Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 58, Ayat: 5-8)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - سبحانه - { يُحَآدُّونَ } من المحادة بمعنى المعاداة والمباغضة ، وأصلها أن تكون أنت فى حد - أى فى جانب - وعدوك فى حد آخر ، فكنى بها عن المعاداة لأنها لازمة لها . وقوله { كُبِتُواْ } من الكبت بمعنى الخزى والذل ، يقال كبت الله العدو كبتاً - من باب ضرب - إذا أهانه وأذله وأخزاه . قال الجمل والذين يحادون الله هم الكافرون ، وهذه الاية وردت فى غزوة الأحزاب . والمقصود منها البشارة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، بأن أعداءهم المتحزبين القادمين عليهم ، سيصيبهم الكبت والذل ، وسيتفرق جمعهم … والمعنى إن الذين يحاربون دين الإِسلام الذى شرعه الله - تعالى - . وجاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - { كُبِتُواْ } وأصابهم الخزى والذل { كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من أعداء الحق . وأوثر هنا الفعل { يُحَآدُّونَ } لوقوعه عقب الكلام عن حدود الله - تعالى - فى قوله - عز وجل - وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم . وقوله - تعالى - { كُبِتُواْ } بمعنى سيكبتون ، وعبر عن ذلك بالماضى ، للإِشعار بتحقق الذل والخسران ، لأولئك المتحزبين الذين جمعوا جموعهم لمحاربة الله ورسوله . وقد حقق الله - تعالى - وعده ، إذ ردهم بغيظهم دون أن ينالوا خيرا . وجملة { وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ … } حال من الضمير فى { كُبِتُواْ … } أى كبتوا لمجادلتهم للحق ، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات ، تدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من عند ربه ، وتشهد بأن أعداءه على الباطل والضلال . { وَلِلْكَافِرِينَ } الذين أعرضوا عن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحاربوها { عَذَابٌ مُّهِينٌ } أى عذاب يهينهم ويذلهم ويخزيهم . وقوله - تعالى - { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } يصح أن يكون متعلقاً بقوله { مُّهِينٌ } كما يصح أن يكون منصوباً بفعل مقدر . أى اذكر - أيها العاقل - لتتعظ وتعتبر ، يوم يبعث الله - تعالى - هؤلاء الكافرين جميعا من قبورهم ، فينبثهم ويخبرهم بما عملوا من أعمال سيئة . والمراد بالإِنباء فى قوله { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ } المجازاة والمحاسبة وإنزال حكمه بهم . وجملة { أَحْصَاهُ ٱللَّهُ } مستأنفة ، لأنها بمنزلة الجواب عما قبلها ، فكأن سائلا سأل وقال كيف ينبئهم الله بأعمالهم ؟ فكان الجواب أحصى الله - تعالى - عليهم عملهم ، وسجله عليهم تسجيلا تاما . وجملة { وَنَسُوهُ } حال من مفعول أحصى أى والحال أنهم قد نسوا ما عملوه ، لتهاونهم به حين اقترفوه ، ولاعتقادهم بأنهم لن يسألوا عنه يوم القيامة ، فهم قد أنكروا البعث والحساب والثواب والعقاب . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أى والله - تعالى - مشاهد لكل شىء فى هذا الكون ، ولا تخفى عليه خافية من أحوال خلقه . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } ثم أقام - سبحانه - الأدلة على شمول علمه فقال { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } . والاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَرَ … } للتقرير ، والرؤية بمعنى العلم والإِدراك القلبى … والخطاب لكل من هو أهل له . والنجوى اسم مصدر بمعنى المسارة ، يقال نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة ، أى ساررته بكلام على انفراد ، وأصله أن تخلو بمن تناجيه بسر معين فى نجوة من الأرض ، أى فى مكان مرتفع منفصل عما حوله . وقيل أصله من النجاة ، لأن الإِسرار بالشىء فيه معاونة على النجاة . وتطلق النجوى على القوم المتناجين ، كما فى الآية التى معنا . قال الآلوسى وقوله - تعالى - { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه - تعالى - ، و " يكون " من كان التامة . و " من " مزيدة و " نجوى " فاعل ، وإضافتها إلى ثلاثة من إضافة المصدر إلى فاعله … والاستثناء فى قوله { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } مفرغ من أهم الأحوال … والمعنى لقد علمت - أيها العاقل - علما لا يخالطه شك أو تردد ، أن الله - تعالى - يعلم علما تاما ، ما فى السماوات وما فى الأرض من كائنات مختلفة الأجناس والأنواع … وأنه - سبحانه - ما يقع من تناجى ثلاثة فيما بينهم إلا وهو تعالى - يعلمه ، كأنه حاضر معهم ، ومشاهد لهم ، كما يعلمه الرابع حين يكون معهم فى التناجى . { وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } أى ولا يكون التناجى بين خمسة إلا وهو - سبحانه - معهم ، يعلم ما يتناجون به كما يعلم ذلك سادسهم فيما لو كان التناجى بين ستة . وقوله - تعالى - { وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } بيان لشمول علمه لجميع الأحداث . أى ولا يقع التناجى بين ما هو أقل من ذلك العدد أو أكثر - كالاثنين والستة - إلا وهو - سبحانه - يعلم علما تاما ما يجرى بينهم فى أى مكان كانوا ، وعلى أية حال وجدوا . { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أى ثم يخبرهم - سبحانه - يوم القيامة بما عملوه فى الدنيا من أعمال كبيرة أو صغيرة ، ويجازيهم عليها بما يستحقونه من ثواب أو عقاب . { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فهو - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء . والمقصود بهذه الآية الكريمة ، بيان شمول علم الله - تعالى - لكل شىء ، وأنه - سبحانه - يحصى على الناس أعمالهم إحصاء الحاضر معهم ، المشاهد لهم ، الذى لا يعزب عنه شىء من حركاتهم أو سكناتهم ، ولذا افتتح - سبحانه - الآية بالعلم ، واختتمها بالعلم - أيضا - . قال الإِمام الرازى ما ملخصه ذكر - سبحانه - الثلاثة والخمسة لوجوه أحدها أن هذه إشارة إلى كمال رحمته ، وذلك لأن الثلاثة إذا اجتمعوا ، فإذا أخذ اثنان فى التناجى والمشاورة بقى الواحد ضائعا وحيداً ، فيضيق قلبه فيقول الله - تعالى - له أنا جليسك وأنيسك . وثانيها أن العدد الفرد أشرف من الزوج ، لأن الله وتر يحب الوتر ، فخص الأعداد الفردية بالذكر للتنبيه على شرفها . وثالثها أن الآية نزلت فى قوم من المنافقين ، اجتمعوا على التناجى مغايظة للمؤمنين ، وكانوا على هذين العددين أى كانوا فى مرة ثلاثة وفى مرة أخرى خمسة - فنزلت الآية الكريمة بيانا للواقع . ويبدو لنا ان ذكر العدد إنما هو من باب التمثيل ، وأن المقصود الأصلى من الآية الكريمة ، بيان أن علم الله - تعالى - يشمل كل كبير وصغير ، وكثير وقليل ، ولذا قال - سبحانه - { وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } . قال القرطبى قال الفراء المعنىغير مقصود ، والعدد غير مقصود ، لأنه - تعالى - إنما قصد - وهو أعلم - أنه مع كل عدد قل أو كثر ، يعلم ما يقولون سراً وجهراً ، ولا تخفى عليه خافية ، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد ، دون بعض … ثم عجَّب الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - من حال قوم يؤثرون الغى على الرشد ، ويُنصحون فلا يستجيبون للنصيحة ، ويُنهون عن الشرور فيأبون إلا الانغماس فيها ، فقال - تعالى - { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ } . قال الآلوسى قال ابن عباس نزلت فى اليهود والمنافقين ، كانوا يتناجون دون المؤمنين ، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم ، يوهمونهم عند أقاربه أنهم أصابهم شر ، فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم عن التناجى دون المؤمنين ، فعادوا لمثل فعلهم . والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - والهمزة للتعجب من حالهم ، وصيغة المضارع للدلالة على تكرار فعلهم ، وتجدده ، واستحضار صورته الغريبة . والمعنى إن شئت أن تعجب - أيها الرسول الكريم - فاعجب من حال هؤلاء اليهود والمنافقين الذين نهيتهم أنت عن التناجى فيما بينهم ، بما يقلق المؤمنين ويغيظهم … ولكنهم لم يستجيبوا لنصحك ونهيك ، بل استمروا على تناجيهم بما هو إثم وعدوان ومعصية لك ، ولما جئتهم به من عند الله - تعالى - . وعبر بقوله - تعالى - { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } للإِشعار بأنهم قوم لا تؤثر فيهم النصائح وإنما هم يستمعون إليها ، ثم يهجرون العمل بها . ويعودون إلى فجورهم وفسقهم . ووصف تناجيهم بأنه كان مشتملا على الإِثم والعدوان ومعصية الرسول ، لا على الإِثم فقط أو على العدوان فقط … لبيان أن تناجيهم مشتمل على كل أنواع السوء والفحشاء ، فهم يتناجون بكلام هو إثم وشر فى ذاته ، وبأقوال مشتملة على ظلم المؤمنين والاعتداء على دينهم وعلى أعراضهم ، وبأفعال هى معصية للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنهم لم يستجيبوا لنهيه إياهم عن المناجاة بما يؤذى المؤمنين ويحزنهم … بل استمروا فى طغيانهم يعمهون . والباء فى قوله { بِٱلإِثْمِ } للملابسة ، أى يتناجون متلبسين بالإِثم وبالعدوان وبمعصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم من اليهود ، لم يكتفوا بتلك المناجاة القبيحة التى كانوا يديرونها فيما بينهم ، لإِغاظة المؤمنين ، بل أضافوا إلى ذلك النطق أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكلام السيىء وبالعبارات التى تدل على سوء طويتهم ، فقال - تعالى - { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } . أى وإذا جاء هؤلاء المنافقين واليهود إلى مجلسك - أيها الرسول الكريم - ألقوا إليك بتحية ، هذه التحية لم يأذن بها الله - تعالى - ولم يخاطبك بها . وقد كان المافقون عندما يدخلون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقولون له كلمة " السلام عليكم " - وهى تحية الإِسلام ، إنما يقولون له أنعم صباحا أو مساء … متجنبين النطق بتحية الإِسلام ، ومستعملين تحية الجاهلية . روى الشيخان عن عائشة " أن ناسا من اليهود ، دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا السام - أى الموت - عليك يا أبا القاسم . فقال - صلى الله عليه وسلم - " وعليكم " . قالت عائشة وقلت عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم . فقال - صلى الله عليه وسلم - يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش . فقلت ألا تسمعهم يقولون السام ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - " أو سمعت قولى عليكم " فأنزل الله - تعالى - { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ } " . ثم بين - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائلهم المتعددة فقال { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } . والمراد بأنفسهم هنا أى فيما بينهم وفى مجامعهم ، أو فيما يبنهم وبين أنفسهم . أى إذا جاءك هؤلاء المنافقون ومن على شاكلتهم فى الضلال ، نطقوا أمامك بتحية لم يحيك بها الله - تعالى - ولا يكتفون بذلك ، بل يقولون فيما بينهم على سبيل التباهى والجحود للحق { لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } أى هلا يعذبنا الله بسبب ما قلناه لو كان محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسولا من عنده - تعالى - أى أنهم ينكرون نبوته - صلى الله عليه وسلم - لأنها - فى زعمهم لو كانت حقا ، لعذبهم الله - تعالى - بسبب إساءتهم إليه ، وإعراضهم عن نهيه لهم . وقد رد الله - تعالى - عليهم بما يكبتهم ، وبما يسلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } . أى لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لمسالك هؤلاء المنافقين معك ومع أصحابك ، فإن هؤلاء المنافقين ومن لف لفهم ، كافيهم من العذاب جهنم يصلونها ويقاسون حرها ، فبئس المصير جهنم لو كانوا يعلمون . وبعد أن فضح الله - تعالى - المنافقين ومن على شاكلتهم فى الكفر والضلال ، وبين سوء عاقبتهم بسبب مسالكهم الخبيثة … بعد كل ذلك وجه الله - تعالى - ثلاث نداءات إلى المؤمنين ، أدبهم فيها بأدبه السامى … فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا … } .