Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 54, Ayat: 1-8)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت السورة الكريمة بهذا الافتتاح الذى يبعث فى النفوس الرهبة والخشية ، فهو يخبر عن قرب انقضاء الدنيا وزوالها . إذ قوله - تعالى - { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } أى قرب وقت حلول الساعة ، ودنا زمان قيامها . والساعة فى الأصل اسم لمدار قليل من الزمان غير معين ، وتحديدها بزمن معين اصطلاح عرفى ، وتطلق فى عرف الشرع على يوم القيامة . وأطلق على يوم القيامة يوم الساعة ، لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما فيه من الحساب ، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله - تعالى - . وقد وردت أحاديث كثيرة ، تصرح بأن ما مضى من الدنيا كثير بالنسبة لما بقى منها ، ومن هذه الاحاديث ما رواه البزار عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خطب أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب … فقال " والذي نفسى بيده ما بقى من الدنيا فيما مضى منها ، إلا كما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه " . وروى الشيخان عن سهل بن سعد قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " بعثت أنا والساعة هكذا " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى … وشبيه بهذا الافتتاح قوله - تعالى - فى مطلع سورة الأنبياء { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } وقوله - سبحانه - فى افتتاح سورة النحل { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } والمقصود من هذا الافتتاح المتحدث عن قرب يوم القيامة ، تذكير الناس بأهوال هذا اليوم ، وحضهم على حسن الاستعداد لاستقباله عن طريق الإِيمان والعمل الصالح . وقوله - تعالى - { وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } معطوف على ما قبله عطف جملة على جملة . وقوله { وَٱنشَقَّ } من الانشقاق بمعنى الافتراق والانفصال . أى اقترب وقت قيام الساعة ، وانفصل وانفلق القمر بعضه عن بعض فلقتين ، معجزة للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ذلك بمكة قبل هجرته - صلى الله عليه وسلم - بنحو خمس سنين ، وقد رأى هذا الانشقاق كثير من الناس … وقد ذكر المفسرون كثيرا من الأحاديث فى هذا الشأن ، وقد بلغت الأحاديث مبلغ التواتر المعنوى … قال الإِمام ابن كثير وهذا أمر متفق عليه بين العلماء - أى انشقاق القمر - ، فقد وقع فى زمان النبى - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات . ثم ذكر - رحمه الله - جملة من الأحاديث التى وردت فى ذلك ، ومنها ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال سأل أهل مكة النبى - صلى الله عليه وسلم - آية ، فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } . وأخرج الإِمام أحمد عن جبير بن مطعم عن أبيه قال انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار فلقتين فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل . فقالوا سحرنا محمد ، فقالوا إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم . وروى الشيخان عن ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شقتين ، حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اشهدوا " . وقال الآلوسى بعد أن ذكر عددا من الأحاديث فى هذا الشأن والأحاديث الصحيحة فى الانشقاق كثيرة ، واختلف فى تواتره ، فقيل هو غير متواتر وفى شرح المواقف أنه متواتر . وهو الذى اختاره العلامة السبكى ، فقد قال الصحيح عندى أن انشقاق القمر متواتر ، منصوص عليه فى القرآن ، مروى فى الصحيحين وغيرهما من طرق شتى ، لا يمترى فى تواتره . وقد جاءت أحاديثه فى روايات صحيحة ، عن جماعة من الصحابة ، منهم عل بن أبى طالب ، وأنس ، وابن مسعود … ثم قال - رحمه الله - بعد أن ذكر شبهات المنكرين لحادث الانشقاق والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ، ولا يستطيع أن يأتى بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق ، والاستبعاد فى مثل هذه المقامات قريب من الجنون . عند من له عقل سليم . ثم بين - سبحانه - موقف هؤلاء المشركين من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - فقال { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } . أى وإن يرى هؤلاء المشركون آية ومعجزة تدل على صدقك - أيها الرسول الكريم - يعرضوا عنها جحودا وعنادا . ويقولوا - على سبيل التكذيب لك - ما هذا الذى أتيتنا به يا محمد إلا سحر مستمر ، أى سحر دائم نعرفه عنك ، وليس جديدا علينا منك . قال صاحب الكشاف { مُّسْتَمِرٌّ } أى دائم مطرد ، وكل شىء قد انقادت طريقته ، ودامت حاله ، قيل فيه قد استمر ، لأنهم لما رأوا تتابع المعجزات ، وترادف الآيات . قالوا " هذا سحر مستمر " . وقيل مستمر ، أى قوى محكم - من المرَّة بمعنى القوة - ، وقيل هو من استمر الشىء إذا اشتدت مرارته ، أى مستبشع عندنا مُرٌّ على لَهوَاتِنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ الشىء المر . وقيل مستمر ، أى مار ذاهب زائل عما قريب - من قولهم مَرَّ الشىء واستمر إذا ذهب . ثم أخبر - سبحانه - عن حالهم فى الماضى ، بعد بيان حالهم فى المستقبل ، فقال - تعالى - { وَكَذَّبُواْ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } . أى أن هؤلاء الجاحدين جمعوا كل الرذائل ، فهم إن يروا معجزة تشهد لك بالصدق - أيها الرسول الكريم - يعرضوا عنها ، ويصفوها بأنها سحر ، وهم فى ماضيهم كذبوا دعوتك ، واتبعوا أهواءهم الفاسدة ، ونفوسهم الأمارة بالسوء . وجملة { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } معترضة ، وهى جارية مجرى المثل ، أى وكل أمر لا بد وأن يستقر إلى غاية ، وينتهى إلى نهاية ، وكذلك أمر هؤلاء الظالمين ، سينتهى إلى الخسران ، وأمر المؤمنين سينتهى إلى الفلاح . وفى هذا الاعتراض تسلية وتبشير للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه بحسن العاقبة ، وتيئيس وإقناط لأولئك المشركين من زوال أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - كما كانوا يتمنون ويتوهمون . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ثم بين - سبحانه - أنهم قوم لا تتأثر قلوبهم بالمواعظ والنذر ، فقال { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } . والأنباء جمع نبأ وهو الخبر المشتمل على أمور هامة ، من شأنها أن يتأثر بها السامع . ومزدجر مصدر ميمى ، وأصله مُزْتَجر . فأبدلت تاء الافتعال دالا ، وأصله من الزجر . بمعنى المنع والانتهار . أى ولقد جاء لهؤلاء المشركين فى لقرآن الكريم ، من الأنباء الهامة ، ومن أخبار الأمم البائدة ، ما فيه ازدجار وانتهار لهم عن الارتكاس فى القبائح وعن الإِصرار على الفسوق والكفر والعصيان . و " ما " فى قوله - سبحانه - { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } موصولة ، وهى فاعل قوله { جَآءَهُم } ، وقوله { مِّنَ ٱلأَنبَآءِ } فى موضع الحال منها … وقوله - تعالى - { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } بدل من " ما " أو خبر لمبتدأ محذوف . والحكمة العلم النافع الذى يترتب عليه تحرى الصواب فى القول والفعل . أى هذا الذى جاءهم من أنباء الماضين ، ومن أخبار السابقين فيه ما فيه عن الحكم البليغة ، والعظات الواضحة التى لا خلل فيها ولا اضطراب . و " ما " فى قوله { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } نافية ، والنذُر جمع نذير بمعنى مُنذِر . أى لقد جاء إلى هؤلاء المشركين من الأخبار ومن الحكم البليغة ما يزجرهم عن ارتكاب الشرور ، وما فيه إنذار لهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا فى غيهم ، ولكن كل ذلك لا غناء فيه ، ولا نفع من ورائه لهؤلاء الجاحدين المعاندين الذين عمو وصموا … ويصح أن تكون " ما " هنا ، للاستفهام الإِنكارى . أى ما الذى تغنيه النذر بالنسبة لهؤلاء المصرين على الكفر ؟ إنها لا تغنى شيئا ما داموا لم يفتحوا قلوبهم للحق والفاء فى قوله - تعالى - { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ } للتفريع على ما تقدم ، وهى تفيد السببية . وقوله { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ } ظرف لقوله { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } والداع هو إسرافيل - عليه السلام - الذى ينفخ فى الصور بأمر الله - تعالى - . والمراد بالنكر الأمر الفظيع الهائل ، الذى لم تألفه النفوس ، ولم تر له مثيلا فى الشدة . أى إذا كان هذا حالهم من عدم إغناء النذر فيهم ، فتول عنهم - أيها الرسول الكريم - ، ولا تبال بهم ، واتركهم فى طغيانهم يعمهون ، وانتظر عليهم إلى اليوم الذى يدعوهم فيه الداعى ، إلى أمر فظيع عظيم ، تنكره النفوس ، لعدم عهدهم بمثله ، وهو يوم البعث والنشور . قال الجمل وقوله { يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ } منصوب إما باذكر مضمرا … وإما بيخرجون … وحذفت الواو من " يدع " لفظا لالتقاء الساكنين ، ورسما تبعا للفظ ، وحذفت الياء من { ٱلدَّاعِ } للتخفيف … والداع هو إسرافيل … وقوله { خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } حال من الفاعل فى قوله { يَخْرُجُونَ … } أى ذليلة أبصارهم بحيث تنظر إلى ما أمامها من أهوال نظرة البائس الذليل ، الذى لا يستطيع أن يحقق نظره فيما ينظر إليه . قال القرطبى الخشوع فى البصر الخضوع والذلة . وأضاف - سبحانه - الخشوع إلى الأبصار ، لأن أثر العز والذل يتبين فى ناظر الإِنسان . قال - تعالى - { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } وقال - تعالى - { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ … } ويقال خشع واختشع إذا ذل . وخشع ببصره إذا غضه … وقرأ حمزة والكسائى خاشعا أبصارهم … وقوله { يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أى يخرجون من القبور ، وعيونهم ذليلة من شدة الهول ، وأجسادهم تملأ الآفاق ، حتى لكأنهم جراد منتشر ، قد سد الجهات . واستتر بعضه ببعض . فالمقصود بالجملة الكريمة تشبيههم بالجراد فى الكثرة والتموج ، والاكتظاظ والانتشار فى الأقطار وهم يسرعون الخطا نحو أرض المحشر . وقوله { مُّهْطِعِينَ إِلَى ٱلدَّاعِ } أى مسرعين نحوه ، وقد مدوا أعناقهم إلى الإِمام ، مأخوذ من الإِهطاع ، وهو الإِسراع فى المشى مع مد العنق إلى الإِمام . يقال أهطع فلان فى جريه ، إذا أسرع فيه من الخوف ، فهو مهطع . { يَقُولُ ٱلْكَافِرُونَ } وقد رأوا من أهوال يوم القيامة ما يدهشهم { هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } أى يقولون هذا يوم صعب شديد ، بسبب ما يعانون من أهواله ويتوقعون فيه من سوء العاقبة . والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يراها قد وصفت أحوال الكافرين فى هذا اليوم ، وصفا تقشعر من هوله الأبدان … فهم أذلاء ضعفاء ينظرون إلى ما يحيط بهم نظرة الخائف المفتضح ، وهم فى حالة خروجهم من قبورهم كأنهم الجراد المنتشر ، فى الكثرة والتموج والاضطراب ، وهم يسرعون نحو الداعى بذعر دون أن يلووا على شىء ، ودون أن يكون فى إمكانهم المخالفة أو التأخر عن دعوته . ثم هم بعد ذلك يقولون على سبيل التحسر والتفجع هذا يوم شديد الصعوبة والعسر . ثم عرضت السورة بعد ذلك جانبا من مصارع الغابرين ، لعل فى هذا العرض ما يروعهم عن الكفر والجحود ، وما يحملهم على انتهاج طريق الحق والهدى ، فقال - تعالى - { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ … } .