Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 16-19)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَلَمْ يَأْنِ } للتقرير ، و " يأن " فعل مضارع ، يقال أنى الشىء - كرمى - أنيا وأناء - بالفتح - وإِنى - بالكسر - إذا حان أناه ، أى وقته ، فهو فعل معتل حذفت منه الياء لسبقه بلم الجازمة ، ومنه قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أى غير ناظرين حلول وقته . والخطاب فى الآية يحتمل أن يكون من باب العتاب لطائفة من المؤمنين ، أصابهم بعض الفتور أو التكاسل ، فيما أمروا به من الاجتهاد فى طاعة الله - تعالى - بعد أن فتح الله - تعالى لهم أقطار الأرض ورزقهم بالكثير من لين العيش ، وخيرات الدنيا . ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المبارك ، وعبد الرازق ، وابن المنذر عن الأعمش قال لما قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فأصابوا من لين العيش ما اصابوا . بعد أن كان لهم من الجهد - وشظف العيش فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه ، فعوتبوا على ذلك فنزلت هذه الآية . ويحتمل أن يكون الخطاب فى الآية لجميع المؤمنين ، على سبيل الحض على المداومة على طاعة الله - تعالى - ، والتحذير من التقصير . قال الآلوسى ما ملخصه قوله - تعالى - { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } . استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا إليه ، والمعاتب - على ما قاله الزجاج - طائفة منهم ، وإلا فإن من المؤمنين من لم يزل خاشعا منذ أن أسلم إلى أن لقى ربه . والخشوع التذلل والخضوع ، واللام فى قوله { لِذِكْرِ ٱللَّهِ } للتعليل ، والمراد بذكرالله - تعالى - ما يشمل كل قول أو فعل يؤدى إلى الخوف من الله - تعالى - بحيث يظهر أثر ذلك على الجوارح . وقيل المراد به القرآن الكريم ، فيكون قوله - تعالى - بعد ذلك { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } من باب عطف الشىء على نفسه ، لاختلاف اللفظين ، كما فى قوله - تعالى - { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } والمعنى لقد آن الأوان أن تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله - تعالى - وأن تلين قلوبهم لما أنزله - سبحانه - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن ، تقشعر منه جلود الذين يخافون ربهم ، وترق له مشاعرهم ونفوسهم . وبعد هذا التحريض للمؤمنين على المسارعة فى طاعة الله - تعالى - وخشيته والإِكثار من ذكره نهاهم - سبحانه - عن التشبه بأهل الكتاب ، الذين طال عليهم الأمد فى الانغماس فى شهوات الدنيا فقست قلوبهم فقال - تعالى - { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } . والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى ، وبالكتاب التوراة والإِنجيل . والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - { تَخْشَعَ } والأمد الغاية من زمان أو مكان . والمراد به هنا الزمان الطويل . أى لقد آن الأوان أن تخشع قلوب الذين آمنوا لذكر الله وما نزل من الحق ، وآن الأوان - أيضا - أن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم ، حيث طال عليهم الوقت وهم منغمسون فى الشهوات والملذات ، فقست قلوبهم ، وصارت لا تتأثر لا بالترغيب ولا بالترهيب ، ولا تفرق بين الحرام والحلال . وأصبح كثير منهم خارجين عن الصراط المستقيم . فأنت ترى الآية الكريمة قد حضت المؤمنين على الركون إلى ذكر الله - تعالى - بشدة ومداومة … ونهتهم عن التشبه بأهل الكتاب فى عدم الخشوع وفى قسوة القلوب ، بسبب استيلاء المطامع والشهوات على قلوبهم . قال صاحب الكشاف ما ملخصه قوله - تعالى - { أَلَمْ يَأْنِ } من أنى الأمر إذا جاء أناه أى وقته … والآية نهى للمؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب فى قسوة القلوب ، وذلك أن بنى إسرائيل ، كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإِنجيل خشعوا ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان ، غلبهم الجفاء والقسوة ، واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره . فإن قلت ما معنى لذكر الله وما نزل من الحق ؟ قلت يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق القرآن ، لأنه جامع للأمرين الذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء . وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله . وإذا تلى القرآن ، كقوله - تعالى - { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } والآية الكريمة تشير إلى أن الإِهمال لذكر الله ، والاسترسال فى الشهوات كل ذلك يؤدى إلى قسوة القلوب وإلى الفسوق عن أمر الله - تعالى - . ولذا وجدنا كثيرا من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية ، تحض على الإِكثار من ذكر الله - تعالى - قال - سبحانه - { وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } وفى الحديث الشريف يقول - صلى الله عليه وسلم - " لا يقعد قوم يذكرون الله - تعالى - إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم فيمن عنده " . ولقد كان سماع الآية الكريمة ، بتدبر وتفكر وخشوع ، على رأس الأسباب التى أدت إلى توبة بعض العصاة توبة صادقة نصوحا . فهذا هو الفضل بن عياض يذهب ليلا لارتكاب ما نهى الله عنه ، فيسمع قارئا يقرأ هذه الآية ، فيرتجف ويعود أدراجه وهو يقول بلى والله قد آن أوان الخشوع لذكر الله . اللهم إنى تبت إليك ، وجعلت توبتى إليك جوار بيتك الحرام . ثم وجه - سبحانه - خطابه إلى المؤمنين فقال { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . وافتتاح الآية بقوله - تعالى - { ٱعْلَمُوۤاْ } يؤذن بأن ما سيلقى على مسامعهم من توجيهات ، جدير بالانتباه إلى مضمونه ، وإلى الامتثال لما اشتمل عليه من أمر أو نهى . وليس المقصود من الآية إخبار المؤمنين بأن الله - تعالى - قادر على إحياء الأرض بعد موتها ، فذلك أمر يعتقدونه ، ولا يتم إيمانهم إلا به . وإنما المقصود من هذه الآية الكريمة ، بيان أن المواظبة على ذكر الله - تعالى - وعلى تلاوة كتابه ، كل ذلك يكون له أثره فى خشوع النفوس ، وفى طهارة القلوب … كأثر المطر عندما ينزل على الأرض الجدباء المقفرة … فما تلبث إلا أن تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج . قال الإِمام الرازى قوله - تعالى - { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } . فيه وجهان الأول أنه تمثيل . والمعنى أن القلوب التى ماتت بسبب القساوة ، المواظبة على الذكر سبب لعودة حياة الخشوع إليها ، كما يحيى الله - تعالى - الأرض بالغيث . والثانى أن المراد من قوله { يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } ، بعث الأموات فذكر ذلك ترغيبا فى الخشوع والخضوع ، وزجرا عن القساوة . والمراد بالآيات فى قوله - تعالى - { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته ، وعلمه - سبحانه - . أى قد بينا لكم الدلائل والبراهين الناطقة بقدرتنا وحكمتنا … لعلكم بهذا البيان تعقلون ما أرشدناكم إليه ، وتعملون بموجب ما عقلتموه ، وبذلك تنالون الفلاح والسعادة ، وتخشع قلوبكم لذكرنا ولآياتنا . ثم بين - سبحانه - ما أعده للمؤمنين الذين يبذلون أموالهم فى سبيله . والذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه . فقال { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } . وقراءة { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ } بتشديد الصاد - من التصدق ، فأدغمت التاء فى الصاد بعد قلبها صادا لقرب مخرجيهما … وأصل الكلام المتصدقين والمتصدقات . وقرأ ابن كثير وغيره { إِنَّ ٱلْمُصَدِّقِينَ وَٱلْمُصَدِّقَاتِ } - بتخفيف الصاد - على أنه من التصديق لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . قال صاحب الكشاف فإن قلت علام عطف قوله { وَأَقْرَضُواْ } ؟ قلت على معنى الفعل فى المصدقين ، لأن " أل " بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى اصّدقوا ، فكأنه قيل " إن الذين اصدقوا وأقرضوا " . والمعنى إن المؤمنين والمؤمنات الذين تصدقوا بأموالهم فى وجوه الخير والدين { وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } بأن أنفقوا أموالهم الحلال فى سبيل الله بدون من أو أذى . هؤلاء الذين فعلوا ذلك { يُضَاعَفُ لَهُمْ } أجرهم عند الله - تعالى - أضعافا كثيرة . { وَلَهُمْ } فضلا عن كل ذلك ، أجر كريم ، لا يعلم مقداره إلا هو - سبحانه - . وقوله { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } مبتدأ . وقوله { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ } خبره ، والذين آمنوا بالله ورسله إيمانا حقا - لهم منزلة الصديقين منزلة المبالغين فى الصدق واليقين . فالصديق - بتشديد الدال - هو المبالغ فى الصدق بما جاءه به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى تنفيذ ما كلف به تنفيذا تاما . { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } وهم الذين استشهدوا فى سبيل الله - تعالى - { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } العظيم عند الله - تعالى - { وَنُورُهُمْ } الذى يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة لهم كذلك . فعلى هذا التفسير يكون قوله { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } مبتدأ ، وجملة { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } ، خبره ، ويكون الوقف على { ٱلصِّدِّيقُونَ } وقفا تاما … والضمائر فى { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } للشهداء . ويصح أن يكون قوله { وَٱلشُّهَدَآءُ } معطوف على { ٱلصِّدِّيقُونَ } عطف المفرد على المفرد ، فهو عطف على الخبر ، أى وهم الشهداء عند ربهم … ويكون الموقف على الشهداء تاما ، وأخبر - سبحانه - عن الذين آمنوا بالله ورسله ، أنهم صديقون وشهداء . والمعنى على هذا الوجه والذين آمنوا بالله ورسله ، أولئك هم الذين فى حكمه - تعالى - بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ، ورفعة الدرجة . وقوله - تعالى - { عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أى للذين آمنوا بالله ورسله عند ربهم ، مثل أجر الصديقين والشهداء ولهم مثل نورهم يوم القيامة ، وناهيك به من أجر عظيم ، ونور عميم . وحذف ما يفيد التشبيه فى الجملتين ، للتنبيه على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله يريد أن المؤمنين بالله ورسله ، هم عند الله - تعالى - بمنزلة الصديقين والشهداء ، وهم الذين سبقوا إلى التصديق ، واستشهدوا فى سبيل الله . وقوله { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أى لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم . فإن قلت كيف يسوى بينهم فى الأجر ولا بد من التفاوت ؟ قلت المعنى أن الله - تعالى - يعطى الذين آمنوا بالله ورسله أجرهم . ويضاعفه لهم بفضله . حتى يساوى أجرهم مع أضعافه ، أجر أولئك ، أى أجر الصديقين والشهداء . ويجوز أن يكون قوله { وَٱلشُّهَدَآءُ } مبتدأ ، وقوله ، { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبره … وقوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } بيان لسوء عاقبة الكافرين ، بعد بيان حسن عاقبة المؤمنين الصادقين . أى والذين كفروا بالله ورسله ، وكذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا أولئك أصحاب الجحيم ، الملازمون له ملازمة الشىء لصاحبه . وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حضت المؤمنين على المواظبة على ذكر الله - تعالى - وطاعته ونهتهم عن التشبه بالذين قست قلوبهم ، وبشرت المصدقين والمصدقات ، والذين آمنوا بالله - تعالى - وبرسله إيمانا حقا … بالأجر العظيم ، وبالعطاء الجزيل . ثم بين - سبحانه - حال الحياة ، التى ركن إليها الكافرون واطمأنوا بها … ودعا المؤمنين إلى أن تكون هممهم متجهة نحو الآخرة ، عن طريق التسلح بالأعمال الصالحة . فقال - تعالى - { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ … } .