب مع خالقهم ورازقهم ، فقالوا فى شأنه ما هو منزه عنه - { وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } قال الآلوسى ما ملخصه ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدى الحقيقة ، بأن يغلوا فى الدنيا أسارى - وفى الآخرة معذبين فى أغلال جهنم . ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقد فيكون تجنيسا . وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقوله سبنى سب الله دابره أى قطعه ، لأن السب أصله القطع . وقوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } معطوف على مقدر يقتضيه المقام ، وتكذيب لهم فيما قالوه من باطل . والمعنى كلا - أيها اليهود - ليس الأمر كما زعمتم من قول باطل ، بل هو - سبحانه - الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذى ما من شىء إلا عنده خزائنه . فبسط اليد هنا كناية عن الجواد والفضل والإِنعام منه - سبحانه - على خلقه . وعبر بالمثنى فقال { بَلْ يَدَاهُ } للإِشارة إلى كثرة الفيض والإِنعام ، لأن الجواد السخى إذا أراد أن يبالغ فى العطاء أعطى بكلتا يديه . قال ابن كثير قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أى بل هو الواسع الفضل . الذى ما يخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له . كما قال { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } والآيات فى هذا كثيرة . وقد روى الإِمام أحمد والشيخان عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة - أى لا ينقصها الإِنفاق - سحاء - أى مليئة - الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما فى يمينه . وكان عرشه على الماء ، وفى يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض وقال يقول الله - تعالى - أنفق أنفق عليك " . وقوله { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده ، والدلالة على أنه على مقتضى حكمته ومشيئته فهو - سبحانه - يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقبضه عمن يشاء أن يقبضه عنه ، وقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه لا ينافى سعة كرمه ، لأنه يعطى ويمنع على حسب مشيئته التى أقام بها نظام خلقه . ثم بين - سبحانه - موقفهم الجحودى مما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } . أى إن ما أنزلنا عليك يا محمد من قرآن كريم ، وما أطلعناك عليه من خفى أمور هؤلاء اليهود ، ومن أحوال سلفهم كل ذلك ليزيدن الكثيرين منهم كفرا على كفرهم ، وطغيانا على طغيانهم ، وذلك لأنهم قوم أكل الحقد قلوبهم ، واستولى الحسد على نفوسهم . وإذا كان ما أنزلناه إليك يا محمد فيه الشفاء لنفوس المؤمنين ، فإنه بالنسبة لهؤلاء اليهود يزيدهم بغيا وظلما وكفراً . قال - تعالى - { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } فالجملة الكريمة بيان لموقف اليهود الجحودى من الآيات التى أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهى فى الوقت ذاته تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يلقاه منهم . وقد أكد - سبحانه - هذه الجملة بالقسم المطوى ، وباللام الموطئة له ، ونون التوكيد الثقيلة لكى ينتفى الرجاء فى إيمانهم ، وليعاملهم النبى صلى الله عليه وسلم وأتباعه على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة ، وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع . وقوله { كثيراً } هو المفعول الأول لقوله { وليزيدن } وفاعله ما الموصولة فى قوله { ما أنزل } وقوله { طغيانا } هو المفعول الثانى . ثم زاد - سبحانه - فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم فأصدر حكمه فيهم بدوام العداوة والبغضاء بين طوائفهم وفرقهم فقال { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } فالضمير فى قوله { بينهم } يعود إلى فرق اليهود المختلفة من فريسيين وصدوقيين وقرائين ، وكتبة وغير ذلك من فرقهم المتعددة . وقيل الضمير يعود إلى طائفتى اليهود والنصارى . والأول أرجح لأن الحديث فى هذه الآية عن اليهود الذين وصفوا الله - تعالى - بما هو منزه عنه . والعداوة والبغضاء يرى بعضهم أنهما اسمان لمعنى واحد . ويرى آخرون أن معناهما مختلف . فالعداوة معناها المناوأة الظاهرة ، والبغضاء هى الكراهية التى تكون فى القلب . فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا . فلا عداوة من غير بغضاء ، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة . قال أبو حيان والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو . وقال ابن عطية وكأن العداوة شىء يشهد ، يكون عنه عمل وحرب ، والبغضاء لا تتجاوز النفوس . والمعنى وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة العداوة الدائمة ، والبغضاء المستمرة ، فأنت تراهم كلمتهم مختلفة ، وقلوبهم شتى وكل فرقة منهم تلصق النقائص بالأخرى ، وهم على هذه الحال إلى يوم القيامة . وما أظهره اليهود فى هذا العصر من تعاون وتساند جعلهم ينشئون دولة لهم بفلسطين ، هو أمر مؤقت ، فإن هذه الدولة لن تستمر طويلا ، بل ستعود إلى أهلها المسلمين متى صدقوا فى جهادهم واتبعوا تعاليم دينهم . قال الفخر الرازى واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها ، هو أنه - تعالى - بين أن هؤلاء اليهود إنما ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم بعد ظهور الدلائل على صحتها ، لأجل الحسد . ولأجل حب الجاه والمال . ثم إنه - تعالى - بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة ، لا جرم أنه - تعالى - كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا ، لأن كل فريق منهم بقى مصرا على مذهبه ومقالته … فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم . وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا . ويحارب بعضهم بعضاً . فإن قلت فهذا المعنى حاصل أيضاً بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيبا على الكتابين حتى يذموا عليه ؟ قلنا بدعة التفرق التى حصلت فى المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين . أما فى الصدر الأول فلم يكن شىء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيباً على الكتابين فى ذلك العصر الذى نزل فيه القرآن " . وقوله { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } أى كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهيأوا الأسباب لذلك وحاولوا تفريق كلمتهم وإثارة العداوة بينهم . كلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم ، وأحبط مكرهم ، وألقى الرعب فى قلوبهم . والتعبير بهذه الجملة الكريمة جاء على وفق ما جرى عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حرباً بالإِغارة على غيرهم أوقدوا ناراً يسمونها نار الحرب . والتعبير هنا لذلك على سبيل المجاز إذ عبر - سبحانه - عن إثارة الحروب بإيقاد نارها . باعتبارها أن الحروب فى ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعمرة فى أخطارها ومصائبها . وقوله { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } تذييل مقرر لما قبله من الصفات الذميمة التى دمغ الله - تعالى - بها اليهود . أى أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون فى الكيد للاسلام وأهله وأنهم يسعون سعيا حثيثاً للافساد فى الأرض عن طريق إثارة الفتن ، وإيقاظ الأحقاد بين الناس . والله - تعالى - لا يحب المفسدين بل يبغضهم ويمقتهم ، لإِيثارهم الضلالة على الهدى ، والشر على الخير . وبهذا نرى الآية الكريمة قد ردت على اليهود فى نسبتهم البخل إلى الله - تعالى - وبينت أنه - سبحانه - هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء وكشفت عن جوانب من رذائلهم وعنادهم وأوضحت أنه - سبحانه - يبغضهم لأنهم يفسدون فى الأرض ولايصلحون . ولقد بسطنا القول فى مظاهر فسادهم فى الأرض فى غير هذا الموطن فارجع إليه إن شئت . وبعد أن حكى - سبحانه - ما حكى من رذائل أهل الكتاب وخصوصاً اليهود عقب ذلك بفتح باب الخير لهم متى آمنوا واتقوا فقال - تعالى { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ آمَنُواْ … }