Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 1-14)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والمراد بالذاريات الرياح التى تذرو الشىء ، أى تسوقه وتحركه وتنقله من مكانه . فهذا اللفظ اسم فاعل من ذرا المعتل ، بمعنى فرَّق وبدّد . يقال ذَرَت الرياح التراب تذروه ذَرْواً ، وتَذْرِيه ذَرْياً - من بابى عدا ورمى - إذا طيرته وفرقته . ومنه قوله - تعالى - { وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ … } أى تنقله وتحركه من مكان إلى آخر . والمفعول محذوف ، و " ذروا " مصدر مؤكد ، وناصبه لفظ الذاريات ، أى وحق الرياح التى تذروا التراب وغيره ذروا ، وتحركه تحريكا شديدا . والمراد بالحاملات السحب التى تحمل الأمطار الثقيلة ، فتسير بها من مكان إلى آخر . والوقر - بكسر الواو - كالحمل وزنا ومعنى ، وهو مفعول به . أى فالسحب الحاملات للأمطار الثقيلة ، وللمياه الغزيرة ، التى تنزل على الأرض اليابسة ، فتحولها - بقدرة الله - تعالى - إلى أرض خضراء . وهذا الوصف للسحاب بأنه يحمل الأمطار الثقيلة ، قد جاء ما يؤيده من الآيات القرآنية ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ … } وقوله - سبحانه - { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ … } والمراد بالجاريات السفن التى تجرى فى البحر ، فتنقل الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد . وقوله { يُسْراً } صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف ، أى فالجاريات بقدرة الله - تعالى - فى البحر جريا ذا يسر وسهولة ، إلى حيث يسيرها ربانها . ويصح أن يكون قوله { يُسْراً } حال . أى فالجاريات فى حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر . ومن الآيات التى تشبه فى معناها هذه الآية قوله - تعالى - { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } والمراد بالمقسمات فى قوله - سبحانه - { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } الملائكة ، فإنهم يقسمون أرزاق العباد وأمورهم وشئونهم … على حسب ما يكلفهم الله - تعالى - به من شئون مختلفة . و { أَمْراً } مفعول به ، للوصف الذى هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع ، أى المقسمات لأمور العباد بأمر الله - تعالى - وإرادته . وهذا التفسير لتلك الألفاظ ، قد ورد عن بعض الصحابة ، فعن أبى الطفيل أنه سمع عليا - رضى الله عنه - يقول - وهو على منبر الكوفة - لا تسألونى عن آية فى كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال يا أمير المؤمنين . ما معنى قوله - تعالى - { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } قال الريح . { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } قال السحاب . { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } قال السفن ، { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } قال الملائكة . وروى مثل هذا التفسير عن عمر بن الخطاب ، وعن ابن عباس . ومن العلماء من يرى أن هذه الألفاظ جميعها صفات للرياح . قال الإمام الرازى هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات هى الرياح التى تنشىء السحاب أولا . والحاملات هى الرياح التى تحمل السحب التى هى بخار الماء … والجاريات هى الرياح التى تجرى بالسحب بعد حملها . والمقسمات هى الرياح التى تفرق الأمطار على الأقطار . ومع وجاهة رأى الإمام الرازى فى هذه المسألة ، إلا أننا نؤثر عليه الرأى السابق ، لأنه ثابت عن بعض الصحابة ، ولأن كون هذه الألفاظ الأربعة لها معان مختلفة ، أدل على قدرة الله - تعالى - وعلى فضله على عباده . وقد تركنا أقوالا ظاهرة الضعف والسقوط . كقول بعضهم الذاريات هن النساء ، فإنهن يذرين الأولاد ، بمعنى أنهن يأتين بالأولاد بعضهم فى إثر بعض ، كما تنقل الرياح الشىء من مكان إلى مكان . قال الآلوسى ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات - كما هو الرأى المعول عليه - فالفاء للترتيب فى الأقسام ذكرا ورتبة ، باعتبار تفاوت مراتبها فى الدلالة على كمال قدرته - عز وجل - وهذا التفاوت إما على الترقى أو التنزل ، لما فى كل منها من الصفات التى تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر . وإن حملت على واحد وهو الرياح ، فهى لترتيب الأفعال والصفات ، إذ الريح تذرو الأبخرة إلى الجو أولا ، حتى تنعقد سحابا ، فتحمله ثانيا ، وتجرى به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله - تعالى - ثم تقسم أمطاره . وقوله { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } جواب القسم . و " ما " موصولة والعائد محذوف ، والوصف بمعنى المصدر . أى وحق هذه الأشياء التى ذكرتها لكم إن الذى توعدونه من الجزاء والحساب والبعث … لصدق لا يحوم حوله كذب أوشك . ويجوز أن تكون " ما " مصدرية . أى إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق . وقوله { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } تأكيد وتقريرلما قبله . أى وإن الجزاء على الأعمال لواقع وقوعا لا ريب فيه . فالمراد بالدين هنا الجزاء ، كما فى قوله - سبحانه - { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ … } ومنه قولهم " كما تدين تدان " أى كما تعمل تجازى ، ومعنى وقوعه حصوله . ثم أقسم - سبحانه - قسما آخر بالسماء ذات الحبك فقال { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } . والحبك جمع حَبِيكة ، كطريقة - وزنا ومعنى - ، أو جمع حِبَاك - كمُثُل ومِثَال - ، والحبيكة والحباك . الطريقة فى الرمل وما يشبهه . أى وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، والتى لا ترونها بأعينكم لبعدها عنكم . ويرى بعضهم أن معنى ذات الحبك ذات الخَلْق الحسن المحكم … أو ذات الزينة والجمال . قال القرطبى وفى الحبك أقوال الأول قال ابن عباس ذات الخلْق الحسن المستوى يقال ، حبَك فلان الثوب يحبِكُه - بكسر الباء - إذا أجاد نسجه . الثانى ذات الزينة . الثالث ذات النجوم ، الرابع ذات الطرائق . ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها . الخامس ذات الشدة … وقوله { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } جواب القسم . وقوله { يُؤْفَكُ عَنْهُ … } من الأفْك - بفتح الهمزة وسكون الفاء - بمعنى الصرف للشىء عن وجهه الذى يجب أن يكون عليه . والضمير فى " عنه " يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أو إلى القرآن الكريم . فيكون المعنى وحق السماء ذات الطرق المتعددة ، وذات الهيئة البديعة المحكمة الجميلة … إنكم - أيها المشركون - " لفى قول مختلف " أى متناقض متخالف ، فمنكم من يقول عن القرآن الكريم أنه أساطير الأولين ، ومنكم من يقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنه ساحر أو مجنون . والحق أنه يصرف عن الإِيمان بهذا القرآن الكريم الذى جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صرفه الله - تعالى - عنه ، بسبب إيثاره الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية ، والكفر على الإِيمان . والتعبير بقوله { مَنْ أُفِكَ } للإِشعار بأن هذا الشقى الذى آثر الكفر على الإِيمان ، قد صرف عن الرشاد وعن الخير صرفا ، ليس هناك ما هو أشد منه فى سوء العاقبة . فهذا التعبير شبيه فى التهويل بقوله - تعالى - { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } قال الجمل { يُؤْفَكُ } يصرف { عَنْهُ } عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم . أى عن الإِيمان به { مَنْ أُفِكَ } أى من صرف عن الهداية فى علم الله - تعالى - . وقيل الضمير للقول المذكور ، أى يرتد ، أى يصرف عن هذا القول من صرف عنه فى علم الله - تعالى - وهم المؤمنون . ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المكذبين فقال { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } . والخراصون جمع خرَّاص ، وأصل الخَرْص الظن والتخمين ، ومنه الخارص الذى يخرص النخلة ليقدر ما عليها من ثمر ، والمراد به هنا الكذب ، لأنه ينشأ غالبا عن هذا الخرص ، والمراد بالآية الدعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله - تعالى . أى لعن وطرد من رحمة الله - تعالى - هؤلاء الكذابون ، الذين قالوا فى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو منزه عنه … والذين هم { فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } أى فى جهالة تغمرهم كما يغمر الماء الأرض . فهم ساهون وغافلون عن كل خير . فالغمرة ما يغمر الشىء ويستره ويغطيه ، ومنه قولهم نهر غَمْر ، أى يغمر من دخله . والمراد أنهم فى جهالة غامرة لقلوبهم . وفى غفلة تامة عما ينفعهم . وهذا التعبير فيه ما فيه من تصوير ما هم عليه من جهالة وغفلة ، حيث يصورهم - سبحانه - وكأن ذلك قد أحاط بهم وغمرهم حتى لكأنهم لا يحسون بشىء مما حولهم . ثم بين - سبحانه - ما كانوا عليه من سوء أدب فقال { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } . و " أيان " بمعنى متى . أى يسألون سؤال استهزاء واستخفاف فيقولون متى يكون هذا البعث الذى تحدثنا عنه يا محمد ، ومتى يوم الجزاء والحساب الذى تهددنا به ؟ وهنا يأتيهم الجواب الذى يردعهم ويبين لهم سوء مصيرهم . فيقول - سبحانه - { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } أى يقع هذا اليوم الذى تسألون عنه وهو يوم البعث والحساب والجزاء … يوم تحرقون بالنار - أيها الكافرون - ، وتعذبون فيها عذاب أليما . و " يفتنون " مأخوذ من الفَتْنِ بمعنى الاختبار والامتحان ، يقال فتَنْتُ الذهب بالنار ، إذا أذبته لتظهر جودته من غيرها . والمراد به هنا الإحراق بالنار . وعدى " يفتنون " بعلى ، لتضمنه معنى يعرضون ، أو على بمعنى فى . وقوله { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ … } مقول القول محذوف . أى هذا اليوم الذى يسألون عنه واقع يوم الجزاء … يوم يقال لهم وهم يعرضون على النار ذوقوا العذاب المعد لكم ، أو ذوقوا سوء عاقبة كفركم . { هَـٰذَا } العذاب المهين ، هو { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } فى الدنيا ، وتقولون - على سبيل الاستهزاء والإِنكار - للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أكدت بأقوى الأساليب وأحكمها ، أن يوم البعث والجزاء والحساب حق ، وأن المكذبين بذلك سيذوقون أشد العذاب . وكعادة القرآن الكريم فى قرن الترغيب بالترهيب أو العكس ، جاء الحديث عن حسن عاقبة المتقين بعد الحديث عن سوء مصير المكذبين فقال - سبحانه - { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي … } .