Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 7-11)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والخطاب فى قوله - تعالى - { آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلى الناس جميعا ويدخل فيه المؤمنون دخولا أوليا ، ويكون المقصود بدعوتهم إلى الإِيمان المداومة عليه والتمسك بتعاليمه ، وتنفيذ توجيهاته … كما قال - تعالى - { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْل } وقوله { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } بيان لما يقتضيه هذا الإِيمان . وقوله { مُّسْتَخْلَفِينَ } اسم مفعول من الاستخلاف ، بمعنى أن يخلف الإِنسان غيره ، أو أن يخلفه غيره من بعده . أى آمنوا - أيها الناس - بالله - تعالى - وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - إيمانا حقا ، وإن من مقتضيات هذا الإِيمان ، أن تنفقوا من أموالكم فى وجوه الخير ، فإن هذه الأموال هى عارية فى أيديكم ، فقد ورثتموها من غيركم ، وغيركم سيرثها عنكم ، وهى فى جيمع الأحوال ملك لله - تعالى - وحده على الحقيقة . قال القرطبى قوله { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } دليل على أن أصل الملك لله - سبحانه - وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذى يرضى الله فيثيبه على ذلك بالجنة ، فمن أنفق منها فى حقوق الله ، وهان عليه الإِنفاق منها ، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه ، كان له الأجر الجزيل . وقال الحسن مستخلفين فيه ورثتكم إياه عمن كان قبلكم . وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم فى الحقيقة ، وما أنتم إلا بمنزلة النواب والوكلاء ، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق ، قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم . ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء المنفقين فقال { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } إيمانا حقا … { وَأَنفَقُواْ } أموالهم فيما يرضى الله - تعالى - { لَهُمْ } منه - عز وجل - { أَجْرٌ كَبِيرٌ } لا يعلم مقداره إلا الله - تعالى - . ثم رغبهم - سبحانه - فى الثبات على الإِيمان بالله ورسوله فقال { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } . أى وأى مانع يمنعكم من الثبات على الإِيمان . ومن القيام بتكاليفه ، ومن إخلاص العبادة له - تعالى - وحده ، والحال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينكم صباح مساء ، يدعوكم إلى الإِيمان بربكم ، وقد أخذ - سبحانه - عليكم العهود والمواثيق على هذا الإِيمان ، عن طريق ما ركب فيكم من عقول تعقل ، وعن طريق ما نصب لكم من أدلة متنوعة كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله الواحد القهار . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية أى وأى شىء يمنعكم من الإِيمان ، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به . وقد روينا فى الحديث من طرق ، فى أوائل شرح كتاب الإِيمان من صحيح البخارى ، " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوما لأصحابه " أى المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟ " قالوا الملائكة . قال " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ " قالوا فالأنبياء قال " ومالهم لا يؤمنون والوحى ينزل عليهم " قالوا فنحن ، قال " فما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم ، يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " . وقوله - تعالى - { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } كما قال - تعالى - { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا … } ويعنى بذلك بيعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذى أخذ عليهم فى صلب آدم . وجواب الشرط فى قوله - تعالى - { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه . أى إن كنتم مؤمنين لسبب من الأسباب ، فعلى رأس هذه الأسباب وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينكم يدعوكم إلى هذا الإِيمان ويقنعكم بوجوب الاعتصام به . ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعليهم فقال { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . والرءوف مبالغة فى الاتصاف بالرأفة ، ومعناها كراهية إصابة الغير بما يضره أو يؤذيه . والرحيم مبالغة فى الاتصاف بصفة الرحمة . ومعناه محبة إيصال الخير والنفع إلى الغير . أى هو - سبحانه - وحده الذى ينزل على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أى حججا واضحات ، ودلائل باهرات ، لكى يخرجكم من ظلمات الكفر والجهل ، إلى نور الإِيمان والعلم . وإن الله - تعالى - بكم - أيها الناس - لكثير الرأفة والرحمة ، حيث أنزل إليكم كتابه ، وأرسل إليكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وكما حضهم - سبحانه - على الثبات على الإِيمان … حضهم أيضاً مرة أخرى على الإِنفاق فى سبيله بأبلغ أسلوب ، فقال { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . والاستفهام فى قوله تعالى { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ … } للتعجيب من حال من يمسك عن الإِنفاق فى سبيل الله ، مع أن كل المقتضيات تدعوه إلى هذا الإِنفاق . والكلام فى قوله - تعالى - { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } على حذف مضاف ، والجملة حال من فاعل { أَلاَّ تُنفِقُواْ } ، أو من مفعوله المعلوم مما تقدم . وإضافة ميراث إلى السماوات والأرض ، من إضافة المصدر إلى المفعول أى وأى سبب يحملكم على البخل وعدم الإِنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، والحال أن لله - تعالى - ميراث أهل السماوات وأهل الأرض . إنه لا عذر لكم فى الشح والإِمساك بعد أن بينت لكم ما بينت من وجوب الإِنفاق فى سبيل الله . قال الآلوسى قوله { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى يرث كل شىء فيهما ، ولا يبقى لأحد مال ، على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما ، لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف . وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما ، واختير الأول ، لأنه يكفى لتوبيخهم ، إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا … والجملة مؤكدة للتوبيخ ، فإن ترك الإِنفاق بغير سبب قبيح منكر ، ومع تحقيق ما يوجب الإِنفاق أشد فى القبح ، وأدخل فى الإِنكار . ثم قال - تعالى - { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ } . والمراد بمن أنفق من قبل الفتح وقاتل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، الذين أنفقوا الكثير من أموالهم ، قيل فتح مكة … وقيل المراد بالفتح صلح الحديبية . وإنما كان الذين أنفقوا وقاتلوا قبل هذا الوقت ، أعظم درجة ممن فعل ذلك بعد هذا الوقت ، لأن الأيام التى سبقت الفتح تعرض المسلمون خلالها لكثير من المصائب والخوف والجوع ونقص الثمرات … فكان الإِنفاق والجهاد فيها أشق على النفس ، والثواب على قدر المشقة . أى لا يستوى منكم - أيها المؤمنون - فى الفضيلة والدرجة من أنفق الكثير من ماله ، من قبل أن تفتح مكة ، وجاهد فى سبيل الله - تعالى - جهادا كبيرا ، أولئك الذين فعلوا ذلك ، أعظم درجة ومنزلة من الذين انفقوا وقاتلوا بعد أن فتحت مكة . فالجملة الكريمة بيان لتفاوت الدرجات ، على حسب تفاوت الأحوال والأعمال ، وعطف - سبحانه - القتال فى قوله { وَقَاتَلُواْ } على الإِنفاق فى قوله { أَنفَقُواْ } للإِشعار بشدة ارتباطهما ، وأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر . قال القرطبى أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة . وقال الشعبى والزهرى فتح الحديبية … وفى الكلام حذف . أى لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، فحذف لدلالة الكلام عليه . وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإِسلام ، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق ، والأجر على قدر النصب . وقوله - تعالى - { مَّنْ أَنفَقَ … } عام يشمل جميع من بذل ماله قبل الفتح فى سبيل الله . وقيل المراد به أبو بكر الصديق - رضى الله عنه - لأنه أول من أسلم ، وأول من أنفق . وقوله - عز وجل - { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } مدح للفريقين ، ودفع للتوهم من أن يظن ظان أن الفريق الثانى وهو الذى أنفق من بعد الفتح وقاتل ، محروم من الأجر . أى وكلا الفريقين وعده الله - تعالى - المثوبة الحسنى وهى الجنة ، إلا أن الذين انفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد ذلك . فهذه الآية أصل فى تفاضل أهل الفضل فيما بينهم ، وأن الفضل ثابت لهم جميعا إلا أنهم تفاوتوا على حسب أعمالهم وجهادهم وسبقهم . ثم حتم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أى أنه - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أعمالكم الظاهرة أو الباطنة فأخلصوا أقوالكم وأفعالكم لله - تعالى - لتنالوا أجره وثوابه . وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث التى تدل على فضل الصحابة - رضوان الله عليهم - ومنها ما جاء فى الحديث الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال " لا تسبوا أصحابى ، فوالذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " . ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الكريمة ، بتحريض اشد وأقوى على الإِنفاق فى وجوه الخير ، فقال - تعالى - { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } . قال القرطبى القرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، وأقرض فلان فلانا ، أى أعطاه ما يتجازاه واستقرضت من فلان أى طلبت منه القرض فأقرضنى ، واقترضت منه أى أخذت منه القرض . وأصل الكلمة القطع . ومنه المقراض ، وأقرضته ، أى قطعت له من مالى قطعة يجازى عليها . ثم قال والتعبير بالقرض فى هذه الآية ، إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، والله هو الغنى الحميد ، لكنه - تعالى - شبه عطاء المؤمن فى الدنيا بما يرجو به ثوابه فى الآخرة بالقرض ، كما شبه إعطاء النفوس والأموال فى أخذ الجنة بالبيع والشراء " . والقرض الحسن هو الإِنفاق من المال الحلال ، مع صدق النية ، دون رياء أو سمعة . أو منٍّ أو أذى مع تحرى أوسط الأموال . والاستفهام للحض على البذل والعطاء ، والتحريض على التحلى بمكارم الأخلاق . و { مَّن } اسم استفهام مبتدأ ، و { ذَا } اسم إشارة خبره ، و { ٱلَّذِي } وصلته صفة لاسم الإِشارة ، أو بدل منه . والمعنى من هذا المؤمن القوى الإِيمان ، الذى يقدم ماله فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وفى غير ذلك من وجوه الخير كمعاونة المحتاجين ، وسد حاجة البائسين … { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أى فيعطيه - سبحانه - أجره على إنفاقه أضعافا مضاعفة . { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } ، أى ولهذا المنفق - فضلا عن كل ذلك - أجر كريم عند خالقه ، لا يعلم مقداره إلا هو - تعالى - . فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على ألوان من الحض على الإِنفاق فى وجوه الخير . ومن ذلك التعبير بالاستفهام فى ذاته ، لأنه للتنبيه وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة . ومن ذلك - أيضا - التعبير بقوله { مَّن ذَا ٱلَّذِي } … إذ لا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر ، وكأن المخاطب لعظم شأنه ، من شأنه أن يشار إليه ، وأن يجمع له بين اسم الإِشارة وبين الاسم الموصول . ومن ذلك تسميته ما يبذله الباذل قرضا ، ولمن هذا القرض ؟ إنه لله الذى له خزائن السماوات والأرض . فكأنه - تعالى - يقول أقرضونى مما أعطيتكم ، وسأضاعف لكم هذا القرض أضعافا مضاعفة ، يوم القيامة { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة ، وضم الأجر الكريم إليها . ومن ذلك التعبير عن الإِنفاق بالقرض ، إذ القرض معناه إخراج المال . وانتظار ما يقابله من بدل . والخلاصة أن هذه الآية وما قبلها ، فيها ما فيها من الدعوة إلى الإِنفاق فى وجوه الخير ، وإلى الجهاد فى سبيل الله . ثم بين - سبحانه - ما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب ، وساق جانبا مما يدور بينهم وبين المنافقين من محاورات … فقال - تعالى - { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ … } .