Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 1-18)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتح الله - تعالى - هذه السورة بهذا القسم العظيم ، للدلالة على صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وللرد على أولئك المشركين الجاهلين ، الذين زعموا أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد اختلق القرآن الكريم . والنجم هو الكوكب الذى يبدو للناظرين ، لامعا فى جو السماء ليلا . والمراد به هنا جنسه ، أى ما يشمل كل نجم بازغ فى السماء ، فأل فيه للجنس . وقيل أل فيه للعهد والمراد به نجم مخصوص هو الشعرى ، وهو نجم كان معروفا عند العرب . وقد جاء الحديث عنه فى آخر السورة ، فى قوله - تعالى - { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } قالوا وكانت قبيلة خزاعة تعبده . وقيل المراد به الثريا ، فإنه من النجوم المشهورة عند العرب . وقيل المراد به هنا المقدار النازل من القرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم - وجمعه نجوم ، وقد فسره بعضهم بذلك فى قوله - تعالى - { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } ومعنى " هوى " سقط وغرب . يقال هو الشىء يهوى - بكسر الواو - - هويا - بضم الهاء وفتحها - إذا سقط من أعلى إلى أسفل … قال الآلوسى وأظهر الأقوال ، القول بأن المراد بالنجم ، جنس النجم المعروف ، فإن اصله اسم جنس لكل كوكب . وعلى القول بالتعيين ، فالأظهر القول بأنه الثريا ووراء هذين القولين ، القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن … وقوله - سبحانه - { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } . جواب القسم . و " ما " نافية . و " ضل " من الضلال ، والمراد به هنا عدم الاهتداء إلى الحق ، وإلى الطريق المستقيم . و " غوى " من الغى ، وهو الجهل الناشىء من اعتقاد فاسد ، وهو ضد الرشد … و " الهوى " الميل مع شهوات النفس ، دون التقيد بما يقتضيه الحق ، أو العقل السليم . والمعنى وحق النجم الذى ترونه بأعينكم - أيها المشركون - عند غروبه وأفوله ، وعند رجمنا به للشياطين … إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسلناه إليكم - { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } ما ضل عن طريق الحق فى أقواله وأفعاله ، وما كان رأيه مجانبا للصواب فى أمر من الأمور ، وما ينطق بنطق صادر عن هوى نفسه ورأيه ، وإنما ينطق بما نوحيه إليه من قرآن كريم ، ومن قول حيكم ، ومن توجيه سديد . وقد أقسم - سبحانه - بالنجم عند غروبه ، للإِشعار بأن هذا المخلوق العظيم مسخر لإِرادة الله - تعالى - وقدرته فهو مع لمعانه وظهوره فى السماء لا يتأبى عن الغروب والأفول ، إذا ما أراد الله - تعالى - له ذلك ، ولا يصلح أن يكون إلها ، لأنه خاضع لإِرادة خالقه . ولقد حكى - سبحانه - عن نبيه إبراهيم أنه حين { جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } قال بعض العلماء والوجه أن يكون قوله { إِذَا هَوَىٰ } بدل اشتمال من النجم ، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ، ومن أعظم أحواله حال هويّه وسقوطه ، ويكون " إذا " اسم زمان مجردا عن معنى الظرفية ، فى محل جر بحرف القسم … وقال - سبحانه - { صَاحِبُكُمْ } للإِشارة إلى ملازمته - صلى الله عليه وسلم - لهم ، طوال أربعين سنة قبل البعثة ، وأنهم فى تلك المدة الطويلة لم يشاهدوا منه إلا الصدق ، والأمانة ، والعقل الراجح ، والقول السديد … وأنهم لم يخف عليهم حاله بل كانوا مصاحبين له ، ومطلعين على سلوكه بينهم ، فقولهم بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إنه ساحر أو مجنون … هو نوع من كذبهم البين ، وجهلهم المطبق … وقوله { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } استئناف بيانى مؤكد لما قبله . والضمير " هو " يعود إلى المنطوق به ، المفهوم من قوله - تعالى - { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } . أى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يصدر نطقه فيما يأتيكم به عن هوى نفسه ورأيه ، وإنما الذى ينطق به ، هو وحى من الله - تعالى - أوحاه إليه على سبيل الحقيقة التى لا يحوم حولها شك أو ريب . ومتعلق " يوحى " محذوف للعلم به . أى ما هذا الذى ينطق به إلا وحى أوحاه - سبحانه - إلى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - . قال الإِمام ابن كثير قوله { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } أى إنما يقول ما أمر بتبليغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان … فعن عبد الله بن عمرو قال " كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه ، فنهتنى قريش فقالوا إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم فى الغضب ، فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك له ، فقال " اكتب فوالذى نفسى بيده ، ما خرج منى إلا الحق " . وعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " " لا أقول إلا حقا " فقال بعض أصحابه فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال " إنى لا أقول إلا حقا " . وقال صاحب الكشاف ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، ويجاب بأن الله - تعالى - إذا سوغ لهم الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من صفات جبريل - عليه السلام - الذى ينزل بالقرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } . أى علَّمَ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - القرآن ، ملك من ملائكتنا الكرام ، وهو جبريل - عليه السلام - الذى أعطيناه قوة شديدة ، استطاع بها أن ينفذ ما كلفناه بتنفيذه . والضمير المنصوب فى " علمه " هو المفعول الأول ، والثانى محذوف . أى القرآن ، لأن علَّم تتعدى إلى مفعولين . وقوله { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } صفة لموصوف محذوف . أى ملك شديد القوى . قالوا وقد بلغ من شدة قوته ، أنه اقتلع قرى قوم لوط - عليه السلام - ثم رفعها إلى السماء ، ثم قلبها . بأن جعل أعلاها أسفلها … وقوله - تعالى - { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } صفة أخرى من صفات جبريل - عليه السلام - والمرة - بكسر الميم - تطلق على قوة الذات ، وحصافة العقل ورجاحته ، مأخوذ من أمررت الحبل ، إذا أحكمت فتله … وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ … } وقوله { فَٱسْتَوَىٰ } أى فاستقام على صورة ذاته الحقيقية ، دون الصورة الآدمية التى كان ينزل بها على الرسول - صلى الله عليه وسلم - . { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } أى وهو - أى جبريل - بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر إليها { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } أى ثم قرب جبريل - عليه السلام - من النبى - صلى الله عليه وسلم - { فَتَدَلَّىٰ } أى فانخفض من أعلى إلى أسفل … وأصل التدلى أن ينزل الشىء من طبقته إلى ما تحتها ، حتى لكأنه معلق فى الهواء ، ومنه قولهم تدلت الثمرة إذا صارت معلقة فى الهواء من أعلى إلى أسفل … ثم صور - سبحانه - شدة قرب جبريل من النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } والقاب المقدار المعين وقيل هو ما بين وتر القوس ومقبضها … والقوس آلة معروفة عند العرب ، يشد بها وتر من جلد ، وتستعمل فى الرمى بالسهام . وكان من عادة العرب فى الجاهلية ، أنهم إذا تحالفوا ، يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى ، فيكون قاب إحداهما ملاصقا للآخر ، حتى لكأنهما قاب واحد ، ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا ، فيكون ذلك دليلا على التحالف التام والرضا الكامل … والمعنى أن جبريل - عليه السلام - بعد أن كان بالجهة العليا من السماء ، ثم قرب من النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ثم زاد فى القرب ، حتى كان على مقدار مسافة قوسين منه - صلى الله عليه وسلم - أو أقرب من ذلك . قال صاحب الكشاف قوله { قَابَ قَوْسَيْنِ } مقدار قوسين عربيتين ، والقاب والقيب ، والقاد والقيد ، المقدار … وقد جاء التقدير بالقوس ، والرمح ، والسوط ، والذراع ، والباع ، والخطوة والشبر … ومنه الحديث الشريف " لقاب قوس أحدكم من الجنة ، وموضع قده ، خير من الدنيا وما فيها " والقد السوط … فإن قلت كيف تقدير قوله { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } ، قلت تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات … و " أو " فى قوله { أَوْ أَدْنَىٰ } للشك ، ولكن هذا الشك من جهة العباد ، أى أن الرائى إذا رأى هذا الوضع قال هو قاب قوسين أو أقرب من ذلك ، ويصح أن تكون بمعنى " بل " . قال الجمل قوله { أَوْ أَدْنَىٰ } هذه الآية كقوله وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ لأن المعنى فكان - جبريل - بأحد هذين المقدارين فى رأى الرائى . أى لتقارب ما بينهما يشك الرائى فى ذلك . وأدنى أفعل تفضيل . والمفضل عليه محذوف . أى أو أدنى من قاب قوسين . ويصح أن تكون بمعنى بل ، أى بل هو أدنى … وقوله { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } أى فأوحى جبريل - عليه السلام - إلى عبد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أوحى من قرآن كريم ، ومن هدى حكيم . فالضمير فى قوله { فَأَوْحَىٰ } أى جبريل ، لأن الحديث فى شأنه وإيحاؤه إنما هو بأمر الله - تعالى - ومشيئته ، ويرى بعضهم أنه يعود إلى الله - تعالى - . قال الآلوسى قوله { فَأَوْحَىٰ } أى جبريل { إِلَىٰ عَبْدِهِ } أى عبد الله ، وهو النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والإضمار - ولم يجر له - تعالى - ذكر ، لكونه فى غاية الظهور ، ومثله كثير فى الكلام ، ومنه { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ … } { مَآ أَوْحَىٰ } أى الذى أوحاه ، والضمير المستتر لجبريل - أيضا - . وقيل الضمير المستتر لله - تعالى - . أى أوحى جبريل إلى عبد الله ، ما أوحاه الله إلى جبريل . والأول مروى عن الحسن ، وهو الأحسن . وقيل ضمير أوحى الأول والثانى لله - تعالى - والمراد بالعبد جبريل - عليه السلام - وهو كما ترى … وأبهم - سبحانه - ما أوحاه ، لتفخيم شأنه ، وإعلاء قدره ، حتى لكأنه لا تحيط به عبارة ، ولا يحده الوصف ، وشبيه بهذا التعبير قوله - تعالى - { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ … } وعبر - سبحانه - عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعبده ، وأضافه إليه ، للتشريف والتكريم ، ولبيان أنه عبد من عباده - تعالى - الذين اصطفاهم لحمل رسالته ، وتبليغ ما أوحاه إليه . وقوله { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } رد على المشركين ، وتكذيب لهم ، فيما زعموه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتلق الوحى عن جبريل ، ولم يشاهده . واللام فى قوله { ٱلْفُؤَادُ } عوض عن المضاف إليه ، والفؤاد العقل أو القلب ، ومنه قوله - تعالى - { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِه … } وقراءة الجمهور { كَذَبَ } بفتح الذال مع التخفيف ، وقرأ ابن عامر بفتحها مع التشديد ، و " ما " موصولة ، والعائد محذوف . أى ما كذب فؤاد النبى - صلى الله عليه وسلم - وما أنكر ، الذى رآه ببصره من صورة جبريل - عليه السلام - لأنه لم يكن يجهله ، بل كان معروفا لديه ، وصاحب الوحى إليه ، فهو - صلى الله عليه وسلم - عرفه بقبله ، وتأكدت هذه المعرفة برؤيته له بعينيه . فالكذب هنا بمعنى الإِنكار والتردد و الشك فى صحة ما يراه . قال صاحب الكشاف قوله { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } أى ما كذب فؤاد النبى - صلى الله عليه وسلم - ما رآه ببصره من صورة جبريل - عليه السلام - . أى ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، ولو قال ذلك - على سبيل الفرض - لكان كاذبا لأنه عرفه ، يعنى أنه رآه بعينه ، وعرفه بقلبه ، ولم يشك فى أن ما رآه حق . وقرىء { مَا كَذَّبَ } - بالتشديد - ، أى صدقه ولم يشك أنه جبريل بصورته . ثم وبخ - سبحانه - المشركين على تكذيبهم للنبى - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبرهم عنه من شئون الوحى ، فقال { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } . والمماراة المجادلة والملاحاة بالباطل . يقال مارَى فلان فلانا مماراة ومِرَاء ، إذا جادله ، مأخوذ من مَرَى الناقة يَمْريها . إذا مسح ضرعها ليستدر لبنها ، ويأخذه كاملا ، فشبه الجدال بذلك ، لأن كل واحد من المتجادلين يَمرِّى ما عند صاحبه ، أى يسعى لاستخراج كل ما عنده ، حتى يقيم الحجة عليه . وعدى الفعل بعلى لتضمنه معنى المغالبة . أى أفتجادلون نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيما رآه بعينيه ، وتجادلونه فى شىء هو تحقق منه بعقله وبصره ، وهو ملاقاته ورؤيته لأمين وحينا جبريل - عليه السلام - ؟ إن مجادلتكم له فى ذلك ، هو من قبيل التعنت الواضح ، والجهل الفاضح ، لأنكم كذبتموه وجادلتموه فى شىء هو قد رآه وتحقق منه ، وأنتم تعلمون أنه صادق أمين . فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم وتجهيلهم على جدالهم بالباطل . هذا وقد ذكر العلماء ، أن هذه الآيات ، تشير إلى رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لجبريل ، على الهيئة التى خلقه الله - تعالى - عليها ، فقد كان جبريل يأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فى صورة آدمى ، فسأله أن يريه نفسه على صورته التى خلق عليها ، فأراه نفسه مرتين مرة فى الأرض وهى التى تشير إليها هذا الآيات ، ومرة فى السماء ، وهى التى تشير إليها الآيات التالية . وقد توسع الإِمام ابن كثير فى ذكر الأحاديث التى وردت فى ذلك فقال ما ملخصه عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ير جبريل فى صورته إلى مرتين ، أما واحدة فإنه سأله أن يراه فى صورته ، فسد الأفق ، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد … وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ … } إشارة إلى المرة الثانية التى رأى فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - جبريل على هيئته التى خلقه الله - تعالى - عليها ، وكان ذلك فى ليلة الإِسراء والمعراج . أى والله لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل فى صورته التى خلق عليها ، حالة كونه نازلا من السماء نزلة أخرى . وقد جاء الإِخبار عن هذه الرؤية بصيغة مؤكدة بلام القسم وبقد … للرد على المشركين الذين أنكروا ذلك ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم لئن كنتم قد أنكرتم هذه الرؤية فى الأرض ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يره فى الأرض فقط ، بل رآه رؤية أعظم من ذلك ، وهى رؤيته له فى السماء ، حين كان مصاحبا له فى رحلته ليلة الإِسراء والمعراج . قال الآلوسى { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } أى رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - جبريل فى صورته التى خلقه الله عليها { نَزْلَةً أُخْرَىٰ } أى مرة أخرى ، وهى فعلة من النزول ، أقيمت مقام المرة ، ونصبت نصبها على الظرفية ، لأن أصل المرة مصدر مر يمر ، ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه . ولم يقل مرة بدل نزلة ، ليفيد أن الرؤية فى هذه المرة ، كانت بنزول ودنو ، كالرؤية فى المرة الأولى ، الدال عليها ما مر … والمراد من الجملة القسمية ، نفى الريبة والشك عن المرة الأخيرة ، وكانت ليلة الإِسراء . وقوله { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } بيان للمكان الذى تمت عنده الرؤية الثانية . والسدرة فى الأصل تطلق على شجرة النَّبِق ، وهو ثمر معروف فى بلاد العرب . والمنتهى اسم مكان ، أو مصدر ميمى بمعنى الانتهاء . وإضافة السدرة إليه ، من باب إضافة الشىء إلى مكانه ، كما فى قولهم أشجار البستان . أو من إضافة المحل إلى الحال ، كما فى قولك كتاب الفقه أو النحو … وسمى هذا المكان بسدرة المنتهى ، لانتهاء علوم الخلائق عنده ، وما وراءه لا يعلمه إلا الله - تعالى - . أخرج الإِمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال لما أسرى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهى فى السماء السابعة وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها . وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها . ثم بين - سبحانه - ما يدل على شرف هذا المكان فقال { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } . أى عند سدرة المنتهى ، جنة المأوى . أى الجنة التى تأوى وتسكن إليها أرواح المؤمنين الصادقين ، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه . ثم نوه - سبحانه - بما يحيط بذلك المكان من جلال وجمال لا تحيط العبارة بوصفه فقال { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } . والظرف " إذ " . فى موضع الحال من " سدرة المنتهى " ، لقصد الإِشادة بما أحاط بذلك المكان من شرف وبهاء … أو هو متعلق بقوله { رَآهُ } . أى ولقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - جبريل - عليه السلام - على هيئته التى خلقه الله عليها مرة أخرى ، عند ذلك المكان الجليل المسمى بسدرة المنتهى ، حالة كون هذا المكان ينزل به ما ينزل ، ويغشاه ما يغشاه من الفيوضات الربانية ، والأنوار القدسية ، والخيرات التى لا يحيط بها الوصف … فهذا الإِبهام فى قوله { مَا يَغْشَىٰ } المقصود به التهويل والتعظيم والتكثير ، لما يغشى هذا المكان من خيرات وبركات … وقوله - تعالى - { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } بيان لما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - من ثبات واطمئنان عند رؤيته لما أذن الله - تعالى - له فى رؤيته . والزيغ هو الميل عن حدود الاستقامة . والطغيان تجاوز الحدود المشروعة . أى ما مال بصر النبى - صلى الله عليه وسلم - عما أذن الله - تعالى - له فى رؤيته . وما تجاوزه إلى ما لم يؤذن له فى رؤيته ، بل كان بصره - صلى الله عليه وسلم - منصبا على ما أبيح له النظر إليه . فالمقصود من الآية الكريمة ، الثناء على النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ووصفه بما هو أهله من أدب وطاعة لخالقه - عز وجل - . قال ابن كثير قوله { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } قال ابن عباس ما ذهب يمينا ولا شمالا ، وما جاوز ما أمر به ، وهذه صفة عظيمة فى الثبات والطاعة . فإنه ما فعل إلا ما أمر به ، ولا سأل فوق ما أعطى ، وما أحسن قول القائل @ رأى جنة المأوى وما فوقها ولو رأى غيره ما قد رآه لتاها @@ ثم عظم - سبحانه - من شأن ما أراه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } . والكلام جواب لقسم محذوف ، والآيات جمع آية ، والمراد بها العجائب التى أطلع الله - تعالى - عليها نبيه - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الليلة ، وهى ليلة الإِسراء والمعراج . والكبرى صفة لهذه الآيات ، وحذف المرئى لتفخيم أمره وتعظيمه . أى والله لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الليلة أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف ، وقد أكرمناه برؤيتها ليزداد يقينا على يقينه ، وثباتا على ثباته ، وقوة على قوته فى تبليغ رسالتنا ، وحمل أمانتنا . هذا ، وقد جرينا فى تفسيرنا لهذه الآيات على الرأى الذى سار عليه المحققون من العلماء وهو أن هذه الآيات تحكى رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لجبريل مرتين ، كما سبق أن بينا ، وأن الضمائر فى تلك الآيات منها ما يرجع إلى جبريل ، ومنها ما يرجع إلى الله - عز وجل - . وقد أعدنا كل ضمير إلى مرجعه الذى نراه مناسبا للمقام … فمثلا الضمير المنصوب فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } قلنا إنه يعود إلى جبريل . أى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على هيئته التى خلقه الله عليها مرة أخرى ، غير المرة الأولى التى كانت فى أوائل بعثته - صلى الله عليه وسلم - . ولكن بعض المفسرين يرون أن مرجع الضمير فى هذه الآية وغيرها ، يعود إلى الله - تعالى - ، ويستدلون بذلك على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه . وقد فصل القول فى هذه المسألة الإِمام الآلوسى فقال ما ملخصه فالضمائر فى " دنا " " وتدلى " " وأوحى … " وكذلك الضمير المنصوب فى " رآه " لله - عز وجل - … واستدل بذلك مثبتو رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - كابن عباس وغيره … وخالفت فى ذلك عائشة - رضى الله عنها - فقد أخرج مسلم عن مسروق قال " كنت عند عائشة فقالت ثلاث من تكلم بواحدة منهن ، فقد أعظم على الله - تعالى - الفرية . قلت ما هن ؟ قالت من زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد كذب . ومن زعم أن محمدا كتم شيئا فقد كذب ، ومن زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، فقلت يا أم المؤمنين ألم يقل الله - تعالى - { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } ؟ . فقالت أنا أول من سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال " لا ، إنما هو جبريل ، لم أره على صورته التى خلق عليها سوى هاتين المرتين . رأيته منهبطا من السماء سادا ما بين السماء إلى الأرض " . ثم قال الآلوسى ولا يخفى أن جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عائشة ، ظاهر فى أن الضمير المنصوب فى { رَآهُ } ليس راجعا إليه - تعالى - ، بل إلى جبريل - عليه السلام - … والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها ترد على المشركين مزاعمهم ، بأبلغ أسلوب ، وأقوى بيان ، وتثبت أن هذا القرآن ، قد بلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - دون أن يزيد فيه شيئا ، أو ينقص منه شيئا ، وأنه - سبحانه - قد أعطى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات ، ومن الخيرات والبركات . . ما لم يعط غيره . وبعد هذا التصوير البديع لما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - من حق واضح ، ومن تكريم عظيم ومن طاعة تامة لخالقه - عز وجل - بعد كل ذلك أخذت السورة الكريمة ، فى تصوير ما عليه المشركون من باطل وجهل وفى تبكيتهم على عبادتهم لأصنام لا تسمع ولا تبصر ، ولا تملك الدفاع عن نفسها فضلا عن غيرها … فقال - تعالى - { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ … } .