Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 55, Ayat: 26-36)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والضمير فى { عَلَيْهَا } يعود إلى الأرض بقرينة المقام ، والمراد بمن عليها كل من يعيش فوقها ، ويدخل فيهم دخولا أوليا بنو آدم ، لأنهم هم المقصودون بالخطاب ، ولذا جىء بمن الموصولة الخاصة بالعقلاء . أى كل من على الأرض من إنسان وحيوان وغيرهما سائر إلى الزوال والفناء { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } وذاته بقاء لا تغير معه ولا زوال ، فهو - سبحانه - { ذُو ٱلْجَلاَلِ } أى ذو العظمة والاستغناء المطلق { وَٱلإِكْرَامِ } أى والفضل التام ، والإِحسان الكامل … وقال - سبحانه - { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } ولم يقل ويبقى وجه ربكما . كما فى قوله { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا … } . لأن الخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التكريم والتشريف ، ويدخل تحته كل من يتأتى له الخطاب على سبيل التبع . قال القرطبى لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض ، فنزلت { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } فأيقنت الملائكة بالهلاك . وقوله { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } أى ويبقى الله ، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته ، قال الشاعر @ قضى على خلقه المنايا فكل شىء سواه زائل @@ وهذا الذى ارتضاه المحققون من علمائنا … وقوله - تعالى - { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } بيان لغناه المطلق عن غيره ، واحتياج غيره إليه . والمراد باليوم هنا مطلق الوقت مهما قل زمنه ، والشأن الأمر العظيم ، والحدث الهام … أى أنه - سبحانه - يسأله من فى السماوات والأرض ، سؤال المحتاج إلى رزقه ، وفضله ، وستره ، وعافيته … وهو - عز وجل - فى كل وقت من الأوقات ، وفى كل لحظة من اللحظات ، فى شأن عظيم . وأمر جليل ، حيث يحدث ما يحدث من أحوال فى هذا الكون ، فيحيى ويميت ، ويعز ويذل ، ويغنى ويفقر ، ويشفى ويمرض … دون أن يشغله شأن عن شأن … قال الآلوسى ما ملخصه قوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } أى كل وقت من الأوقات ، هو فى شأن من الشئون ، التى من جملتها إعطاء ما سألوا . فإنه - تعالى - لا يزال ينشىء أشخاصا ، ويفنى آخرين ، ويأتى بأحوال ، ويذهب بأحوال ، حسبما تقتضيه إرادته المبنية على الحكم البالغة … أخرج البخارى فى تاريخه ، وابن ماجه ، وجماعة عن ابى الدرداء ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى هذه الآية " من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ، و يخفض آخرين " . وسأل بعضهم أحد الحكماء ، عن كيفية الجمع بين هذه الآية ، وبين ما صح من أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فقال " شئون يبديها لا شئون يبتديها " … وانتصب " كل يوم " على الظرفية ، والعامل فيه هو العامل فى قوله - تعالى - { فِي شَأْنٍ } وهو ثابت المحذوف ، فكأنه قيل هو ثابت فى شأن كل يوم . … ثم هدد - سبحانه - الذين يخالفون عن أمره تحذيرا شديدا ، فقال { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } . وجىء بحرف التنفيس الدال على القرب وهو السين للإِشعار بتحقق ما أخبر به - سبحانه - . وقوله { نَفْرُغُ } من الفراغ ، وهو الخلو عما يشغل … والمراد به هنا القصد إلى الشىء والإِقبال عليه ، يقال فلان فرغ لفلان وإليه ، إذا قصد إليه لأمر ما . والثقلان تثنية ثقل - بفتحتين - ، وأصله كل شىء له وزن وثقل ، والمراد بهما هنا الإِنس والجن . والمعنى سنقصد يوم القيامة إلى محاسبتكم على أعمالكم ، وسنجازيكم عليها بما تستحقون ، وسيكون هذا شأننا - أيها الثقلان - فى هذا اليوم العظيم . قال صاحب الكشاف قوله { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده ، سأفرغ لك ، يريد سأتجرد للإِيقاع بك من كل ما يشغلنى عنك ، حتى لا يكون لى شغل سواه ، والمراد التوفر على النكاية فيه ، والانتقام منه . ويجوز أن يراد ستنتهى الدنيا وتبلغ آخرها ، وتنتهى عند ذلك شئون الخلق التى أرادها بقوله - تعالى - { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ، فلا يبقى إلا شأن واحد ، وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل … وقوله - سبحانه - { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ … } مقول لقول محذوف ، دل عليه ما قبله . والمعشر - برنة مفعل - اسم للجمع الكثير الذى يعد عشرة فعشرة . وقوله { تَنفُذُواْ } من النفاذ بمعنى الخروج من الشىء ، والأمر منه وهو قوله { فَٱنفُذُواْ } مستعمل فى التعجيز . والأقطار جمع قطر - بضم القاف وسكون الطاء - وهو الناحية الواسعة … والمعنى سنقصد إلى محاسبتكم ومجازاتكم على أعمالكم يوم القيامة ، وسنقول لكم على سبيل التعجيز والتحدى . يا معشر الجن والإِنس ، إن استطعتم أن تنفذوا وتخرجوا من جوانب السماوات والأرض ومن نواحيهما المتعددة . فانفذوا واخرجوا ، و خلصوا أنفسكم من المحاسبة والمجازاة … وجملة { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } بيان للتعجيز المتمثل فى قوله - تعالى - { فَٱنفُذُواْ } ، والسلطان المراد به هنا القدرة والقوة . أى لا تنفذون من هذا الموقف العصيب الذى أنتم فيه إلا بقدرة عظيمة ، وقوة خارقة ، تزيد على قوة خالقكم الذى جعلكم فى هذا الموقف ، وأنى لكم هذه القوة التى أنتم أبعد ما تكونون عنها ؟ . فالمقصود بالآية الكريمة ، تحذير الفاسقين والكافرين ، من التمادى فى فسقهم وكفرهم ، وبيان أنهم سيكونون فى قبضة الله - تعالى - وتحت سلطانه ، وأنهم لن يستطيعوا الهروب من قبضته وقضائه فيهم بحكمه العادل . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } وقوله - سبحانه - { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } استئناف فى جواب سؤال مقدر عما سيصيبهم إذا ما حاولوا الفرار . والشواظ اللهب الذى لا يخالطه دخان ، لأنه قد تم اشتعاله فصار أشد إحراقا . والنحاس المراد به هنا الدخان الذى لا لهب فيه ، ويصح أن يراد به الحديد المذاب . أى أنتم لا تستطيعون الهرب من قبضتنا بأى حال من الأحوال ، وإذا حاولتم ذلك ، أرسلنا عليكم وصببنا على رءوسكم لهبا خالصا فأحرقكم ، ودخانا لا لهب معه فكتم أنفاسكم ، وفى هذه الحالة لا تنتصران ، ولا تبلغان ما تبغيانه ، ولا تجدان من يدفع عنكم عذابنا وبأسنا . هذا والمتأمل فى تلك الآيات الكريمة . يراها قد صورت بأسلوب بديع تفرد الله - تعالى - بالملك والبقاء ، وافتقار الخلائق جميعا إلى عطائه ، وأنهم جميعا فى قبضته ، ولن يستطيعوا الهروب من حكمه فيهم . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة ، ومن العذاب الذى يحيط بالمجرمين ، وينزل بهم ، فقال - تعالى - { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ … } .