Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 1-5)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت سورة " الحشر " بالثناء على الله - تعالى - وبتنزيهه عن كل مالا يليق بذاته الجليلة ، فقال - عز وجل - { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . واصل التسبيح لغة الإِبعاد عن السوء . وشرعا تنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق بجلاله وكماله . والذى يتدبر القرآن الكريم ، يجد أن الله - تعالى - قد ذكر فيه أن كل شىء فى هذا الكون يسبح بحمده - تعالى - ، كما فى قوله { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } كما ذكر - سبحانه - أن الملائكة تسبح له ، كما فى قوله { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ … } وكذلك الرعد ، كما فى قوله { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ … } وكذلك الجبال والطير قال - تعالى - { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } وقد سبق أن ذكرنا خلال تفسيرنا لقوله - تعالى - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ … } أن الرأى الذى تطمئن إليه النفس ، أن التسيبح حقيقى ، ولكن بلغة لا يعملها إلا الله - تعالى - . والمعنى سبح لله - تعالى - ونزهه عن كل ما لا يليق به ، جميع ما فى السماوات وجميع ما فى الأرض من كائنات ومخلوقات . وهو - عز وجل - { ٱلْعَزِيزُ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } فى أقواله وأفعاله . وقد افتتحت بعض السور - كسورة الحديد والحشر والصف - بالفعل الماضى ، لإِفادة الثبوت والتأكيد ، وأن التسبيح قد تم فعلا . وافتتحت بعض السور ، كسورة الجمع والتغابن - بالفعل المضارع " يسبح " لإِفادة تجدد هذا التسبيح لى كل وقت ، وحدوثه فى كل لحظة . ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين ، حيث نصرهم على أعدائهم ، فقال { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ … } . والمراد بالذين كفروا من أهل الكتاب هنا يهود بنى النضير ، وقصتهم معروفة فى كتب السنة والسيرة ، وملخصها أن هؤلاء اليهود كانوا يسكنون فى ضواحى المدينة فذهب إليهم النبى - صلى الله عليه وسلم - ليستعين بهم فى دفع دية لقتيلين قتلهما بعض المسلمين خطأ ، فاستقبلوه استقبالا حسنا ، وأظهروا له - صلى الله عليه وسلم - استعدادهم للمساعدة فيما يطلبه منهم ، ثم خلا بعضهم ببعض وقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، فمن منكم يصعد إلى أعلى هذا البيت الذى يجلس تحته محمد - صلى الله عليه وسلم - فيلقى عليه حجرا فيريحنا منه . فتعهد واحد منهم بذلك ، وقبل أن يتم فعله ، نزل جبريل - عليه السلام - على النبى - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما أضمره اليهود من غدر وخيانة فرجع - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة - وأخبر أصحابه بما أضمره له يهود بنى النضير ، ونزل قوله - تعالى - { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } ثم أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يستعدوا لحصار بنى النضير ، وتأديبهم على غدرهم … فحاصرهم المؤمنون بضعا وعشرين ليلة ، وانتهى الأمر بإجلائهم ، عن المدينة ، فمنهم من ذهب إلى خبير ، ومنهم من ذهب إلى غيرها . واللام فى قوله - تعالى - { لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } متعلقة بأخرج ، والحشر الجمع ، يقال حشر القائد جنده إذا جمعهم ، ومنه قوله - تعالى - { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أى هو - سبحانه - الذى أخرج - بقدرته - الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ، وهم يهود بنى النضير عند مبدا الحشر المقدر لهم فى علمه ، بأن مكنكم - أيها المؤمنون - من محاصرتهم وجمعهم فى مكان واحد ، ثم طردهم من المدينة المنورة إلى أماكن أخرى ، بسبب غدرهم وسوء صنيعهم . قال صاحب الكشاف اللام فى قوله { لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } تتعلق بأخرج ، وهى مثل اللام فى قوله { يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } وفى قولك جئته لوقت كذا … والمعنى أخرج الذين كفروا عند أول الحشر . ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام ، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط … أو المعنى هذا أول حشرهم ، وآخر حشرهم إجلاء عمر - رضى الله عنه - لهم من خيبر إلى الشام . وقيل معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم ، لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - … وقصر - سبحانه - إخراجهم عليه فقال هو الذى أخرج الذين كفروا ، مع أن المسلمين قد اشتركوا فى إخراجهم عن طريق محاصرتهم للإِشعار بأن السبب الحقيقى فى إخراجهم من ديارهم ، هو ما قذفه الله - تعالى - فى قلوبهم من الرعب … أما محاصرة المؤمنين لهم فهى أسباب فرعية ، قد تؤدى إلى أخراجهم ، وقد لا تؤدى ، وللإِشعار - أيضا - بأن كل شىء إنما هو بقضاء الله وقدره … ووصفهم - سبحانه - بالكفر وبأنهم من أهل الكتاب ، للتشنيع عليهم وزيادة مذمتهم ، حيث إنهم جمعوا بين رذيلتين رذيلة الكفر بالحق ، ورذيلة عدم العلم بكتابهم الذى أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإِنجيل ، والذى يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر . و " من " فى قوله - تعالى - { مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } للبيان ، حتى لا يظن بأن المراد بالذين كفروا هنا ، مشركو قريش ، وإن كان الجميع يشتركون فى الكفر والفسوق والعصيان . وقوله - تعالى - { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ … } تذكير للمؤمنين بنعم الله - تعالى - عليهم . أى ما ظننتم - أيها المؤمنون - أن يهود بنى النضير سيخرجون من ديارهم بتلك السهولة ، وذلك لتملكهم لألوان من القوة ، كقوة السلاح ، وكثرة العدد ، ووجود من يحميهم ممن يسكنون معكم فى المدينة ، وهم حلفاؤهم من بنى قومهم ، كبنى قريظة وغيرهم ، ومن غير بنى قومهم كالمنافقين الذين وعدوهم ومنوهم . وقوله { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ } معطوف على ما قبله . أى أنتم - أيها المؤمنون - ظننتم أن اليهود لن يخرجوا من ديارهم لما معهم من قوة ، وهم - أيضا - ظنوا أن حصونهم ستمنع بأس الله عنهم ، وأنها ستحول بينهم وبين خروجهم منها ، ونَصْرِكم عليهم . وقوله - سبحانه - { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ … } متفرع عن الظن السابق ، الذى ظنه المؤمنون ، والذى ظنه أعداؤهم وهم بنو النضير . أى أنتم ظننتم أنهم لن يخرجوا من ديارهم ، وهم ظنوا - أيضا - أن حصونهم ستمنعهم من نصركم عليهم ، فكانت النتيجة أن أتاهم بأس الله وعقابه من حيث لم يحتسبوا ومن حيث لم يخطر ببال ، بأن قذف فى قلوبهم الرعب والفزع فخرجوا من حصونهم التى تمنعوا بها ، ومن ديارهم التى سكنوها زمنا طويلا صاغرين أذلاء . والتعبير بقوله { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } إشارة إلى أن ما نزل بهم من هزيمة ، لم يكونوا يتوقعونها أصلا ، إذ الاحتساب مبالغة فى الحسبان ، أى أتاهم عقاب الله - تعالى - من المكان الذى كانوا يعتقدون أمانهم فيه ، وفى زمان لم يكونوا أصلا يتوقعون حلول هزيمتهم عنده . وعبر - سبحانه - بالقذف ، لأنه كناية عن الرمى بقوة وعنف وسرعة . والرعب شدة الخوف والفزع ، وأصله الامتلاء . تقول رعبت الحوض إذا ملأته . أى وقذف - سبحانه - فى قلوبهم الرعب الذى ملأها بالجزع والفزع فاستسلموا بسبب ذلك لما حكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليهم . ثم بين - سبحانه - ما حدث منهم خلال جلائهم فقال { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } والتخريب إسقاط البناء وهدمه أو إفساده . أى أن هؤلاء اليهود ، بلغ من سوء نيتهم ، ومن اضطراب أمرهم ، أنهم عندما أجمعوا أمرهم على الرحيل عن المدينة ، أخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم ، عن طريق إسقاط بنائها ، وهدم السليم منها ، وإزالة ما اشتملت عليه من أبواب وغيرها … حتى لا ينتفع المسلمون بها من بعدهم … وأخذوا يخربونها - أيضا - بأيدى المؤمنين ، أى بسبب أن المؤمنين كانوا يزيلون من طريقهم كل عقبة حتى يقتحموا عليهم ديارهم ، فترتب على ذلك أن هدموا بعض بيوت بنى النضير من الخارج ، ليستطيعوا التمكن منهم . قال صاحب الكشاف ما معنى تخريبهم لها بأيدى المؤمنين ؟ قلت لما عرَّضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه . فكأنهم أمروهم به ، وكلفوهم إياه … أى أن يهود بنى النضير بسبب تحصنهم فى ديارهم ، ومحاولتهم عدم النزول على حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حملوا المؤمنين على تخريب هذه الحصون من الخارج ، ليدخلوا عليهم … والخطاب فى قوله - تعالى - { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } لكل من يصلح له . قال الجمل فى حاشيته والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شىء إلى شىء ، ولهذا سميت العبرة عبرة ، لأنها تنتقل من العين إلى الخد . وسمى علم التعبير بذلك ، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ، لأنها تنقل المعانى من لسان القائل إلى عقل المستمع ، ويقال السعيد من اعتبر بغيره ، لأنه ينتقل بواسطه عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه . ولهذا قال القشيرى الاعتبار هو النظر فى حقائق الأشياء ، وجهات دلالتها ، ليعرف بالنظر فيها شىء آخر … أى إذا كان الأمر كان بينا لكم - أيها الناس - ، فاعتبروا واتعظوا يا أصحاب العقول السليمة ، والعيون الناظرة ، بما جرى لهؤلاء اليهود ، حيث دبر الله - تعالى - أمر إخراجهم من ديارهم تدبيرا حكيما ، ونصر المؤمنين عليهم بأيسر طريق ، وجعل ديارهم من بعدهم ، خير عبرة وعظة لكل ذى بصر ، فقد خلفوها من بعدهم شاهد صدق على أن الغدر نهايته الخسران … وعلى أن النصر إنما هو لمن اتبع الصدق والوفاء بالعهد … قال الآلوسى واشتهر الاستدلال بهذه الجملة ، على مشروعية العمل بالقياس الشرعى ، قالوا لأنه - تعالى - أمر فيها بالاعتبار ، وهو العبور والانتقال من الشىء إلى غيره ، وذلك متحقق فى القياس ، إذ فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع … ثم بين - سبحانه - جانبا من حكمته فى إخراجهم فقال { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } . ولفظ " لولا " هنا حرف امتناع لوجود أى امتنع وجود جوابها لوجود شرطها … و " أن " مصدرية ، وهى مع ما فى حيزها فى محل رفع على الابتداء . لأن لولا الامتناعية لا يليها إلا المبتدأ ، والخبر محذوف . والجلاء الإِخراج . يقال جلا فلان عن مكان كذا ، إذا خرج منه . وأجلاه عنه غيره ، إذا أخرجه عنه قال القرطبى والجلاء مفارقة الوطن ، يقال جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء ، والفرق بين الجلاء والإِخراج - وإن كان معناهما فى الإِبعاد واحدا - من وجهين أحدهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإِخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد . الثانى أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإِخراج يكون لواحد ولجماعة . … أى ولولا أن الله - تعالى - قد قدر على هؤلاء اليهود ، الجلاء عن ديارهم ، لولا أن ذلك موجود ، لعذبهم فى الدنيا عذابا شديدا ، استأصل معه شأفتهم . ولكن الله - تعالى - كتب عليهم الجلاء دون القتل والإِهلاك لمصلحة اقتضتها حكمته ، لعل من مظاهرها أن يغنم المسلمون ديارهم وأموالهم ، دون أن تراق دماء من الفريقين ، ودون أن يعرض المؤمنون أنفسهم لمخاطر القتال . وجملة { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } مستأنفة . أى أن هؤلاء اليهود أن نجوا من القتل والإِهلاك فى الدنيا ، فلن ينجوا فى الآخرة من العذاب الذى يذلهم ويهينهم ، بل سيحل بهم عذاب مقيم ، لافكاك لهم منه . واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يعود إلى ما نزل وسينزل بهم من عذاب . وقوله - تعالى - { شَآقُّواْ } من المشاقة بمعنى المعاداة والمخاصمة ، حتى لكأن كل واحد من المتخاصمين فى شق ومكان يخالف شق صاحبه ومكانه . أى ذلك الذى حل بهم فى الدنيا من عقاب ، والذى سيحل بهم فى الآخرة من عذاب ، سببه أن هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب ، عادوا الله - تعالى - وخالفوا دعوة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . { وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ } بأن يخالف ما أمر به ، أو نهى عنه . يعذبه الله - تعالى - ويخذله ، فإنه - سبحانه - شديد العقاب . وجملة { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } قائمة مقام جواب الشرط ، أى ومن يخالف أمر الله - تعالى - عذبه ، فإنه - سبحانه - شديد العقاب ، لمن أعرض عن طاعته وذكره . ثم ساق - سبحانه - ما يغرس الطمأنينة فى قلوب المؤمنين ، الذين اشتركوا فى تخريب ديار بنى النضير ، وفى قطع نخيلهم ، فقال - تعالى - { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } . و " ما " شرطية فى موضع نصب ، بقوله { قَطَعْتُمْ } وقوله { مِّن لِّينَةٍ } بيان لها … وقوله { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } جزاء الشرط . واللام فى قوله - تعالى - { وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } متعلقة بمحذوف . واللينة واحدة اللين ، وهو النخل كله ، أو كرام النخل فقط . قال الآلوسى ما ملخصه اللينة هى النخلة مطلقا … وهى فعلة من اللَّونِ ، وياؤها مقلوبة عن واو لكسر ما قبلها - فأصل لِينَة لِوْنَة … وقيل اللينة النخلة مطلقا … وقيل هى النخلة القصيرة ، وقيل الكريمة من النخل … ويمكن أن يقال أراد باللينة النخلة الكريمة … وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها أن المسلمين عندما أخذوا فى تقطيع نخيل اليهود ، قال اليهود للنبى - صلى الله عليه وسلم - يا محمد إنك تنهى عن الفساد ، فما بالك تأمر بقطع النخيل ؟ فأنزل الله هذه الآية . وقيل إن المسلمين بعد أن قطعوا بعض النخيل ، ظنوا أنهم قد أخطأوا فى ذلك ، فقالوا لنسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية . وقيل إن المسلمين نهى بعضهم بعضا عن قطع النخيل ، وقالوا إنما هى مغانم المسلمين ، فنزلت هذه الآية لتصديق من نهى عن القطع ، وتحليل من قطع من الإِثم . والمعنى لا تختلفوا - ايها المؤمنون - فى شأن ما فعلتموه بنخيل بنى النضير ، فإن ذلك قطع شيئا من هذه النخيل لا إثم عليه ، والذى لم يقطع لا إثم عليه - أيضا - لأن كلا الأمرين بإذن الله - تعالى - ورضاه ، وفى كليهما مصلحة لكم . لأن من قطع يكون قد فعل ما يغيظ العدو ويذله ، ويحمله على الاستسلام والخضوع لأمركم … ومن ترك يكون قد فعل ما يعود بالخير عليكم ، لأن تلك النخيل الباقية ، منفعتها ستئول إليكم … وقد شرع - سبحانه - لكم كلا الأمرين فى هذا المقام { وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } عن أمره ، وهم يهود بنى النضير ، ومن ناصرهم ، وأيدهم ، وسار على طريقتهم فى الخيانة والغدر . فالآية الكريمة المقصود بها إدخال المسرة والبهجة فى قلوب المؤمنين ، حتى لا يتأثروا بما حدث منهم بالنسبة لنخيل بنى النضير ، وحتى يتركوا الخلاف فى شأن هذه المسألة ، بعد أن صدر حكم الله - تعالى - فيها ، وهو أن القطع والترك بإذنه ورضاه ، لأن كلا الأمرين يغرس الحسرة فى قلوب الأعداء … وعبر - سبحانه - باللينة عن النخلة ، لأن لفظ " لينة " أخف لفظا ، وأدخل فى كونها نخلة من كرام النخل . وقال - سبحانه - { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا } لتصوير هيئتها وحسنها وأن فروعها قد بقيت قائمة على أصولها ، التى هى جذورها وجذوعها . قال الآلوسى وقوله { وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } متعلق بمقدر على أنه علة له ، وذلك المقدر عطف على مقدر آخر . أى ليعز المؤمنين ، وليخزى الفاسقين أى ليذلهم … والمراد بالفاسقين أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب . ووضع الظاهر موضع المضمر ، إشعارا بعلة الحكم - أى أن فسقهم هو السبب فى إخزائهم … هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هذه الآية أن تخريب ديار العدو ، وقطع الأشجار التى يملكها ، وهدم حصونه ومعسكراته … جائز ما دام فى ذلك مصلحة تعود على المسلمين ، وما دامت هناك حرب بينهم وبين أعدائهم . ثم بين - سبحانه - حكم الفىء الذى أفاءه على المسلمين فى غزوة بنى النضير وفيما يشبهها من غزوات ، وأمر المؤمنين بأن يطيعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فى أمره ونهيه ، وأثنى - سبحانه - على المهاجرين والأنصار لقوة إيمانهم ، ولنقاء قلوبهم وسخاء نفوسهم … فقال - تعالى - { وَمَآ أَفَآءَ … } .