Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 54, Ayat: 9-17)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، قد وردت بصورة أكثر تفصيلا فى سورة أخرى . كسورة هود ، والمؤمنون ، ونوح ، والأعراف . ولكنها جاءت هنا - كغيرها من القصص - بصورة حاسمة قاصمة ، تزلزل النفوس ، وتفتح العيون على مصارع الغابرين ، لكى يعتبر الكافرون ، وينتهوا عن كفرهم . قال الآلوسى قوله { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ … } شروع فى تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للانزجار ، ونوع تفصيل لها ، وبيان لعدم تأثرهم بها ، تقريرا لفحوى قوله { فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } والفعل " كذبت " منزل منزلة اللازم . أى فَعل التكذيب قبل قومك قوم نوح … وفى هذه الجملة الكريمة تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن المصيبة إذا عمت خفت ، وشبيه بهذه الآية قوله - سبحانه - { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ … } وأسند - سبحانه - التكذيب إلى جميع قوم نوح - عليه السلام - . لأن الذين آمنوا به منهم عدد قليل ، كما قال - تعالى - فى سورة هود { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } وقوله - تعالى - { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } تأكيد لتكذيبهم له - عليه السلام - ، فكأنه - سبحانه - يقول إن قوم نوح - عليه السلام - قد اصروا على تكذيبهم لعبدنا ونبينا ، وتواصوا بهذا التكذيب فيما بينهم ، حتى لكأن الكبار قد أوصوا الصغار . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى قوله { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } بعد قوله { كُذِّبَتْ } ؟ قلت معناه كذبوا فكذبوا عبدنا . أى كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب ، كلما مضى منهم قرن مكذب ، تبعهم قرن مكذب . أو معناه كذبت قوم نوح الرسل ، فكذبوا عبدنا ، أى لما كانوا مكذبين بالرسل ، جاحدين للنبوة رأسا ، كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل … وقوله - سبحانه - { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ } بيان لما كانوا عليه من انطماس بصيرة ، ومن سوء خلق … أى أنهم لم يكتفوا بتكذيب نبيهم ومرشدهم وهاديهم إلى الخير . بل أضافوا إلى ذلك وصفه بالجنون ، والاعتداء عليه بأنواع الأذى والترهيب . فقوله { وَٱزْدُجِرَ } معطوف على قوله { قَالُواْ } وهو مأخوذ من الزجر بمعنى المنع والتخويف ، وصيغة الافتعال للمبالغة فى زجره وإيذائه . وقد حكى القرآن فى آيات أخرى ألوانا من هذا الزجر والإِيذاء ومن ذلك قوله - تعالى - كما حكى عنهم { قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } ثم حكى - سبحانه - ما فعله نوح - عليه السلام - بعد أن صبر على إيذاء قومه فقال { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } . أى وبعد أن يئس نوح - عليه السلام - من إيمان قومه … تضرع إلى ربه قائلا يارب إن قومى قد غلبونى بقوتهم وتمردهم … فانتصر لى منهم ، فأنت أقوى الأقوياء ، وأعظم نصير للمظلومين والمغلوبين على أمرهم من أمثالى . وحذف متعلق " فانتصر " للإِيجاز . أى فانتقم لى منهم . ولقد كانت نتيجة هذا الدعاء ، الإِجابة السريعة ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء فى قوله - تعالى - بعد ذلك { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } . أى فأجبنا لنوح دعاءه ، ففتحنا أبواب السماء بماء كثير منهمر ، أى منصب على الأرض بقوة وبكثرة وتتابع . يقال همر فلان الماء يهمر - بكسر الميم وضمها - إذا صبه بكثرة . وقراءة الجمهور { فَفَتَحْنَآ } بتخفيف التاء ، وقرأ ابن عامر بتشديدها على المبالغة . قال الجمل والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها فإن للسماء أبوابا تفتح وتغلق . والباء فى قوله { بِمَاءٍ } للتعدية على المبالغة ، حيث جعل الماء كالآلة التى يفتح بها ، كما تقول فتحت بالمفتاح … وقوله { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً … } معطوف على قوله { فَفَتَحْنَآ } وتفجير الماء إسالته بقوة وشدة وكثرة ، ومنه قوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } وقوله { عُيُوناً } تمييز محول عن المفعول به ، والأصل وفجرنا عيون الأرض ، ولكن جىء به على هذا الأسلوب المشتمل على التمييز للمبالغة ، حتى لكأن الأرض جميعها قد تحولت إلى عيون متفجرة . وقوله - سبحانه - { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } بيان لكمال حكمته - تعالى - بعد بيان مظاهر قدرته . أى فاجتمع الماء النازل من السماء ، مع الماء المتفجر من الأرض ، على أمر قد قدره الله - تعالى - وقضاه أزلا ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان . فالمراد بالماء ماء السماء وماء الأرض . وقال - سبحانه - { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ } بالإِفراد ، لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريقة المجاورة ، بل كان بطريق الاتحاد والاختلاط ، حتى لكأن الماء النازل من السماء . والمتفجر من الأرض ، قد التقيا فى مكان واحد كما يلتقى الجيشان المعدان لإِهلاك غيرهما . و { عَلَىٰ } فى قوله - تعالى - { عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } للاستعلاء المفيد لشدة التمكن والمطابقة . أى التقى الماء بعضه ببعض على الحال والشأن الذى قدرناه وقضيناه له ، دون أن يحيد على ذلك قيد شعرة إذ كل شىء عندنا بمقدار . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على عبده نوح - عليه السلام - فقال { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا … } . والدُسْر جمع دسار - ككتاب وكتب - أى مسامير تربط بعض الخشب ببعض ، وأصل الدُسْر الدفع الشديد بقوة ، سمى به المسمار ، لأنه يدق فى الخشب فيدفع بقوة . وقيل الدسر الخيوط التى تشد بها ألواح السفينة ، وقيل الدسر صدرها ومقدمتها ، وقوله { ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } صفة لموصوف محذوف . أى وحملنا نوحا ومن معه من المؤمنين ، على سفينة ذات ألواح من الخشب ومسامير يشد بها هذا الخشب ويربط … قال صاحب الكشف قوله { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } أراد السفينة ، وهو من الصفات التى تقوم مقام الموصوفات ، فتنوب منابها ، وتؤدى مؤداها ، بحيث لا يفصل بينهما وبينها . وهذا من فصيح الكلام وبديعه … وعدى فعل { وَحَمَلْنَاهُ } إلى نوح وحده ، مع أن السفينة حملت معه المؤمنين ، لأن هذا الحمل كان إجابة لدعوته ، وقد جاءت آيات أخرى أخبرت بأن المؤمنين كانوا معه فى السفينة ، ومن هذه الآيات ، قوله - تعالى - { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ … } وقوله { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أى تجرى هذه السفينة بمرأى منا ، وتحت رعايتنا وقدرتنا . ثم بين - سبحانه - الأسباب التى جعلت قوم نوح محل غضب الله - تعالى - ونقمته فقال { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } . وقوله { جَزَآءً } مفعول لأجله ، لقوله { فَتَحْنَآ } وما عطف عليه ، أى فعلنا ما فعلنا من فتح السماء بماء منهمر ، جزاء لكفرهم بالله - تعالى - وبنبيه نوح - عليه السلام - الذى كان نعمة لهم ، ولكنهم كفروها ولم يشكروا الله عليها ، فاستحقوا الغرق والدمار . وحذف - سبحانه - متعلق { كُفِرَ } لدلالة الكلام عليه ، أى كفر به . قال الآلوسى . وقوله { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أى فعلنا ذلك جزاء لنوح - عليه السلام - ، فإنه كان نعمة أنعمها الله - تعالى - على قومه فكفروها ، وكذا كل نبى نعمة من الله - تعالى - على أمته . وجوز أن يكون على حذف الجار ، وإيصال الفعل إلى الضمير ، واستتاره فى الفعل ، بعد انقلابه مرفوعا . أى لمن كفر به ، وهو نوح - عليه السلام - أى جحدت نبوته . فالكفر عليه ضد الإِيمان ، وعلى الأول كفران النعمة … والضمير المنصوب فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً … } يعود إلى الفعلة المهلكة التى فعلها الله - تعالى - بقوم نوح - عليه السلام - . أى ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح ، وإهلاكنا لهم ، آية وعلامة لمن بعدهم . وعظة وعبرة لمن يعتبر ويتعظ بها . ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً … } ويصح أن يكون الضمير يعود إلى السفينة . أى ولقد أبقينا هذه السفينة من بعد إهلاك قوم نوح ، علامة وعبرة لمن يشاهدها . ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } قال القرطبى قوله { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً … } يريد هذه الفعلة عبرة . وقيل أراد السفينة ، تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل … قال قتادة أبقاها الله - تعالى - بِبَاقِرْدَى ، من أرض الجزيرة - قرب الموصل بالعراق - لتكون عبرة وآية ، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة صارت بعدها رمادا … ويبدو لنا أن الآية الكريمة تتسع للرأيين فهذه العقوبة التى أنزلها - سبحانه - بقوم نوح - عليه السلام - بقيت عبرة لمن بعدهم لينزجروا ، ويكفوا عن تكذيب الرسل ، كما أن السفينة قد أبقاها - سبحانه - بعد إغراقهم إلى الزمن الذى قدره وأراده ، لتكون - أيضا - عبرة وعظة لغيرهم . والاستفهام فى قوله { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } للحض على التذكر والاعتبار ، ولفظ { مُّدَّكِرٍ } أصله مذتكر من الذُّكْر الذى هو ضد النسيان ، فأبدلت التاء دالا مهملة ، وكذا الذال المعجمة ثم أدغمت فيها ، ومنه قوله - تعالى - { وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ … } أى وتذكر بعد نسيان . أى ولقد تركنا ما فعلناه بقوم نوح عبرة ، فاعتبروا بذلك - أيها الناس - ، وأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة ، لتنجوا من غضبه وعقابه . والاستفهام فى قوله - سبحانه - { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } للتهويل والتعجيب من شدة هذا العذاب الذى حاق بقوم نوح - عليه السلام - . أى فكيف كان عذابى لهم ، وإنذارى إياهم ؟ لقد كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف ، ولا تحدها العبارة . والنذر مفرده نذير ، وجمع لتكرار الإِنذار من نوح - عليه السلام - لقومه . قال الجمل وقرىء فى السبع بإثبات الياء وحذفها . وأما فى الرسم فلا تثبت لأنها من ياءات الزوائد ، وكذا يقال فى المواضع الآتية كلها … ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله ورحمته على هذه الأمة ، حيث جعل كتابه ميسرا فى حفظه وفهمه ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . أى والله لقد سهلنا القرآن { لِلذِّكْرِ } أى للتذكر والحفظ ، بأن أنزلناه فصيحا فى ألفاظه ، بليغا فى تراكيبه ، واضحا فى معانيه ، سهل الحفظ لمن أراد أن يحفظه … فهل من معتبر ومتعظ ، بقصصه ، ووعده ، ووعيده ، وأمره ، ونهيه ؟ . وقد وردت هذه الآية فى أعقاب قصة نوح وهود وصالح ولوط - عليهم السلام - ، لتأكيد مضمون ما سبق فى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } وللتنبيه والإِشعار بأن كل قصة من تلك القصص جديرة بإيجاب الاتعاظ ، وكافية فى الاعتبار والازدجار { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } والمقصود بالآية الكريمة التحضيض على حفظ القرآن الكريم والاعتبار بمواعظه ، والعمل بما فيه من تشريعات حكيمة ، وآداب قويمة ، وهدايات سامية … ثم انتقلت إلى الحديث عن قصة قبيلة عاد مع نبيهم هود - عليه السلام - فذكرت ما حل بهم من عقاب بسبب كفرهم وطغيانهم ، فقال - تعالى - { كَذَّبَتْ عَادٌ … } .