Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 33-62)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ذكر المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } منها أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة ، كان قد سمع قراءة النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وجلس إليه ووعظه ، فَهَمَّ أن يدخل فى الإِسلام . فعاتبه رجل من المشركين ، وقال له أتترك ملة آبائك ؟ ارجع إلى دينك ، واثبت عليه ، وأنا أتحمل عنك كل شىء تخافه فى الآخرة ، لكن على أن تعطينى كذا وكذا من المال . فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عماهم به من الدخول فى الإِسلام ، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ، ثم أمسك عن الباقى ، وبخل به ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات … والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتَ … } للتعجيب من حال هذا الإِنسان ، الذى أعرض عن الحق ، بعد أن عرف الطريق إليه . أى أفرأيت - أيها الرسول الكريم - حالا أعجب من حال هذا الإِنسان الذى تولى عن الهدى ، ونبذه وراء ظهره ، بعد أن قارب الدخول فيه . { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً } من العطاء { وَأَكْدَىٰ } أى ثم قطع هذا العطاء . قال صاحب الكشاف { وَأَكْدَىٰ } أى وقطع عطيته وأمسك ، وأصله إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كديه ، وهى صلابة كالصخر فيمسك عن الحفر … والمراد به هنا ذمه بالبخل والشح ، بعد ذمه بالتولى عن الحق . { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } أى أعند هذا الإِنسان الذى أعرض عن الرشد ، علم الغيوب المستترة عن الأعين والنفوس ، فهو وحده يراها ، ويطلع عليها ويعلم أن فى إمكان الغير أن يحمل عنه أوزاره وذنوبه يوم القيامة ؟ . كلا ، إنه لا علم عنده بشىء من ذلك ، وإنما هو قد ارتد على أعقابه ، لانطماس بصيرته . بعد أن قارب الرشد والصواب . فالاستفهام فى قوله { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ … } للنفى والإِنكار . وقدم - سبحانه - الظرف " عنده " وهو مسند ، على " علم الغيب " وهو مسند إليه ، لإِفادة الاهتمام بهذه العندية التى من أعجب العجب ادعاؤها ، وللإِشعار بأنه بعيد عنها بعد الأرض عن السماء . والفاء فى قوله { فَهُوَ يَرَىٰ } للسببية ، ومفعول { يَرَىٰ } محذوف . أى فهو بسبب معرفته للعوالم الغيبية ، يبصر رفع العذاب عنه ، ويعلم أن غيره سيتكفل بافتدائه من هذا العذاب . ثم وبخه - سبحانه - على جهالته وعدم فهمه فقال { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ … } . و " أم " هنا للإِضراب الانتقالى من ذمه على إعراضه وبخله ، إلى ذمه على جهله وحمقه ، وصحف موسى هى التوراة التى أنزلها - سبحانه - عليه . وصحف إبراهيم هى الصحف التى أوحى الله - تعالى - إليه بما فيها ، وقد ذكر سبحانه ذلك فى قوله تعالى { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } وخصت صحف هذين النبيين الكريمين بالذكر ، لأنها كانت أشهر من غيرها عند العرب ، وكانوا يسألون أهل الكتاب من اليهود عما خفى عليهم من صحف موسى . وقدم - سبحانه - هنا صحف موسى ، لاشتهارها بسعة الأحكام التى اشتملت عليها ، بالنسبة لما وصل إليهم من صحف إبراهيم . وأما فى سورة الأعلى فقدمت صحف إبراهيم على صحف موسى لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى ، وصحف إبراهيم أقدم من صحف موسى ، فكان الإِتيان بهما على الترتيب الزمنى أنسب بالمقام . وحذف - سبحانه - متعلق " وفَّى " ليتناول كل ما يجب الوفاء به ، كمحافظته على أداء حقوق الله - تعالى - ، واجتهاده فى تبليغ الرسالة التى كلفه - سبحانه - بتبليغها ، ووقوفه عند الأوامر التى أمره - تعالى - بها ، وعند النواهى التى نهاه عنها … و أن فى قوله - تعالى - { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } مخففة من الثقيلة . واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة بدل من صحف موسى وإبراهيم . وقوله { تَزِرُ } من الوزر بمعنى الحمل … وقوله { وَازِرَةٌ } صفة لموصوف محذوف . أى نفس وازرة . والمعنى إذا كان هذا الإِنسان المتولى عن الحق … جاهلا بكل ما يجب العلم به من شئون الدين ، فهلا سأل العلماء عن صحف موسى وإبراهيم - عليهما السلام - ففيها أنه لا تحمل نفس آئمة حمل أخرى يوم القيامة . قال الآلوسى وقوله { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أى أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل ، حمل نفس أخرى … ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره . ليتخلص الثانى من عقابه . ولا يقدح فى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فإن ذلك وزر الإِضلال الذى هو وزره لا وزر غيره . وقوله تعالى - { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ … } معطوف على ما قبله ، لبيان عدم إثابة الإِنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب سواه . أى كما أنه لا تحمل نفس آثمة حمل نفس اخرى ، فكذلك لا يحصل الإِنسان إلا على نتيجة عمله الصالح ، لا على نتيجة عمل غيره . فالمراد بالسعى فى الآية . السعى الصالح ، والعمل الطيب ، لأنه قد جاء فى مقابلة الحديث عن الأوزار والذنوب . وقوله - تعالى - { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } بيان لثمرة هذا السعى الصالح يوم القيامة . أى ليس للإِنسان إلا ثمرة عمله الصالح بدون زيادة أو نقص ، وهذا العمل الصالح سوف يراه مسجلا أمامه فى صحف مكرمة ، وفى ميزان حسناته ، ثم يجازيه الله - تعالى - عليه الجزاء التام الكامل . الذى لا نقص فيه ولا بخس . وفى رؤية الإِنسان لعمله الصالح يوم القيامة ، تشريف وتكريم له ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } هذا ، وقد توسع العلماء فى الجمع بين قوله - تعالى - { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } وبين النصوص التى تفيد أن الإِنسان قد ينتفع بعمل غيره ، وهذه خلاصة لأقوالهم قال الإِمام ابن كثير ومن هذه الآية استنبط الشافعى ومن اتبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى . لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء . فأما الدعاء والصدقة ، فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما . وأما الحديث الذى رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به " . فهذه الثلاثة فى الحقيقة . هى من سعيه وكده وعمله . وقال الجمل فى حاشيته على الجلالين واستشكل الحصر فى هذه الآية { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } بقوله - تعالى - فى آية أخرى { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ … } وبالأحاديث الواردة فى ذلك كحديث " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث … " . وأجيب بأنها مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى ، لأنها حكاية لما فى صحفهم ، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هى ، وما سعى لها غيرها ، لما صح من أن لكل نبى وصالح شفاعة . وهو انتفاع بعمل الغير ، ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإِنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة واجتماع الأمة ، وحينئذ فالظاهر أن الآية عامة ، قد خصصت بأمور كثيرة … ثم قال الشيخ الجمل - رحمه الله - وقال الشيخ تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية من اعتقد أن الإِنسان لا ينتفع إلا بعمله . فقد خرق الإِجماع . وذلك باطل من وجوه كثيرة أحدها أن الإِنسان ينتفع بدعاء غيره . وهو انتفاع بعمل الغير . ثانيها أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف فى الحساب ثم لأهل الجنة فى دخولها . ثالثها أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الكبائر فى الخروج من النار ، وهذا انتفاع بسعى الغير . رابعها أن الملائكة يستغفرون ويدعون لمن فى الأرض ، وذلك منفعة بعمل الغير . خامسها أن الله - تعالى - يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط - أى من المؤمنين - بمحض رحمته ، وهذا انتفاع بغير عملهم . سادسها أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير . سابعها قال الله - تعالى - فى قصة الغلامين اليتيمين { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } فانتفعا بصلاح أبيهما ، وليس من سعيهما . ثامنها أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعتق ، بنص السنة والإِجماع ، وهو من عمل الغير . تاسعها أن الحج المفروض يسقط عن الميت ، بحج وليه بنص السنة ، وهو انتفاع بعمل الغير . عاشرها أن الحج المنذور أو الصوم المنذور ، يسقط عن الميت بعمل غيره ، وهو انتفاع بعمل الغير . حادى عشر المدين قد امتنع - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر على بن أبى طالب ، وانتفع بصلاة النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو من عمل الغير . ثانى عشر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلى وحده " ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه " فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير . ثالث عشر أن الإِنسان تبرأ ذمته من ديون الغير ، إذا قضاها عنه قاض ، وذلك انتفاع بعمل الغير . رابع عشر أن من عليه تبعات ومظالم ، إذا حلل منها سقطت عنه ، وهذا انتفاع بعمل الغير . خامس عشر أن الجار الصالح ينفع فى المحيا وفى الممات - كما جاء فى الأثر - وهذا انتفاع بعمل الغير . سادس عشر أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ، وهو لم يكن معهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له ، والأعمال بالنيات ، فقد انتفع بعمل غيره . سابع عشر الصلاة على الميت ، والدعاء له فى الصلاة ، انتفاع للميت بصلاة الحى عليه وهو عمل غيره . ثامن عشر أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذا الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض . تاسع عشر أن الله - تعالى - قال لنبيه { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } وقال - تعالى - { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ … } فقد رفع الله - تعالى - العذاب عن بعض الناس بسبب بعض ، وذلك انتفاع بعمل الغير . تمام العشرين أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ، فإنه ينتفع بذلك من يُخرِج عنه ، ولا سعى له فيها . ثم قال - رحمه الله - ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإِنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة ، على خلاف صريح الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة … والخلاصة أن الآية الكريمة فقد تكون من قبيل العام الذى قد خص بأمور كثيرة . كما سبق أن أشرنا ، وقد تكون مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام - ، لأنها حكاية عما فى صحفهما ، أما الأمة الإِسلامية فلها سعيها ، ولها ما سعى لها به غيرها ، وهذا من فضل الله ورحمته بهذه الأمة . وقد قال بعض الصالحين فى معنى هذه الآية ليس للإِنسان إلا ما سعى عدلا ، ولله - تعالى - أن يجزيه بالحسنة ألفا فضلا . ولهذه المسألة تفاصيل أخرى فى كتب الفقه ، فليرجع إليها من شاء . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته ورحمته ، فقال - تعالى - { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } . أى وأن إلى ربك وحده - لا إلى غيره - انتهاء الخلق ومرجعهم ومصيرهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . فقوله { ٱلْمُنتَهَىٰ } مصدر بمعنى الانتهاء ، والمراد بذلك مرجعهم إليه - تعالى - وحده ، { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } أى وأنه - سبحانه - هو الذى أوجد فى هذا الكون ما يؤدى إلى ضحك الإِنسان وسروره تارة ، وما يؤدى إلى حزنه وبكائه تارة أخرى ، فبسبب ما يحيط بالإنسان من مؤثرات ومن مشاعر مختلفة تارة يضحك وتارة يبكى . وما أكثر هذه المؤثرات والأحوال والاعتبارات والدوافع … فى حياة الإِنسان . فالآية الكريمة انتقال من وجوب الاعتبار بأحوال الآخرة إلى وجوب الاعتبار بأحوال الإِنسان ، وبما يحيط به من مؤثرات تارة تضحكه وتارة تبكيه . وأسند - سبحانه - الفعلين إليه لأنه هو خالقهما ، وهو الموجد لأسبابهما . وحذف - سبحانه - المفعول به لهما ، لأنهما هما المقصودان بالذات ، لدلالتهما على كمال قدرته - تعالى - أى وأنه وحده - عز وجل - هو الذى أوجد فى الإِنسان الضحك والبكاء ، فالفعلان منزلان منزلة الفعل اللازم . وقدم - سبحانه - الضحك على البكاء ، للإِشعار بمزيد فضله ومنته على عباده . وقوله { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أى وأنه - تعالى - بقدرته وحدها ، هو الذى أحيا من يريد إحياءه من مخلوقاته ، وأمات من يريد إماتته منهم . وهذا رد على أولئك الجاهلين الذين أنكروا ذلك ، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { … مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ … } وقوله - سبحانه - { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } . وأصل النطفة الماء الصافى ، أو القليل من الماء الذى يبقى فى الدلو أو القربة ، وجمعها نطف ونطاف ، يقال نطفت القربة ، أذا تقاطر ماؤها بقلة . وقوله { تُمْنَىٰ } أى تتدفق فى رحم المرأة ، يقال أمْنَى الرجل وَمنَى إذا خرج منه المَنِىِّ . أى وأنه - تعالى - وحده ، هو الذى خلق الزوجين الكائنين من الذكر والأنثى ، من نطفة تتدفق من الرجل إلى رحم الأنثى ، فتلتقى ببويضة الأنثى ، فيكون منهما الإِنسان - بإذن الله - . كما قال - تعالى - { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } وقوله - سبحانه - { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } أى وأن عليه وحده - سبحانه - الإِحياء بعد الإِماتة ، والإِعادة إلى الحياة مرة أخرى يوم البعث والنشور . والنشأة هى المرة من الإِنشاء ، أى الإِيجاد والتكوين والحلق ، والأخرى مؤنث الأخير ، والمراد أنه - سبحانه - يوجد النشأة التى لا نشأة بعدها . وقوله { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أى وأنه - سبحانه - هو الذى أغنى الناس بالأموال الكثيرة المؤثلة ، التى يقتنيها الناس ويحتفظون بها لأنفسهم ولمن بعدهم . فقوله { أَقْنَىٰ } من القنية بمعنى الادخار للشىء ، والمحافظة عليه . قال الآلوسى قوله { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } أى وأعطى القُنْية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ، ببقاء نفسه ، كالرياض والحيوان والبناء . وأفرد - سبحانه - ذلك بالذكر مع دخوله فى { أَغْنَىٰ } لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها … وإنما لم يذكر المفعول ، لأن القصد إلى الفعل نفسه … وقوله { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } أى وأنه - سبحانه - هو رب ذلك الكوكب المضىء ، الذى يطلع بعد الجوزاء فى شدة الحر ، ويسمى الشعرى اليمانية . وخص هذا النجم بالذكر ، مع أنه - تعالى - هو رب كل شىء لأن بعض العرب كانوا يعبدون هذا الكوكب ، فأخبرهم - سبحانه - بأن هذا الكوكب مربوب له - تعالى - وليس ربا كما يزعمون . قال القرطبى واختلف فيمن كان يعبده فقال السدى كانت تعبده حمير وخزاعة . وقال غيره أول من عبده رجل يقال له أبو كبشة ، أحد أجداد النبى - صلى الله عليه وسلم - من جهة أمهاته ، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبى - صلى الله عليه وسلم - ابن أبى كبشة . حين دعاهم إلى ما يخالف دينهم … وبعد هذه الجولة فى الأنفس والآفاق ، ساقت السورة جانبا من مصارع الغابرين ، فقال - تعالى - { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } . أى وأنه - تعالى - هو الذى أهلك بقدرته قبيلة عاد الأولى ، وهم قوم هود - عليه السلام - . وسميت قبيلة عاد بالأولى ، لتقدمها فى الزمان على قبيلة عاد الثانية ، التى هى قوم صالح - عليه السلام - ، وتسمى - أيضا - بثمود . وقوله { وَثَمُودَ } معطوف على عاد . أى وأنه أهلك - أيضا - قبيلة ثمود ، دون أن يبقى منهم أحدا . وهلاك هاتين القبيلتين قد جاء فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } وقوله { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ … } أى وأهلك - أيضا - قوم نوح من قبل إهلاكه لعاد وثمود … { إِنَّهُمْ كَانُواْ } أى قوم نوح { هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } أى هم كانوا أشد فى الظلم والطغيان من عاد وثمود ، فقد آذوا نوحا - عليه السلام - أذى شديدا ، استمر صابرا عليه زمنا طويلا . وكان هلاكهم بالطوفان ، كما قال - تعالى - { فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } وقدم قبيلتى عاد وثمود فى الذكر على قوم نوح - مع أن قوم نوح أسبق - لأن هاتين القبيلتين كانتا مشهورتين عند العرب أكثر ، وديارهم معروفة لهم . والمراد بالمؤتفكات قوم لوط - عليه السلام - ، وسموا بذلك لأن قريتهم ائتفكت بأهلها ، أى انقلبت راسا على عقب . يقال أفَكَه عن كذا يَأْفِكُه إذا قلبه وصرفه . ومنه الإِفك ، لأنه قلب للحق عن وجهه الصحيح . أى وأهلك - سبحانه - القرى المؤتفكة بأهلها ، بأن أهوى بها جبريل - عليه السلام - إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } أى فأصابها ما أصابها من العذاب المهين ، والدمار الشامل ، كما قال - تعالى - { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } ويجوز أن يكون الضمير فى { فَغَشَّاهَا } يعود إلى جميع الأمم المذكورة ، وأبهم - سبحانه - ما غشيهم من عذاب ، للتهويل والتعميم . وقوله - سبحانه - { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } تذكير بنعم الله - تعالى - بعد التحذير من نقمة . أى فبأى نعمة من نعم الله - تعالى - تتشكك أيها الإِنسان . والآلاء جمع إلًى ، وأى اسم استفهام المقصود به التذكير بهذه النعم . وسمى - سبحانه - ما مر فى آيات السور نعما ، مع أن فيها النعم والنقم ، لأن فى النقم عظات للمتعظين ، وعبرا للمعتبرين ، فهى نعم بهذا الاعتبار . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الانذار الشديد ، فقال - تعالى - { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } والنذير بمعنى المنذر ، وهو من يخبر غيره بخبر فيه مضرة به ، لكى يحذره . أى هذا الرسول الكريم ، وما جاء به من قرآن حكيم ، نذير لكم - أيها الناس - من جنس الإِنذارات الأولى . التى أتى بها الأنبياء السابقون لأممهم فاحذروا مخالفة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لأن مخالفته تؤدى إلى هلاككم وخسرانكم . فقوله - تعالى - { مِّنَ ٱلنُّذُرِ } على حذف مضاف ، أى من جنس النذر التى سبقت … { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } أى قربت الساعة ، ودنت القيامة ، يقال أزِف السفر - كفرح - أزَفاً ، إذا دنا وقرب ، وأل فى الآزفة للعهد ، وهى عَلَم بالغلبة على الساعة . { لَيْسَ لَهَا } أى الساعة { مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } أى ليس لها أحد سوى الله - تعالى - يستطيع الإِخبار عنها ، والكشف عن علاماتها ، والعلم بوقتها وبوقوعها . والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } للإِنكار والتوبيخ . أى أفمن هذا القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وتشريعات … تتعجبون ، وتنكرون كونه من عند الله - تعالى - . { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } أى وتضحكون ضحك استهزاء وتهكم منه وممن جاء به - صلى الله عليه وسلم - ولا تبكون خشية من الله - تعالى - ، ومن سماع ما اشتمل عليه هذا القرآن من وعد ووعيد . { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أى وأنتم لاهون معرضون ، يقال سمَد يسمُد كدخل - إذ اشتغل باللهو والإِعراض عن الرشد . أو المعنى وأنتم رافعون رءوسكم تكبرا يقال سمَد سمودا ، إذا رفع رأسه تكبرا وغرورا ، وكل متكبر فهو سامد ، ومنه قولهم بعير سامد فى سيره إذا رفع رأسه متبختراً فى مشيته . وقيل السمود الغناء بلغة حمير ، ومنه قوله بعضهم لجاريته اسمدى لنا ، أى غنى لنا . أى وأنتم سادرون فى غنائكم ولهوكم ، دون أن تكترثوا بزواجر القرآن الكريم . وقوله - سبحانه - { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم ، ونهى لهم عن الكفر والضلال . فالفاء فى قوله - تعالى - { فَٱسْجُدُواْ } لترتيب الأمر بالسجود ، على الإِنذار بالعذاب الشديد إذا ما استمروا فى كفرهم ولهوهم . والمراد بالسجود الخضوع لله - تعالى - وإخلاص العبادة له ، ويندرج فيه سجود الصلاة ، وسجود التلاوة . أى اتركوا ما أنتم عليه من كفر وضلال . وخصوا الله - تعالى - بالخضوع الكامل ، وبالعبادة التامة ، التى لا شرك فيها لأحد معه - سبحانه - . قال الآلوسى وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم ، وقد سجد النبى - صلى الله عليه وسلم - عندها . أخرج الشيخان ، وأبو داود ، والنسائى عن ابن مسعود قال " أول سورة أنزلت فيها سجدة سورة " النجم " فسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسجد الناس كلهم إلا رجلا " . هذا ، وقد ذكر بعض الفسرين قصة الغرانيق . وملخصها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم ، فلما بلغ قوله - تعالى - { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى . وقد قال الإِمام ابن كثير عند حديثه عن هذه القصة إنها من روايات وطرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح . وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ذكرنا ما يدل على بطلان هذه القصة من جهة النقل ومن جهة العقل … وبعد . فهذا تفسير لسورة " النجم " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده . وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم …