Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 55, Ayat: 62-78)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } معطوف على قوله - تعالى - قبل ذلك { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ولفظ دون هنا يحتمل أنه بمعنى غير ، أى ولمن خاف مقام ربه جنتان ، وله - أيضا - جنتان أخريان غيرهما ، فهو من باب قوله - سبحانه - { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } قالوا ويشهد لهذا الاحتمال . أن الله - تعالى - قد وصفت هاتين الجنتين بما يقارب وصفه للجنتين السابقتين ، وأن تكرير هذه الأوصاف من باب الحض على العمل الصالح الذى يوصل الى الظفر بتلك الجنات ، وما اشتملت عليه من خيرات . ويحتمل أن لفظ { دُونِ } هنا بمعنى أقل ، أى وأقل من تلك الجنتين فى المنزلة والقدر ، جنتان أخريان … وعلى هذا المعنى سار جمهور المفسرين ، ومن المفسرين الذين ساروا على هذا الرأى الإِمام ابن كثير ، فقد قال - رحمه الله - هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما فى المرتبة والفضيلة والمنزلة ، بنص القرآن ، فقد قال - تعالى - { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } … فالأوليان للمقربين ، والأخريان لأصحاب اليمين … والدليل على شرف الأولين على الأخرين وجوه أحدها أنه نعت الأوليين قبل هاتين ، والتقديم يدل على الاعتناء ، ثم قال { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } وهذا ظاهر فى شرف المتقدم ، وعلوه على الثانى . وقال هناك { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } وهى الأغصان ، أو الفنون فى الملاذ وقال ها هنا { مُدْهَآمَّتَانِ } أى سوداوان من شدة الرى من الماء … وقال الإِمام القرطبى فإن قيل كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين ، كما ذكر أهل الجنتين الأوليين ؟ . قيل الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه . إلا أن الخائفين مراتب ، فالجنتان الأوليان لأعلى العباد منزلة فى الخوف من الله - تعالى - ، والجنتان الأخريان لمن قصرت حاله فى الخوف من الله - تعالى - . وقال الآلوسى قوله - تعالى - { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } مبتدأ وخبر أى ومن دون تينك الجنتين فى المنزلة والقدر جنتان أخريان والأكثرون على أن الأوليين للسابقين ، وهاتين لأصحاب اليمين … وقوله { مُدْهَآمَّتَانِ } صفة للجنتين … أى هما شديدتا الخضرة ، والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الرى … ثم فصل - سبحانه - أوصاف هاتين الجنتين فقال { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } أى فوارتان بالماء الذى لا ينقطع منهما من النضخ وهو فوران الماء من العيون مع حسنه وجماله . { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } وعطف - سبحانه - النخل والرمان على الفاكهة مع أنهما منهما ، لفضلهما ، فكأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران . أو - كما يقول صاحب الكشاف - لأن النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكه ، ولذا قال أبو حنيفة - رحمه الله - إذا حلف لا يأكل فاكهة ، فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث . … والضمير فى قوله - تعالى - { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } يعود إلى الجنات الأربع الجنتين المذكورتين فى قوله - تعالى - { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } والجنتين المذكورتين هنا فى قوله - سبحانه - { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } . ولفظ { خَيْرَاتٌ } صفة لموصوف محذوف . أى نساء خيرات حسان . أى فى هذه الجنات نساء فاضلات الأخلاق ، حسان الخلق والخلق . قال الجمل قوله { خَيْرَاتٌ } فيه وجهان أحدهما أنه جمع خَيرة بزنة فعلة بسكون العين - يقال امرأة خيرة ، وأخرى شرة ، والثانى . أنه جمع خيرة المخفف من خيرة بالتشديد ، ويدل على ذلك قراءة خيرات - بتشديد الياء … وقوله { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } بدل من خيرات . والحور جمع حوراء ، وهى المرأة ذات الحور ، أى ذات العين التى اشتد بياضها واشتد سوادها فى جمال وحسن … ومقصورات جمع مقصورة أى محتجبة فى بيتها ، قد قصرت نفسها على زوجها … فهى لا تجرى فى الطرقات … بل هى ملازمة لبيتها ، وتلك صفة النساء الفضليات اللاتى يزورهن من يريدهن ، أما هن فكما قال الشاعر @ ويكرمها جاراتها فيزرنها وتعتل عن إتيانهن فَتُعذر @@ أى فى تلك الجنات نساء خيرات فضليات جميلات مخدرات . ملازمات لبيوتهن ، لا يتطلعن إلى غير رجالهن … هؤلاء النساء { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } أى لم يلمسهن ويباشرهن { إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } . أى لم يجامعهن أحد لا من الإِنس ولا من الجن قبل الرجال الذين خصصهن الله - تعالى - لهم … وقوله { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ … } حال من قوله - تعالى - { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ … } والرفرف مأخوذ من الرَّف بمعنى الارتفاع ، وهو اسم جمع واحده رفرفة ، أو اسم جنس جمعى و { خُضْرٍ } صفة له … والعبقرى وصف لكل ما كان ممتازا فى جنسه . نادر الوجود فى صفاته والمراد به هنا الثوب الموشى بالذهب ، والبالغ النهاية فى الجودة والجمال … قال القرطبى العبقرى ثياب منقوشة تبسط … قال القتيبى كل ثوب وشى عند العرب فهو عبقرى . وقال أبو عبيد هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشى … ويقال عبقر قرية باليمن تنسج فيها بسط منقوشة . وقال ابن الأنبارى إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل ، ومنه قول النبى - صلى الله عليه وسلم - فى عمر ابن الخطاب فلم ار عبقريا يفرى فريه … أى هؤلاء الذين خافوا مقام ربهم ، قد أسكناهم بفضلنا الجنات العاليات حالة كونهم فيها على الفرش الجميلة المرتفعة . وعلى الأبسطة التى بلغت الغاية فى حسنها وجودتها ودقة وشيها … ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بقوله { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } . أى جل شأن الله - تعالى - ، وارتفع اسمه الجليل عما لا يليق بشأنه العظيم ، فهو - عز وجل - صاحب الجلال . أى العظمة والاستغناء المطلق ، والإِكرام . أى الفضل التام ، والإِحسان الذى لا يقاربه إحسان . وبعد فهذا تفسير لسورة " الرحمن " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم …