Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 1-11)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سورة " ق " من السور القرآنية ، التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وأقرب الأقوال إلى الصواب فى معنى هذه الحروف ، أنها جئ بها على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن . فكأن الله - تعالى - يقول لهؤلاء المعارضين فى أن القرآن من عند الله ها كم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم . فإن كنتم فى شك فى كونه منزلا من عند الله - تعالى - فهاتوا مثله ، أو عشر سور من مثله ، أو سورة واحدة من مثله . فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - سبحانه - . وهذا الرأى وهو كون " ق " من الحروف الهجائية ، هو الذى نطمئن إليه ، وهناك أقوال أخرى فى معنى هذا الحرف ، تركناها لضعفها كقول بعضهم إن " ق " اسم جبل محيط بجميع الأرض … وهى أقوال لم يقم دليل نقلى أو عقلى على صحتها . قال ابن كثير وقد روى عن بعض السلف ، أنهم قالوا " ق " جبل محيط بالأرض ، يقال له جبل " ق " وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بنى إسرائيل التى أخذها عنهم بعض الناس … والواو فى قوله - تعالى - { وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } للقسم ، والمقسم به القرآن الكريم ، وجواب القسم محذوف لدلالة ما بعده عليه ، وهو استبعادهم لعبثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم للبعث والحساب … وقوله { ٱلْمَجِيدِ } صفة للقرآن . أى ذى المجد والشرف وكثرة الخير . ولفظ المجيد مأخوذ من المجد ، بمعنى السعة والكرم ، وأصله من مجدت الإِبل وأمجدت ، إذا وقعت فى مرعى مخصب ، واسع ، الجنبات ، كثير الأعشاب . والمعنى أقسم بالقرآن ذى المجد والشرف ، وذى الخير الوفير الذى يجد فيه كل طالب مقصوده ، إنك - أيها الرسول الكريم - لصادق فيما تبلغه عن ربك من أن البعث حق والحساب حق ، والجزاء حق … ولكن الجاحدين لم يؤمنوا بذلك . { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } وهو أنت يا محمد ، فلم يؤمنوا بك ، بل قابلوا دعوتك بالإِنكار والتعجب . { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } أى هذا البعث الذى تخبرنا عنه يا محمد شئ يتعجب منه ، وتقف دون أفهامنا حائرة . قال الآلوسى ما ملخصه قوله - تعالى - { بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ … } بل للإِضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف ، فكأنه قيل إنا أنزلنا هذا القرآن لتنذر به الناس ، فلم يؤمنوا به ، بل جعلوا كلا من المنذِر والمنذَر به عرضة للتكبر والتعجب ، مع كونهما أوفق شئ لقضية العقول ، وأقربه إلى التلقى بالقبول . . وقوله { أَن جَآءَهُمْ } بتقدير لأن جاءهم ، ومعنى " منهم " أى من جنسهم ، وضمير الجمع يعود إلى الكفار … وقوله { فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } تفسير لتعجبهم … وإضمارهم أولا ، للإِشعار بتعينهم بما أسند إليهم ، وإظهارهم ثانيا ، لتسجيل الكفر عليهم … وقوله - سبحانه - { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } تقرير للتعجب ، وتأكيد للإِنكار الصادر عنهم ، والعامل فى " إذا " مضمر لدلالة ما بعده عليه … أى أحين نموت ونصير ترابا وعظاما نرجع إلى الحياة مرة أخرى ، كما يقول محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وكما يقول القرآن الذى نزل عليه . لا ، إننا لن نبعث ولن نعود إلى الحياة مرة أخرى ، وما يخبرنا به محمد - صلى الله عليه وسلم - من أن الرجوع إلى الحياة مرة أخرى حق ، كلام بعيد عن عقولنا وأفهامنا . فاسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى محل النزاع وهو الرجوع إلى الحياة مرة أخرى ، والبعث بعد الموت . والرجع بمعنى الرجوع . يقال رجعته أرجِعُه رَجْعا ورُجوعا ، بمعنى أعدته … ومنه قوله - تعالى - { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } أى ذلك الرجوع إلى الحياة مرة أخرى بعيد عن الأفهام ، وعن العادة ، وعن الإِمكان . وبعد هذا التصوير الأمين لحججهم وأقوالهم ، ساق - سبحانه - الرد الذى يدفع تلك الحجج والأقوال فقال { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ } . أى قد علمنا علما تاما دقيقا ما تأكله الأرض من أجسادهم بعد موتهم ، ومن علم ذلك لا يعجزه أن يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى . وقوله - سبحانه - { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } تأكيد وتقرير لما قبله . أى وعندنا بجانب علمنا الشامل الدقيق . كتاب حافظ لجميع أحوال العباد ، ومسجلة فيه أقوالهم وأفعالهم ، والمراد بهذا الكتاب اللوح المحفوظ . ثم كشف - سبحانه - عن حقيقة أحوالهم ، وعن الأسباب التى دفعتهم إلى إيثار الباطل على الحق فقال { بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } . أى إن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بإنكارهم للبعث … بل جاءوا بما هو أشنع وأفظع منه ، وهو تكذيبهم لنبوتك - أيها الرسول الكريم - تلك النبوة الثابتة بالمعجزات الناصعة ، ومن مظاهر هذا التكذيب أنهم تارة يقولون عنك ساحر ، وتارة يقولون عنك كاهن وتارة يصفوك بالجنون . فهم فى أمر مريج ، أى مضطرب مختلط . بحيث لا يستقرون على حال . يقال مرج الأمر - بزنة طرب - إذا اختلط وتزعزع ، وفقد الثبات والاستقرار والصلاح … ومنه قولهم مرجت أمانات الناس ، إذا فسدت وعمتهم الخيانة ، ومرج الخاتم فى إصبع فلان ، إذا تخلخل واضطرب لشدة هزال صاحبه . وفى هذا الرد عليهم تصوير بديع معجز ، حيث بين - سبحانه - بأنه عليم بما تأكله الأرض من أجسادهم المغيبة فيها ، وبتناقص هذه الاجساد رويدا رويدا ، وأن كل أحوالهم مسجلة فى كتاب حفيظ ، وأنهم عندما فارقوا الحق الثابت وكذبوه ، مادت الأرض من تحتهم واضطربت ، واختلطت عليهم الأمور والتبست ، فصاروا يلقون التهم جزافا دون أن يستقروا على رأى ، أو يجتمعوا على كلمة . . ثم شرعت السورة الكريمة فى بيان الأدلة على قدرة الله - تعالى - وعلى أن البعث حق ، وعلى أن استبعادهم له إنما هو لون من جهالاتهم وانطماس بصائرهم ، فقال - تعالى - { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } . والاستفهام للإِنكار والتعجيب من جهلهم ، والهمزة متعلقة بمحذوف ، والفاء عاطفة عليه أى أأعرضوا عن آيات الله فى هذا الكون ، فلم ينظروا إلى السماء فوقهم . كيف بنيناها هذا البناء العجيب ، بأن رفعناها بدون عمد ، وزيناها بالكواكب ، وحفظناها من أى تصدع أو تشقق أو تفتق . فقوله { فُرُوجٍ } جمع فرج ، وهو الشق بين الشيئين . والمراد سلامتها من كل عيب وخلل . ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته فى بسط الأرض ، بعد بيان مظاهر قدرته فى رفع السماء فقال { وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } أى والأرض بسطناها ومددناها بقدرتنا ، وجعلناها مترامية الأطراف والمناكب ، كما تشاهدون ذلك بأعينكم . قالوا وامتدادها واتساعها لا ينافى كرويتها ، لأن عظم سطحها يجعل الناظر إليها يراها كأنها مسطحة ممدودة . { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أى وألقينا فيها جبالا ثوابت تمنعها من الاضطراب … فقوله { رَوَاسِيَ } جمع راسية بمعنى ثابتة وهو صفة لموصوف محذوف . { وَأَنبَتْنَا فِيهَا } أى فى الأرض { مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أى وأنبتنا فيها من كل صنف حسن يبهج ويسر الناظرين إليه ، مأخوذ من البهجة بمعنى الحسن يقال بَهُج الشئ - كظرف - فهو بهيج أى حسن جميل . وقوله { تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ … } علتان لما تقدم من الكلام ، وهما منصوبتان بفعل مقدر . أى فعلنا ما فعلنا من مد الأرض ، ومن تثبيتها بالجبال ، ومن إنبات كل صنف حسن من النبات فيها ، لأجل أن نبصر عبادنا بدلائل وحدانيتنا وقدرتنا ، ونذكرهم بما يجب عليهم نحو خالقهم من شكر وطاعة . وقوله { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } متعلق بكل من المصدرين السابقين وهما التبصرة والذكرى . أى هذه التبصرة والذكى كائنة لكل عبد منيب ، أى كثير الرجوع إلى ربه بالتدبر فى بدائع صنعته ، ودلائل قدرته . ثم انتقلت الآيات إلى بيان مظاهر قدرته فى إنزال المطر ، بعد بيان مظاهر قدرته فى خلق السماوات والأرض وما اشتملنا عليه من كائنات ، فقال - تعالى - { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً } أى ماء كثير المنافع والخيرات للناس والدواب والزروع . { فَأَنبَتْنَا بِهِ } أى بذلك الماء { جَنَّاتٍ } أى بساتين كثيرة زاخرة بالثمار . . { وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ } أى وحب النبات الذى من شأنه أن يحصد عند استوائه كالقمح والشعير وما يشبههما من الزروع . فالحصيد بمعنى المحصود ، وهو صفة لموصوف محذوف أى وحب الزرع الحصيد . فهذا التركيب من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه للعلم به . وخص الحب بالذكر ، لاحتياج الناس إليه أكثر من غيره ، فصار كأنه المقصود بالبيان . وقوله { وَٱلنَّخْلَ … } معطوف على { جَنَّاتٍ } ، و { بَاسِقَاتٍ } حال من النخل . ومعنى " باسقات " مرتفعات ، من البسوق بمعنى الارتفاع والعلو . يقال بسق فلان على أصحابه - من باب دخل - إذا فاقهم وزاد عليهم فى الفضل . والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث ويجمع . وخص بالذكر مع أنه من جملة ما اشتملت عليه الجنات ، لمزيد فضله وكثرة منافعه . وجملة { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } فى محل نصب على الحال من النخل . والطلع أول ما يخرج من ثمر الخل . ويسمى الكُفُرَّى . يقال طلع الطلع طلوعا . إذا كان فى أول ظهوره . والنضيد بمعنى المنضود ، أى المتراكب بعضه فوق بعض مأخوذ من نضد فلان المتاع ينضده ، إذا رتبه ترتيبا حسنا . أى وأنبتنا - أيضا - فى الأرض بعد إنزالنا الماء عليها من السحاب ، النخل الطوال ، الزاخر بالثمار الكثيرة التى ترتب بعضها على بعض بطريقة جميلة … وقوله { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ } بيان للحكمة من إنزال المطر وإنبات الزرع … أى أنبتنا ما أنبتنا من الجنات ومن النخل الباسقات … ليكون ذلك رزقا نافعا للعباد … { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أى وأحيينا بذلك الماء الذى أنزلناه بلدة كانت مجدبة ، وأرضا كانت خالية من النبات والزروع ، وتذكير { مَّيْتاً } لكون البلدة بمعنى المكان . وقوله { كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ } جملة مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث ، مثله كمثل هذا الإِحياء للأرض التى كانت جدباء ميتة ، بأن أنبتت من كل زوج بهيج بعد أن كانت خالية من ذلك . فوجه الشبه بين إحياء الأرض بالنبات بعد جدبها ، وبين إحياء الإِنسان بالبعث بعد موته ، استواء الجميع فى أنه جاء بعد عدم . قال ابن كثير قوله { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً … } وهى الأرض التى كانت هامدة ، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج … وذلك بعد أن كانت لا نبات فيها ، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك ، كذلك يحيى الله الموتى ، وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس ، أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث … كقوله - تعالى - { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } وقوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقوله - تعالى - { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أقامت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعلى أن البعث حق ، وأنه آت لا ريب فيه . وبعد هذا العرض البديع لمظاهر قدرة الله - تعالى - فى هذا الكون ، ولمظاهر نعمه على خلقه ، ساقت السورة الكريمة جانبا من أحوال المكذبين للرسل السابقين . تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه ، فقال - تعالى - { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ … مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } .