Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 1-6)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت سورة " الحديد " بتنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق به ، وبالثناء عليه - تعالى - بما هو أهله ، وببيان جانب من صفاته الجليلة ، الدالة على وحدانيته ، وقدرته ، وعزته ، وحكمته ، وعلمه المحيط بكل شىء . افتتحت بقوله - عز وجل - { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . وقوله { سَبَّحَ } من التسبيح ، وأصله الإِبعاد عن السوء ، من قولهم سبح فلان فى الماء ، إذا توغل فيه ، وسبح الفرس ، إذا جرى بعيدا وبسرعة . قالوا وهذا الفعل { سَبَّحَ } قد يتعدى بنفسه ، كما فى قوله - تعالى - { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } وقد يتعدى باللام كما هنا . وهى للتأكيد والتبيين أى سبح لله لا لغيره . والمراد بالتسبيح هنا تنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق بجلاله وكماله . والمعنى نزه الله - تعالى - وعظمه وخضع له ، وانقاد لمشيئته ، جميع ما فى السماوات والأرض من كائنات ومخلوقات … لا يعلمها إلا هو - سبحانه - . وقد جاء التسبيح تارة بصيغة الفعل الماضى كما فى هذه السورة ، وكما فى سورتى الحشر والصف ، وتارة بصيغة المضارع ، كما فى سورتى الجمعة والتغابن ، وتارة بصيغة الأمر كما فى سورة الأعلى ، وتارة بصيغة المصدر كما فى سورة الإِسراء . جاء التسبيح بهذه الصيغ المتنوعة ، للإِشعار بأن تسبيح هذه المخلوقات لله - تعالى - شامل لجميع الأوقات والأحوال . قال - تعالى - { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } ، والعزيز هو الغالب على كل شىء ، إذ العزة معناها الغلية على الغير ، ومنه قوله - تعالى - { وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } أى غلبنى فى الخصام . وفى أمثال - العرب من عزَّ بزَّ ، أى من غلب غيره تفوق عليه . والحكيم مأخوذ من الحكمة ، وهى وضع الأمور فى مواضعها اللائقة بها . أى وهو - سبحانه - الغالب الذى لا يغلبه شىء - الحكيم الذى يضع الأمور فى مواضعها السليمة . ثم ذكر - سبحانه - صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . أى . له - سبحانه - وحده دون أن يشاركه مشارك ، ملك السموات والأرض ، إذ هو - تعالى - المتصرف فيهما ، والخالق لهما ، إن شاء أبقاهما وإن شاء أزالهما . وملكه - سبحانه - للسماوات والأرض ، ملك حقيقى ، لأنه لا ينازعه فيه منازع ، ولا يشاركه مشارك … بخلاف ملك غيره لبعض متاع الدنيا ، فإنه ملك زائل مهما طال ، ومفتقر إلى من يحميه ويدافع عنه . وقوله { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } صفة أخرى من صفاته - عز وجل - أى هو الخالق للحياة لمن شاء أن يحييه ، وهو الخالق للموت لمن أراد أن يميته . وهذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف ، وهى فى الوقت نفسه بدل اشتمال مما قبلها إذ الإِحياء والإِماتة ، مما يشتمل عليه ملك السماوات والأرض . وخص - سبحانه - هاتين الصفتين بالذكر ، لأنه هو المتفرد بهما ، ولا يستطيع أحد أن يدعى أن له عملا فيهما ، ومن ادعى ذلك كانت دعواه من قبيل المغالطة والمجادلة بالباطل ، إذ الموجد الحقيقى لهما هو الله - عز وجل - وما سواه فهو سبب لهما . وقوله - تعالى - { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مؤكد لما قبله . أى وهو - سبحانه - على كل شىء من الأشياء التى من جملتها ما ذكر - قدير على إيجادها أو إعدامها . ثم ذكر - سبحانه - صفات أخرى من صفاته الجليلة فقال { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . أى هو - سبحانه - الأول والسابق على جميع الموجودات ، إذ هو موجدها ومحدثها إبتداء . فهو موجود قبل كل شىء وجودا لا حد ولا وقت لبدايته . { وَٱلآخِرُ } أى الباقى بعد هلاك وفناء جميع الموجودات ، كما قال - تعالى - { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } وأوثر لفظ { ٱلآخِرُ } على لفظ الباقى ليتم الطباق بين الوصفين المتقابلين … وهو { ٱلظَّاهِرُ } أى الظاهر وجوده عن طريق مخلوقاته التى أوجدها بقدرته إذ من المعروف عند كل عاقل أن كل مخلوق لا بد له من خالق ، وكل موجود لا بد له من موجد . فلفظ { ٱلظَّاهِرُ } مشتق من الظهور الذى هو ضد الخفاء ، والمراد به هنا ظهور الأدلة العقلية والنقلية على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه . ويجوز أن يكون مشتقا من الظهور ، بمعنى الغلبة والعلو على الغير ، كما فى قوله - تعالى - { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ … } وعليه يكون المعنى وهو الغالب العالى على كل شىء . وهو { وَٱلْبَاطِنُ } من البطون بمعنى الخفاء والاستتار ، أى وهو - سبحانه - المحتجب يكنه ذاته عن أن تدركه الأبصار ، أو أن تحيط بحقيقة ذاته العقول ، كما قال - تعالى - { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } ويصح أن يكون { ٱلْبَاطِنُ } بمعنى العالم بما بطن وخفى من الأمور يقال فلان أبطن بهذا الأمر من غيره ، أى أعلم بهذا الشىء من غيره . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أى وهو - سبحانه - عليم بكل ما فى هذا الكون ، لا تخفى عليه خافية من شئونه ، كما قال - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } قال ابن كثير وهذه الآية هى المشار إليها فى حديث عرباض بن معاوية أنها أفضل من ألف آية . وقد اختلفت عبارات المفسرين فى هذه الآية على نحو بضعة عشر قولا وقال البخارى قال يحيى الظاهر على كل شىء علما والباطن على كل شىء علما . وروى الإِمام مسلم - فى صحيحه - ، والإِمام أحمد - فى مسنده - عن أبى هريرة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو عند النوم فيقول " اللهم رب السماوات ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شىء ، منزل التوراة والإِنجيل والقرآن ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر كل شىء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شىء ، وأنت الآخر فليس بعدك شىء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شىء ، وأنت الباطن فليس دونك شىء . اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر … " . ثم ساق - سبحانه - ألوانا اخرى من الأدلة التى تدل على وحدانيته وقدرته فقال { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } . والأيام جمع يوم ، واليوم فى اللغة مطلق الوقت ، أى فى ستة أوقات لا يعلم مقدارها إلا الله - تعالى - . وقيل هذه الأيام من أيام الدنيا . والاستواء فى اللغة يطلق على الاستقرار ، كما فى قوله - تعالى - { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ } أى استقرت سفينة نوح - عليه السلام - عند ذلك الجبل المسمى بذلك الاسم … كما يطلق بمعنى القصد ، ومنه قولهم استوى إلىَّ يخاصمتى ، أى قصد لى . كما يطلق بمعنى الاستيلاء والقهر ، ومنه قول الشاعر @ قد استوى بشر على العراق @@ وعرش الله ، مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم أما حقيقته وكيفيته فلا يعلمها إلى الله - تعالى - . وقد ذكر العرش فى إحدى وعشرين آية من القرآن الكريم ، كما ذكر الاستواء على العرش فى سبع آيات . أى هو - سبحانه - الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أوقات ، ثم استوى على العرش ، استواء يليق به - تعالى - . بلا كيف ، ولا تمثيل ، ولا تشبيه ، لاستحالة اتصافه - تعالى بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } قال الإِمام مالك - رحمه الله - الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . ثم بين - سبحانه - شمول علمه فقال { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } . وقوله { يَلِجُ } من الولوج بمعنى الدخول ، يقال ولج فلان بيته ، إذا دخله . وقوله { يَعْرُجُ } من العروج وهو الذهاب فى صعود ، والسماء ، جهة العلو مطلقا . أى أنه - سبحانه - يعلم ما يلج فى الأرض ، وما يدخل فيها من ماء نازل من السماء ، ومن جواهر وكنوز قد طويت فى باطنها ، ومن بذور ومعادن فى طياتها . ويعلم - أيضاً - { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وحبوب وكنوز ، وغير ذلك من أنواع الخيرات ، ويعلم - كذلك - { مَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } من أمطار ، وثلوج ، وبرد ، وصواعق ، وبركات ، من عنده - تعالى - لأهل الأرض . ويعلم - أيضا - ما يصعد فيها من الملائكة ، ومن الأعمال الصالحة ، كما قال - تعالى - { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وعدى العروج بحرف فى ، لتضمنه معنى الاستقرار ، وهو فى الأصل يعدى بحرف إلى ، كما فى قوله - تعالى - { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } وقوله - سبحانه - { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } أى وهو معكم بعلمه ولطفه ورحمته … أينما كنتم وحيثما وجدتم . قال الآلوسى قوله - تعالى - وهو معكم أينما كنتم تمثيل لإِحاطة علمه - تعالى - بهم ، وتصوير خروجهم عنه أينما كانوا ، وقيل المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السياق واللحاق مع استحالة الحقيقة . وقد أول السلف هذه الاية بذلك ، أخرج البيهقى فى الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها عالم بكم أينما كنتم . وأخرج - أيضا - عن سفيان الثورى أنه سئل عنها فقال علمه معكم . وفى البحر أنه اجمعت الأمة على هذا التأويل فيها ، وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى والله - تعالى - لا يخفى عليه شىء من أقوالكم أو أفعالكم … بل هو مطلع عليكم اطلاعا تاما . ثم أكد - سبحانه - كمال قدرته فقال { لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى له - سبحانه - التصرف الكلى فى السماوات والأرض . وفيما فيهما من موجودات ، من حيث الإِيجاد والإِعدام وسائر التصرفات . { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } أى وإلى الله - تعالى - وحده لا إلى غيره ، مرد الأمور كلها ، والحكم عليها ، والتصرف فيها … وليس إلى أحد غيره لا على سبيل الاستقلال ، ولا على سبيل الاشتراك . { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } أى يدخل - سبحانه - طائفة من الليل فى النهار ، فيقصر الليل ويزيد النهار ويدخل طائفة من النهار فى الليل ، فيقصر النهار ، ويزيد الليل ، ثم يسيران على هذا النظام البديع ، دون أن يسبق أحدهما الآخر . { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } و " ذات " هنا مؤنث ذو بمعنى صاحب . أى وهو - سبحانه - عليم علما تاما بمكنونات الصدور ، وما تضمره من خير أو شر وما يتردد فيها من خواطر وأفكار . والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا ، يراها قد اشتملت على بضع عشرة صفة ، من صفات الله عز وجل - الدالة على وجوب إخلاص العبادة له ، والانقياد لأمره ونهيه . ثم دعا - سبحانه - عباده المؤمنين إلى التمسك بهذا الإِيمان ، وإلى تنفيذ تكاليفه ، ووعدهم على ذلك بأجزل الثواب ، فقال - تعالى - { آمِنُواْ بِٱللَّهِ … } .