Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 29-32)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والفاء فى قوله { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } للإِفصاح … وأصل الإِعراض لفت الوجه عن الشىء ، لأن الكاره لشىء يعرض بصفحة خده عنه . والمراد به هنا ترك هؤلاء المشركين ، وعدم الحرص على إيمانهم ، بعد أن وصلتهم دعوة الحق … أى إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - من أن هؤلاء المشركين ، ما يتبعون فى عقائدهم إلى الظن الباطل ، وإلا ما تشتهيه أنفسهم … فاترك مجادلتهم ولا تهتم بهم ، بعد أن بلغتهم رسالة ربك … فإنهم قوم قد أصروا على عنادهم . وعلى الإِدبار عن وحينا وقرآننا الذى أنزلناه إليك ، ولم يريدوا من حياتهم إلا التشبع من زينة الحياة الدنيا ، ومن شهواتها ومتعها … ومن كان كذلك فلن تستطيع أن تهديه ، لأنه آثر الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية . وجىء بالاسم الظاهر فى مقام الإِضمار ، فقيل { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا } ولم يقل فأعرض عنهم … لبيان ما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإِعراض عنهم ، وهى أنهم قوم أعرضوا عن الوحى ، ولم يريدوا سوى متع دنياهم ، وأما ما يتعلق بالآخرة فهم فى غفلة عنه . وقوله { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ } تسلية له - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم ، وتحقير لهم ولأفكارهم ، وتهوين من شأنهم … أى ذلك الذى تراه منهم من التولى عن قرآننا ، ومن الحرص على عرض الحياة الدنيا ، منتهى علمهم ، ولا علم سواه … فاسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى المفهوم من الكلام السابق وهو توليهم عن القرآن الكريم ، وتكالبهم على الحياة الدنيا … وفى هذه الجملة المعترضة ما فيها من تحقير أمرهم ، ومن الازدراء بعملهم الذى أدى بهم إلى إيثار الشر على الخير ، والعاجلة على الآجلة . وقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ … } تعليل للأمر بالإِعراض عنهم ، والإِهمال لشأنهم ، وتسلية أخرى له - صلى الله عليه وسلم - . أى امض - أيها الرسول الكريم - فى طريقك ، وأعرض عن هؤلاء الجاحدين المعاندين ، الذين أصروا على عدم الاستجابة لك ، بعد أن سلكت معهم كل وسيلة تهديهم إلى الحق … إن ربك - أيها الرسول الكريم - هو أعلم بمن أصر من الناس على الضلال ، وهو - سبحانه - أعلم بمن شأنه الاهتداء ، والاستجابة للحق … والمراد بالعلم هنا لازمه ، أى ما يترتب عليه من ثواب وعقاب ، ثواب للمؤمنين ، وعقاب للكافرين . وكرر - سبحانه - قوله { هُوَ أَعْلَمُ } لزيادة التقرير ، والمراد بمن ضل من أصر على الضلال ، وبمن اهتدى من عنده الاستعداد لقبول الحق والهداية . وقدم - سبحانه - من ضل على من اهتدى هنا ، لأن الحديث السابق واللاحق معظمة عن المشركين ، الذين عبدوا من دون الله - تعالى - أصناما لا تضر ولا تنفع . . وضمير الفصل فى قوله - سبحانه - { هُوَ أَعْلَمُ } لتأكيد هذا العلم ، وقصره عليه - سبحانه - قصرا حقيقيا ، إذ هو - تعالى - الذى يعلم دخائل النفوس ، وغيره لا يعلم . ثم بين - سبحانه - ما يدل على شمول ملكه لكل شىء فقال { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } . أى ولله - تعالى - وحده جميع ما فى السماوات وما فى الأرض خلقا ، وملكا ، وتصرفا … واللام فى قوله { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام السابق . أى فعل ما فعل - سبحانه - من خلقه للسماوات والأرض وما فيهما ، ليجزى يوم القيامة ، الذين اساءوا فى أعمالهم بما يستحقونه من عقاب ، وليجزى الذين أحسنوا فى أعمالهم بما يستحقونه من ثواب . وقوله { بِٱلْحُسْنَى } صفة لموصوف محذوف ، أى بالمثوبة الحسنى التى هى الجنة . وقوله { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ … } صفة لقوله { ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أو بدل منه . والمراد بكبائر الإِثم الآثام الكبيرة ، والجرائم الشديدة ، التى يعظم العقاب عليها . كقتل النفس بغير حق ، وأكل أموال الناس بالباطل … والفواحش جمع فاحشة ، وهى ما قبح من الأقوال والأفعال كالزنا ، وشرب الخمر … وعطفها على كبائر الإِثم من باب عطف الخاص على العام ، لأنها أخص من الكبائر ، وأشد إثما . واللم ما صغر من الذنوب ، وأصله ما قل قدره من كل شىء يقال ألم فلان بالمكان ، إذا قل مكثه فيه . وألم بالطعام إذا قل أكله منه … وقيل اللمم ، مقاربة الذنب دون الوقوع فيه ، من قولهم ألم فلان بالشىء ، إذا قاربه ولم يخالطه … وجمهور العلماء على أن الاستثناء هنا منقطع ، وأن اللمم هو الذنوب الصغيرة ، كالنظرة الخائنة ولكن بدون مداومة ، والإِكثار من الممازحة … قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه " واللمم " صغائر الذنوب ، ومحقرات الأعمال ، وهذا استثناء منقطع … قال الإِمام أحمد عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم ، مما قال أبو هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " . وعن مجاهد أنه قال فى هذه الآية { إِلاَّ ٱللَّمَمَ } الذى يلم بالذنب ثم يدعه ، كما قال الشاعر @ إن تغفر اللهم تغفر جما وأى عبد لك ما ألما @@ ومن العلماء من يرى أن الاستثناء هنا متصل ، وأن المراد باللمم ارتكاب شىء من الفواحش ، ثم التوبة منها توبة صادقة نصوحا … فعن الحسن أنه قال اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود . … ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن العلماء قسموا الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن اللمم من النوع الثانى الذى لا يدخل تحت كبائر الإِثم والفواحش . قال صاحب الكشاف واللمم ما قل وصغر … والمراد به الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله - تعالى - { إِلاَّ ٱللَّمَمَ } من أن يكون استثناء منقطعا … كأنه قيل كبائر الإِثم غير اللمم . وليس المقصود من قوله - تعالى - { إِلاَّ ٱللَّمَمَ } فتح الباب لارتكاب صغائر الذنوب ، وإنما المقصود فتح باب التوبة ، والحض على المبادرة بها ، حتى لا ييأس مرتكب الصغائر من رحمة الله - تعالى - وحتى لا يمضى قدما في ارتكاب هذه الصغائر ، إذ من المعروف أن ارتكاب الصغائر ، قد يجر إلى ارتكاب الكبائر . كذلك من المقصود بهذا الاستثناء أن لا يعامل مرتكب الصغائر ، معاملة مرتكب الكبائر . هذا ، وقد أفاض الإِمام الألوسى فى الحديث عن الكبائر والصغائر ، فقال والاية عند الأكثرين دليل على أن المعاصى منها الكبائر ، ومنها الصغائر … وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام ، وقالوا سائر المعاصى كبائر . ثم قال واختلف القائلون بالفرق بين الكبائر والصغائر فى حد الكبيرة فقيل هى كل ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد ، بنص كتاب أو سنة … وقيل كل جرمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ورقة الديانة . واعتمد الواحدى أنه لا حد لها يحصرها ويعرفها العباد به ، وقد أخفى الله - تعالى - أمرها ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه ، رجاء أن تجتنب الكبائر … وقوله - سبحانه - { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ … } تعليل لاستثناء اللمم ، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ، ليس لخلوه عن الذنب فى ذاته ، بل لسعة رحمة الله ومغفرته . أى إن ربك - أيها الرسول الكريم - واسع المغفرة والرحمة ، لعباده الذين وقعوا فيما نهاهم عنه - سبحانه - ثم تابوا إليه توبة صادقة نصوحا . ثم بين - سبحانه - أن هذه الرحمة الواسعة ، صادرة عن علم شامل للظواهر والبواطن ، فقال { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ … } . والظرف " إذ " متعلق بقوله { أَعْلَمُ } والأجنة جمع جنين ، ويطلق على ما يكون بداخل الأرحام قبل خروجه منها . وسمى بذلك ، لأنه يكون مستترا فى داخل الرحم ، كما قال - تعالى - { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ … } أى هو - سبحانه - أعلم بكم من وقت إنشائه إياكم من الأرض ، ضمن خلقه لأبيكم آدم ، ومن وقت أن كنتم أجنة فى بطون أمهاتكم ، يعلم أطواركم فيها ، ويرعاكم برحمته ، إلى أن تنفصلوا عنها . وقال - سبحانه - { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ } مع أن الجنين لا يكون إلا فى بطن أمه ، للتذكير برعايته - تعالى - لهم ، وهم فى تلك الأطوار المختلفة من وقت العلوق إلى حين الولادة ، وللحض على مداومة شكره وطاعته . وقوله - تعالى - { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } تحذير من التفاخر بالأعمال والأحساب والأنساب ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء من أحوال الناس ، والفاء للتفريع على ما تقدم . أى إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من عدم مؤاخذتى إياكم على اللمم ، فإن ذلك بسبب سعة رحمتى ، فلا تمدحوا أنفسكم بأنكم فعلتم كذا وكذا من الأفعال الحسنة ، بل اشكرونى على سعة رحمتى ومغفرتى ، فإنى أنا العليم بسائر أحوالكم ، الخبير بالظواهر والبواطن للأتقياء والأشقياء . قالوا والآية نزلت فى قوم من المؤمنين ، كانوا يعملون أعمالا حسنة ، ثم يتفاخرون بها . قال صاحب الكشاف قوله { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ … } أى فلا تنسبوها إلى زكاء العمل ، وزيادة الخير . وعمل الطاعات ، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصى ، ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكى منكم والتقى أولا وآخرا ، قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم . وهذا إذا كان على سبيل الإِعجاب أو الرياء ، فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح ، من الله وبتوفيقه وتأييده . ولم يقصد به التمدح ، لم يكن من المزكين لأنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر لله - تعالى - . وقال الآلوسى والمراد النهى عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو التزكية على سبيل القطع ، وأما التزكية لإِثبات الحقوق ونحوه - كالإِخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة فهى جائزة . وبعد هذا التوجيه الحكيم للنفوس البشرية ، والبيان البديع لمظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده بعد ذلك أخذت السورة فى الحديث مرة أخرى عن الكافرين . وفى الرد على شبهاتهم ، وفى بيان مظاهر قدرته - تعالى - فقال - سبحانه - { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ … } .