Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 1-26)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت سورة " الواقعة " بتقرير الحقيقة التى لا شك فيها ، وهى أن يوم القيامة حق وأن الحساب حق ، وأن الجزاء حق … وقد اختير الافتتاح بالظرف المتضمن معنى الشرط ، لأنه ينبه الأذهان ويحرك النفوس لترقب الجواب . والواقعة من أسماء القيامة كالقارعة ، والحاقة ، والآزفة … قال الجمل وفى { إِذَا } هنا أوجه أحدهما أنها ظرف محض ، ليس فيها معنى الشرط ، والعامل فيها ليس ، من حيث ما فيها من معنى النفى ، كأنه قيل ينتفى التكذيب بوقوعها إذا وقعت . والثانى أن العامل فيها اذكر مقدرا ، الثالث أنها شرطية وجوابها مقدر ، أى إذا وقعت الواقعة كان ، كيت وكيت ، وهو العامل فيها … وقال بعض العلماء والذى يظهر لى صوابه ، أن إذا هنا هى الظرفية المتضمنة معنى الشرط ، وأن قوله الآنى { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } بدل من قوله { وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } وأن الجواب إذا هو قوله { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ … } . وعليه فالمعنى إذا قامت القيامة ، وحصلت هذه الأحوال العظيمة ، ظهرت منزلة أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة … وقوله - تعالى - { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } مؤكد لما قبله ، من أن وقوع يوم القيامة حق لا ريب فيه . وكاذبة صفة لموصوف محذوف ، وهى اسم فاعل بمعنى المصدر … أى عندما تقع القيامة ، لا تكذبها نفس من النفوس التى كانت تجحدها فى الدنيا ، بل كل نفس حينئذ تكون مصدقة لها . قال القرطبى قوله { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } الكاذبة مصدر بمعنى الكذب ، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر ، كقوله - تعالى - { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } أى لغو … أى ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف ، بل هى واقعة يقينا … أو الكاذبة صفة والموصوف محذوف ، أى ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة … وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ … } وقوله - سبحانه - { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } ثم بين - سبحانه - ما يترتب على قيام الساعة من أحوال فقال { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أى هى خافضة للأشقياء إلى أسفل الدركات وهى رافعة للسعداء إلى أعلى الدرجات . والخفض والرفع يستعملان عند العرب فى المكان والمكانة . وفى العز والإِهانة … ونسب - سبحانه - الخفض والرفع إلى القيامة على سبيل المجاز . والمقصود بالآية الكريمة ترغيب الصالحين فى الازدياد من العمل الصالح ، لترفع منزلتهم يوم القيامة ، وترهيب الفاسقين من سوء المصير الذى ينتظرهم ، إذا ما استمروا فى فسقهم وعصيانهم . ويرى بعضهم أن المراد بالخفض والرفع فى هذا اليوم ، ما يترتب عليه من تناثر النجوم ، ومن تبدل الأرض غير الأرض ، ومن صيرورة الجبال كالعهن المنفوش … وعلى هذا يكون المقصود بالآية التهويل من شأن يوم القيامة ، حتى يستعد الخلق لاستقباله ، بالإِيمان والعمل الصالح ، حتى لا يصيبهم فيه ما يصيب العصاة المفسدين ، من خزى وهوان . . والآية الكريمة تسع المعنيين ، لأن فى هذا اليوم يرتفع الأخيار وينخفض الأشرار ، ولأن فيه - أيضا - { تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ … } والمراد بالرج فى قوله - تعالى - بعد ذلك { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً … } التحريك الشديد ، والاضطراب الواضح . يقال رج فلان الشىء رجا ، إذا حركه بعنف وزلزله بقوة … وقوله { وَبُسَّتِ } من البس بمعنى التفتيت والتكسر الدقيق ، ومنه قولهم بس فلان السويق ، إذا فتته ولته وهيأه للأكل … أى إذا رجت الأرض وزلزلت زلزالا شديدا ، وفتتت الجبال تفتيتا حتى صارت كالسويق الملتوت … فكانت تلك الجبال كالهباء المنبث أى المتفرق الذى يلوح من خلال شعاع الشمس إذا ما دخل من نافذة … إذا ما حدث كل ذلك ، وجد كل إنسان جزاءه من خير أو شر ، { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } فجواب الشرط ما ذكرته الآيات بعد ذلك من حسن عاقبة أصحاب الميمنة وسوء عاقبة أصحاب المشأمة . ومن الآيات الكثيرة ، التى وردت فى معنى هذه الآيات قوله - تعالى - { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } والخطاب فى قوله - تعالى - { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } للناس جميعا ، وكان بمعنى صار ، والأزواج بمعنى الأصناف والأنواع … أى وصرتم - أيها الناس - فى هذا اليوم الهائل الشديد ، أصنافا ثلاثة ، على حسب أحوالكم فى الدنيا … ثم فصل - سبحانه - الحديث عن الأزواج الثلاثة فقال { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } . والمراد بأصحاب الميمنة ، أولئك السعداء الذين يؤتون كتبهم يوم القيامة بأيمانهم ، أو لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة … أو سموا بذلك ، لأنهم ميامين ، أى أصحاب بركة على أنفسهم ، لأنهم أطاعوا ربهم وخالفوا أهواءهم … فكانت عاقبتهم الجنة . وسمى الآخرون بأصحاب المشأمة ، لأنهم مشائيم ، أى أصحاب شؤم على أنفسهم ، لأنهم طغوا وآثروا الحياة الدنيا ، فكانت عاقبتهم النار . أو سموا بذلك ، لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم . أو لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار … والعرب تسمى الشمال شؤما ، كما تسمى اليمين يمنا . والتعبير بقوله { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } للتفخيم والإِعلاء من شأنهم ، كما أن التعبير بقوله - تعالى - { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } للتحقير والتعجيب من حالهم . وجملة { مَآ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } مكونة من مبتدأ - وهو ما الاستفهامية - ، وخبر وهو ما بعدها ، وهذه الجملة خبر لقوله { فَأَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } . ووضع فيها الاسم الظاهر موضع الضمير للتفخيم ، بخلاف وضعه فى أصحاب المشأمة ، فهو للتشنيع عليهم . وشبيه بهذا الأسلوب قوله - تعالى - { ٱلْحَاقَّةُ مَا ٱلْحَاقَّةُ } و { ٱلْقَارِعَةُ مَا ٱلْقَارِعَةُ } ولا يؤتى بمثل هذا التركيب إلا فى مواضع التفخيم ، أو التعجيب … والمعنى فأصحاب الميمنة ، أى شىء هم فى أحوالهم وصفاتهم الكريمة ، وأصحابه المشأمة ، أى شىء هم فى أحوالهم وصفاتهم القبيحة ؟ . وقد ترك هذا الاستفهام التعجيبى على إبهامه ، لتذهب النفس فيه كل مذهب من الثواب أو العقاب … وقوله { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ } هؤلاء هم الصنف الثالث ، وهم الذين سبقوا غيرهم إلى كل قول أو فعل فيه طاعة لله - تعالى - وتقرب إلى جلاله . والأظهر فى إعراب مثل هذا التركيب ، أنه مبتدأ وخبر ، على عادة العرب فى تكريرهم اللفظ ، وجعلهم الثانى خبرا عن الأول ، ويعنون بذلك أن اللفظ المخبر عنه ، معروف خبره ، ولا يحتاج إلى تعريفه ، كما فى قول الشاعر @ أنا ابو النجم وشعرى شعرى @@ يعنى أن شعرى هو الذى أتاك خبره ، وانتهى إليك وصفه … والمعنى والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم . وعرفت منزلتهم ، وبلغت من الرفعة مبلغا لا يفى به إلا الإِخبار عنهم بهذا الوصف . وحذف - سبحانه - المتعلق فى الآية لإِفادة العموم ، أى هم السابقون إلى كل فضل ومكرمة وطاعة … وأخرهم - سبحانه - عن أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، لتشويق السامع إلى معرفة أحوالهم ، وبيان ما أعد لهم من ثواب عظيم ، فصله بعد ذلك فى قوله - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ … } أى والسابقون غيرهم إلى كل فضيلة وطاعة ، أولئك هم المقربون عند الله - تعالى - وأولئك هم الذين مقرهم جنات النعيم . فالجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأنها جواب يثيره فى النفوس قوله - تعالى - { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُون } َ و { أُوْلَـٰئِكَ } مبتدأ ، وخبره ما بعده . وما فيه من معنى البعد ، مع قرب العهد بالمشار إليه ، للإِشعار يسمو منزلتهم عند الله - تعالى - ولفظ { ٱلْمُقَرَّبُونَ } مأخوذ من القربة بمعنى الخطوة ، وهو أبلغ من القريب ، للدلالة صيغته على الاصطفاء والاختباء … أى أولئك هم المقربون من ربهم - عز وجل - قربا لا يعرف أحد مقداره . وقوله - سبحانه - { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } بيان لمظهر من مظاهر آثار هذا التقرب . قال الآلوسى وقوله { فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } متعلق بقوله { ٱلْمُقَرَّبُونَ } أو بمضمر هو حال من ضميره ، أى كائنين فى جنات النعيم . وعلى الوجهين . فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة ، لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده ، بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ، ولا يرد عليهم أمر أو نهى ، ولذا قيل { جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } دون جنات الخلود ونحوه … ثم قال - تعالى { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } والثلة الجماعة الكثيرة من الناس ، وأصلها القطعة من الشىء … وهى خبر لمبتدأ محذوف ، وللمفسرين فى المراد بالثلة من الأولين ، وبالقليل من الآخرين ، اتجاهان أولهما يرى أصحابه أن المراد بقوله { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أولئك السابقون من الأمم الكثيرة السابقة على الأمة الإِسلامية ، وهم الذين صدقوا أنبياءهم وعزروهم ونصروهم . والمراد بقوله { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } المؤمنون من هذه الأمة الإِسلامية . وعلى هذا المعنى صار صاحب الكشاف . فقد قال الثلة ، الأمة الكثيرة من الناس ، قال الشاعر @ وجاءت إليهم ثلة خندقية بجيش كتيار من السيل مزبد @@ وقوله - عز وجل - { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } كفى به دليلا على الكثرة - أى فى لفظ { ثُلَّةٌ } - وهو من الثل وهو الكسر - كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم . والمعنى أن السابقين من الأولين كثير ، وهم الأمم من لدن آدم - عليه السلام - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - … { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } ، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه ، أن الخطاب فى قوله - تعالى - { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } للأمة الإِسلامية خاصة ، وأن المراد بقوله { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } صدر هذه الأمة الاسلامية . وأن المراد بقوله - تعالى - { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } من أتى بعد صدر هذه الأمة إلى يوم القيامة . وقد أفاض الإِمام ابن كثير فى ترجيح هذا القول ، فقال ما ملخصه وقد اختلفوا فى المراد بقوله { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } فقيل المراد بالأولين الأمم الماضية ، وبالآخرين من هذه الأمة … وهو اختيار ابن جرير . وهذا الذى اختاره ابن جرير ههنا فيه نظر ، بل هو قول ضعيف ، لأن هذه الأمة ، هى خير الأمم بنص القرآن . فيبعد أن يكون المقربون أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة … فالقول الراجح أن يكون المراد بقوله - تعالى - { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أى من صدر هذه الأمة . والمراد بقوله { وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } أى من هذه الأمة … وروى عن الحسن أنه قال أما السابقون فقد مضوا ، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين . وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال ما ملخصه وقد اختلف أهل العلم فى المراد بهذه الثلة من الأولين ، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا . كما اختلفوا فى الثلتين المذكورتين فى قوله - تعالى - بعد ذلك { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } وظاهر القرآن يفيد فى هذا المقام أن الأولين فى الموضعين من الأمم الماضية ، والآخرين فيهما من هذه الأمة . وأن قوله - تعالى - { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } فى السابقين خاصة . وأن قوله - تعالى - { ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ ٱلآخِرِينَ } فى أصحاب اليمين خاصة . وذلك لشمول الآيات لجميع الأمم ، إذ قوله - تعالى - { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } خطاب لجميع أهل المحشر ، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين . منهم من هو من الأمم السابقة ، ومنهم من هو من هذه الأمة … ولا غرابة فى أن يكون السابقون من الأمم السابقة أكثر . . لأن الأمم الماضية أمم كثيرة … وفيهم أنبياء كثيرون . وأما أصحاب اليمين من هذه الأمة ، فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جمع الأمم ، لأن الثلة تتناول العدد الكثير وقد يكون أحد العددين … الكثيرين ، أكثر من الآخر ، مع أنهما كلاهما كثير . ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير . لا ينافى ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة … ثم بين - سبحانه - ما أعده هؤلاء السابقين بالخيرات من عطاء كريم ، فقال { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } . والسرر جمع سرير ، وهو ما يستعمله الإِنسان لنومه أو الاتكاء عليه فى جلسته . والموضونة أى المنسوجة بالذهب نسجا محكما ، لراحة الجالس عليها ولتكريمه ، يقال وضن فاان الغزل يضنه ، إذا نسجه نسجا متقنا جميلا . أى مستقرين على سرر قد نسجت أطرافها بالذهب وبما يشبهه ، نسجا بديعا يشرح الصدر . فقوله { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } حال من المقربين … ومثله قوله { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } أى مضطجعين عليها اضطجاع الذى امتلأ قلبه بالراحة ، وفراغ البال من كل ما يشغله ، وقد قابل وجه كل واحد منهم وجه الآخر ، ليتم سرورهم ونعيمهم ، إذ تقابل وجوه الأحباب يزيد الأنس والبهجة . { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أى يدور عليهم من أجل خدمتهم غلمان ، شبابهم باق لا يتغير ، وهيئتهم الجميلة على حالها لا تتبدل ، فهم دائما على تلك الهيئة المنعوتة بالشباب والمنظر الحسن . { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أى يطوفون عليهم ، بأكواب أى باقداح لا عُرَا لها ، وأباريق ، أى وبأوان ذات عرا { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أى وبإناء مملوء بالخمر الكثير الجارى فقوله { مَّعِينٍ } من المعن بمعنى الكثرة . { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا … } أى لا يصيبهم صداع أو تعب بسبب شرب هذه الخمر . فعن هنا بمعنى باء السببية . قوله { وَلاَ يُنزِفُونَ } أى ولا تذهب الخمر عقولهم ، كما تفعل خمر الدنيا بشاربيها ، مأخوذ من النزف ، بمعنى اختلاط العقل . وقوله { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أى ويطاف عليهم بفاكهة يتلذذون بأكلها ، وهذه الفاكهة تأتيهم من كل نوع ، على حسب ما يريدون ويشتهون . { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } مما يحبونه ويختارونه من هذه اللحوم الطيبة المحببة إلى النفوس ، يطاف عليهم به - أيضا - . وقوله { وَحُورٌ عِينٌ } معطوف على قوله { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أى ويطوف عليهم - أيضا - نساء عيونهن شديدة البياض والسواد فى سعة وجمال . وهؤلاء الحور العين { كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أى يشبهن اللؤلؤ المكنون الذى لم تلمسه الأيدى ، فى صفاء بياضهن ، وفى شدة جمالهن . وقوله - سبحانه - { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بيان للأسباب التى أوصلتهم إلى هذا النعيم الكبير … ولفظ { جَزَآءً } منصوب على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف ، أى أعطيناهم هذا العطاء الجزيل ، جزاء مناسبا بسبب ما كانوا يعملونه فى الدنيا من أعمال صالحة . قوله - تعالى - { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } تتميم للنعم التى أنعم - سبحانه - عليهم بها فى الجنة . واللغو الكلام الساقط الذى لا فائدة منه ، ولا وزن له . يقال لغا فلان يلغو . إذا قال كلاما يلام عليه . والتأثيم مصدر إثم ، إذا نسب غيره إلى الإِثم وفعل ما لا يليق . أى أن هؤلاء المقربين لا يسمعون فى الجنة كلاما لا يعتد به ، ولا يسمعون - أيضا - كلاما سيئا أو قبيحا ، بأن ينسب بعضهم إلى بعض ما لا يليق به ، وإنما الذى يسمعونه هو الكلام الطيب المشتمل على الأمان المتكرر ، والتحية الدائمة . ولفظ { سَلاَماً } الأول ، بدل من قوله { قِيلاً } أو نعت له … أى سالما من العيوب . والتكرير لهذا اللفظ القصد منه التأكيد ، والإِشعاربكثرة تحيتهم بهذا اللفظ الدال على المحبة والوئام . أى لا يسمعون فى الجنة إلا سلاما إثر سلام ، وتحية فى أعقاب تحية ، ومودة تتلوها مودة . والاستثناء منقطع ، لأن السلام لا يندرج تحت اللغو ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، و { قِيلاً } بمعنى قولا ، وهو منصوب على الاستثناء … وإلى هنا نجد الآيات الكريمة ، قد بينت أقسام الناس يوم القيامة ، وفصلت ما أعده - سبحانه - للسابقين ، من عطاء جزيل ، وفضل عميم . وبعد هذا الحديث الزاخر بالخيرات والبركات عن السابقين … جاء الحديث عن أصحاب اليمين وعما أعده الله - تعالى - لهم من ثواب فقال - سبحانه - { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ … } .