Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 15-23)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والمعنى { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } وهم الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى الله - تعالى - . { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أى مستقرين فى جنات وبساتين فيها عيون عظيمة ، لا يبلغ وصفها الواصفون . { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أى هم منعمون فى الجنات وما اشتملت عليه من عيون جارية ، حالة كونهم آخذين وقابلين لما أعطاهم ربهم من فضله وإحسانه . وقوله { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } بمثابة التعليل لما قبله . أى هم فى هذا الخير العميم من ربهم لأنهم ، كانوا قبل ذلك - أى فى الدنيا - محسنين لأعمالهم ، ومؤدين لكل ما أمرهم به - سبحانه - بإتقان وإخلاص . ثم بين - سبحانه - مظاهر إحسانهم فقال { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } أى كانوا ينامون من الليل وقتا قليلا ، أما أكثره فكانوا يقضونه فى العبادة والطاعة . والهجوع النوم ليلا ، وقيده بعضهم بالنوم القليل ، إذ الهجعة هى النومة الخفيفة ، تقول أتيت فلانا بعد هجعة ، أى بعد نومة قليلة . عن الحسن قال كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، كابدوا قيام الليل . ثم مدحهم - سبحانه - بصفة أخرى فقال { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } والأسحار جمع سحر ، وهو الجزء الأخير من الليل . أى ، وكانوا فى أوقات الأسحار يرفعون أكف الضراعة إلى الله - تعالى - يستغفرونه مما فرط منهم من ذنوب ، ويلتمسون منه - تعالى - قبول توبتهم وغسل حوبتهم . قال الإِمام الرازى ما ملخصه وفى الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك ، وأخلص منه ، ويستغفرون من التقصير ، وهذه سيرة الكريم يأتى بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ، ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتى بالقليل ويستكثره . وفيه وجه آخر ألطف منه وهو أنه - تعالى - لما بين أنهم يهجعون قليلا ، والهجوع مقتضى الطبع . قال { يَسْتَغْفِرُونَ } أى من ذلك القدر من النوم القليل . ومدحهم بالهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر … للإِشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار … فى وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإِعجاب بأنفسهم ومن الاستكبار … ثم مدحهم - سبحانه - للمرة الثالثة فقال { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } . والسائل هو من يسأل غيره العون والمساعدة . والمحروم هو المتعفف عن السؤال مع أنه لا مال له لحرمان أصابه ، بسبب مصيبة نزلت به ، أو فقر كان فيه … أو ما يشبه ذلك . قال ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى المراد من المحروم هنا . والصواب من القول فى ذلك عندى أنه الذى قد حرم الرزق واحتاج ، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره فصار ممن حرمه الله . وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة . وقد يكون بأنه لا سهم له فى الغنيمة لغيبته عن الواقعة . أى أنهم بجانب قيامهم الليل طاعة لله - تعالى - واستغفارا لذنوبهم … يوجبون على أنفسهم فى أموالهم حقا للسائل والمحروم ، تقربا إلى الله - سبحانه - بمقتضى ما جبلوا عليه من كرم وسخاء . فالمراد بالحق هنا ما يقدمونه من أموال للمحتاجين على سبيل التطوع وليس المراد به الزكاة المفروضة ، لأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت فى السنة الثانية من الهجرة . قال الآلوسى { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } هو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما . وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وتعقب بأن السورة مكية . وفرض الزكاة بالمدينة . وقيل أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذى كان بالمدينة القدر المعروف اليوم … والجمهور على الأول . والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يرى أن هؤلاء المتقين ، قد مدحهم الله - تعالى - هذا المدح العظيم ، لأنهم عرفوا حق الله عليهم فأدوه بإحسان وإخلاص ، وعرفوا حق الناس عليهم فقدموه بكرم وسخاء . ثم لفت - سبحانه - الأنظار إلى ما فى الأرض من دلائل على قدرته ووحدانيته فقال { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } . أى وفى الأرض آيات عظيمة وعبر وعظات بليغة ، تدل على وحدانية الله وقدرته ، كصنوف النبات ، والحيوانات ، والمهاد ، والجبال ، والقفار ، والأنهار ، والبحار . وهذه الآيات والعبر لا ينتفع بها إلا الموقنون بأن المستحق للعبادة إنما هو الله - عز وجل - . ثم لفتة أخرى إلى النفس البشرية ، قال - تعالى - { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } . أى وفى أنفسكم وذواتكم وخلقكم … أفلا تبصرون إبصار تذكر واعتبار ، فإن فى خلقكم من سلالة من طين ، ثم جعلكم نطفة فعلقة فمضغة فخلقا آخر ، ثم فى رعايتكم فى بطون أمهاتكم . ثم فى تدرجكم من حال إلى حال ، ثم فى اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، ثم فى التركيب العجيب الدقيق لأجسادكم وأعظائكم . ثم فى تفاوت عقولكم وأفهامكم واتجاهاتكم . فى كل ذلك وغيره ، عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين . ورحم الله صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهاتين الآيتين { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره ، حيث هى مدحوّة كالبساط … وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها ، والماشين فى مناكبها . وهى مجزأة فمن سهل وجبل ، وبر وبحر ، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ، وطيبة وسبخة ، وهى كالطروقة تلقح بألوان النبات … وتسقى بماء واحد ، ونفضل بعضها على بعض فى الأكل ، وكلها موافقة لحوائج ساكنيها . فى كل ذلك آيات { لِّلْمُوقِنِينَ } أى للموحدين الذين سلكوا الطريق السوى … فازدادوا إيمانا على إيمانهم . { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ } فى حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، وفى بواطنها وظواهرها ، من عجائب الفطر . وبدائع الخلق ، ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب ، وما ركز فيها من العقول ، وخصت به من أصناف المعانى ، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف ، وما فى تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الدالة على حكمة المدبر . . فتبارك الله أحسن الخالقين . ثم لفتة ثالثة للأنظار إلى الأسباب الظاهرة للرزق ، تراها فى قوله - تعالى - { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } . أى أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة عنده - سبحانه - وهى تنزل إليكم من جهة السماء ، عن طريق الأمطار التى تنزل على الأرض الجدباء . فتنبت بإذن الله من كل زوج بهيج . كما قال - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً } وقال - سبحانه - { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } قال القرطبى قوله { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر ينبت به الزرع ، ويحيى به الإِنسان … أى وفى السماء سبب رزقكم ، سمى المطر سماء لأنه من السماء ينزل . وقال سفيان الثورى { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } أى عند الله فى السماء رزقكم . وقوله { وَمَا تُوعَدُونَ } أى وفى السماء محددة ومقدرة أرزاقكم . وما توعدون به من ثواب أو عقاب ، ومن خير أو شر ، ومن بعث وجزاء . و { وَمَا } فى محل رفع عطف على قوله { رِزْقُكُمْ } أى وفى السماء رزقكم والذى توعدونه من ثواب على الطاعة ، ومن عقاب على المعصية . فالآية الكريمة وإن كانت تلفت الأنظار إلى أسباب الرزق وإلى مباشرة هذه الأسباب ، إلا أنها تذكر المؤمن بأن يكون اعتماده على خالق الأسباب ، وأن يراقبه ويطيعه فى السر والعلن لأنه - سبحانه - هو صاحب الخلق والأمر . ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بهذا القَسَم فقال { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } . والضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود إلى ما سبق الإِخبار عنه من أمر البعث والحساب والجزاء والرزق … وغير ذلك مما يدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن ربه . ولفظ " مثل " منصوب بنزع الخافض ، و " ما " مزيدة للتأكيد أى فوحق رب السماء والأرض ، إن جميع ما ذكرناه لكم فى هذه السورة ، أو فى هذا القرآن ، حق ثابت لا مرية فيه ، كمثل نطقكم الذى تنطقونه بألسنتكم دون أن تشكوا فى كونه قد صدر عنكم لا عن غيركم . فالمقصود بالآية الكريمة ، تأكيد صدق ما أخبر به الله - تعالى - عباده فى هذه السورة وغيرها ، لأن نطقهم بألسنتهم حقيقة لا يجادل فيها مجادل ، وكذلك ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، وما تلاه عليهم فى هذه السورة وغيرها ، حق ثابت لا ريب فيه . وهكذا نرى هذه الآيات قد بشرت المتقين بألوان من البشارات ، ثم لفتت عقول الناس إلى ما فى الأرض وإلى ما فى أنفسهم وإلى ما فى السماء من عظات وعبر . ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن قصص بعض الأنبياء السابقين فبدأت بجانب من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملائكة الذين جاءوا لبشارته بابنه إسحاق ، فقال - تعالى - { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ … } .