Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 52, Ayat: 1-16)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

افتتح الله - تعالى - هذه السورة الكريمة بالقسم خمسة أشياء هى من أعظم مخلوقاته ، للدلالة على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، وتفرد ألوهيته … فقال - سبحانه - { وَٱلطُّورِ } والمراد به جبل الطور ، والمشار إليه فى قوله - تعالى - { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ } قال القرطبى والطور اسم الجبل الذى كلم الله - تعالى - عليه موسى ، أقسم الله به تشريفا وتكريما له ، وتذكيرا لما فيه من الآيات … وقيل إن الطور اسم لكل جبل أنبت ، ومالا ينبت فليس بطور . { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أى مكتوب متسق الكتابة ، منتظم الحروف ، مرتب المعانى ، فالمراد بالكتاب المكتوب . وبالمسطور الذى سطرت حروفه وكلماته تسطيرا جميلا حسنا . والأظهر أن المقصود به القرآن الكريم ، لأن الله - تعالى - قد أقسم به كثيراً ، ومن ذلك قوله - سبحانه - { حـمۤ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } { يسۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ } وقيل المقصود به جنس الكتب السماوية المنزلة . وقيل صحائف الأعمال . قال الألوسى قوله { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أى مكتوب على وجه الانتظام ، فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة . والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذى تكتب فيه الأعمال ، ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله ، وقال الكلبى هو التوراة . وقيل القرآن الكريم وقيل اللوح المحفوظ . وقوله فى { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } متعلق بمسطور . أى مسطور فى رق . والرق - بالفتح - كل ما يكتب فيه من ألواح وغيرها . وأصله الجلد الرقيق الذى يكتب عليه . والمنشور المبسوط ، ومنه قوله - تعالى - { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } أى أن هذا الكتاب المسطور ، كائن فى صحائف مبسوطة ظاهرة لكل من ينظر إليها . وقوله . { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } هو بيت فى السماء السابعة تطوف به الملائكة بأمر الله - تعالى - . قال ابن كثير ثبت فى الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فى حديث الإِسراء والمعراج ، بعد مجاوزته إلى السماء السابعة " ثم رفع بى إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله فى كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة " . وقيل المراد بالبيت المعمور هنا البيت الحرام ، وسمى بذلك لأنه معمور بالحجاج والعمار ، { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } ، أى والسماء المرفوعة ، وسميت سقفا لكونها بمثابة السقف للأرض كما قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } أى المملوء بالماء ، يقال ، سجر فلان الحوض إذا ملأه بالماء . أو المسجور بمعنى المملوء بالنار من السَّجْر ، وهو إيقاد النار فى التنور ، ومنه قوله - تعالى - { … ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } والمراد بالبحر هنا جنسه . قال ابن عباس تملأ البحار كلها يوم القيامة بالنار ، فيزاد بها فى نار جهنم . وبهذا نرى أن الله - تعالى - قد أقسم بخمسة أشياء من مخلوقاته ، للدلالة على وحدانيته ، وعلى شمول قدرته ، وعلى بديع صنعته . وجواب هذا القسم قوله - سبحانه - { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } أى وحق هذه المخلوقات الضخمة البديعة ، إن عذاب ربك لواقع وقوعا لا شك فيه على الكافرين يوم القيامة . وقوله { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } خبر ثان لإِن فى قوله { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } أى هو واقع دون أن يستطيع أحد أن يدفعه أو يرده . عن جبير بن مطعم - رضى الله عنه - قال قدمت المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأكلمه فى أسارى بدر ، فجئت إليه وهو يصلى بأصحابه صلاة المغرب ، فسمعته يقرأ { وَٱلطُّورِ } ألى { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } فكأنما صدع قلبى ، فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم مقامى … والظرف فى قوله { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً } متعلق بقوله { لَوَاقِعٌ } ومنصوب به ، أى إن هذا العذاب لواقع يوم تضطرب السماء اضطرابا شديدا ، وتتحرك بمن فيها تحكرا تتداخل معه أجزاؤها . فالمور . هو الحركة والاضطراب والدوران ، والمجىء والذهاب ، والتموج والتكفُّؤُ ، يقال مار الشىء مورا ، إذا تحرك واضطرب . { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } أى عذاب ربك واقع يوم تضطرب السماء بأهلها وتزول الجبال عن أماكنها ، وتتطاير كالسحب ، ثم تتفت كالرمال ، ثم تصير كالصوف المنفوش . قال - تعالى - { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وقال - سبحانه - { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } وقوله { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أى فهلاك وحسرة فى هذا اليوم للمكذبين به . { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أى إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها العاقل - فهلاك وحسرة فى هذا اليوم للمكذبين بالحق ، الذين هم عاشوا حياتهم الدنيا يلهون ويلعبون دون أن يذكروا حسابا ولا ثوابا ولا عقابا . وأصل الخوض المشى فى الماء ، ثم غلب استعماله فى الاندفاع فى كل باطل . ثم بين - سبحانه - حالهم يوم القيامة فقال { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } . والدع الدفع بعنف وشدة . يقال دَعَّ فلان فلانا دَعَّا ، إذا دفعه بجفوة وغلظة ، ومنه قوله - تعالى - { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } أى اذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ ، يوم يدفع هؤلاء المكذبون إلى النار دفعا قويا . لا رحمة معه ، ولا شفقة فيه ، ثم يقال لهم بعد هذا الطرد الشديد هذه هى النار التى كنتم بها تكذبون فى الدنيا ، ادخلوها فبئس مئوى المتكبرين . ثم يقال لهم - أيضا - على سبيل التوبيخ والزجر { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا } أى أفسحر هذا الذى ترونه من العذاب كما كنتم تزعمونه فى الدنيا ؟ { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } أى أم أنتم عمى عن مشاهدة العذاب المعد لكم فلا تبصرونه ؟ لا ، إن هذا العذاب ليس سحرا ، ولستم أنتم بمحجوبين عن رؤيته ، بل هو أمام أعينكم ، ومهيأ لاستقبالكم ، وهذه النار تناديكم ، وملائكتنا تقول لكم { ٱصْلَوْهَا } أى ادخلوها ، وقاسوا حرها { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } أى ادخلوها داخرين فاصبروا على سعيرها أو لا تصبروا ، فهى مأواكم لا محالة . { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } الأمران ، الصبر وعدمه ، لأن كليهما لا فائدة لكم من روائه . فقوله { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف . أى الأمران سواء بالنسبة لكم . { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ } فى هذا اليوم عاقبة ، { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أى فى الدنيا . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؟ قلت لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعة فى العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذى هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع . وكعادة القرآن الكريم فى المقارنة بين سوء عاقبة المكذبين ، وحسن عاقبة المؤمنين ، جاء الحديث عن المتقين ، بعد الحديث عن الكافرين ، فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ … } .