Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 6-10)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ … } معطوف على قوله - تعالى - { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ … } لبيان نعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - على المؤمنين ، فى غزوة بنى النضير . و { أَفَآءَ } من الفىء بمعنى الرجوع ، يقال فاء عليه ، إذا رجع ، ومنه قوله - تعالى - فى شأن الإِيلاء { فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والمراد به هنا معناه الشرعى وهو ما حصل عليه المؤمنون من أموال أعدائهم بدون قتال ، كأن يكون هذا المال عن طريق الصلح ، كما فعل بنو النضير ، فقد صالحوا المؤمنين على الخروج من المدينة ، على أن يكون لكل ثلاثة منهم حمل بعير - سوى السلاح - وأن يتركوا بقية أموالهم للمسلمين . والضمير فى قوله { مِنْهُمْ } يعود إلى بنى النضير ، الذى عبر - سبحانه - عنهم بقوله { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ … } وقوله { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ … } من الإِيجاف بمعنى الإِسراع فى السير يقال وجَفَ الفرس يجِف وجَفا ووجيفا ، إذا أسرع فى سيره . والجملة خبر " ما " الموصولة فى قوله { وَمَآ أَفَآءَ … } و { مَآ } فى قوله { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ } نافية . والركاب اسم جمع للإِبل التى تركب ، وفى الكلام حذف أغنى عنه قوله - سبحانه - { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ … } . والمعنى أعلموا - أيها المؤمنون - أن ما أعطاه الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من أموال بنى النضير التى صالحوه عليها ، فلا حق لكم فيها لأنكم لم تنالوها بقتالكم لهم على الخيل أو الإِبل ، وإنما تفضل بها - سبحانه - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بلا قتال يذكر ، فقد كانت ديار بنى النضير على بعد ميلين من المدينة ، فذهب إليها المسلمون راجلين ، وحاصروها حتى تم استسلام بنى النضير لهم … قال الآلوسى روى أن بنى النضير لما أجلوا عن أوطانهم ، وتركوا رباعهم وأموالهم . طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ … } فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة . فقد أخرج البخارى ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذى ، والنسائى ، وغيرهم عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال كانت أموال بنى النضير ، مما أفاء الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقى فى السلاح والكراع عدة فى سبيل الله - تعالى - . وقال الضحاك كانت أموال بنى النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، فآثر بها المهاجرين . وقسمها عليهم ، ولم يعط الأنصار منها شيئا ، إلا ثلاثة منهم أعطاهم لفقرهم … وقوله - سبحانه - { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ … } استدراك على النفى فى قوله - تعالى - { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ … } . أى ليس لكم الحق - أيها المؤمنون - فى أموال بنى النضير ، لأنكم لم تظفروا بها عن طريق قتال منكم لهم ، ولكن الله - تعالى - سلط رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم وعلى ما فى أيديهم ، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم ، والله - تعالى - قدير على كل شىء … وما دام الأمر كذلك ، فاتركوا رسولكم - صلى الله عليه وسلم - يتصرف فى أموال بنى النضير بالطريقة التى يريدها ويختارها بإلهام من الله - عز وجل - . وقوله - تعالى - { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ … } يرى كثير من العلماء أنه وارد على سبيل الاستئناف الابتدائى ، وأنه سيق لبيان حكم شرعى جديد ، يختلف عن الحكم الذى أوردته الآية السابقة على هذه الآية … إذ أن الاية السابقة ، واردة فى حكم أحوال بنى النضير بصفة خاصة ، وهذه فى حكم الفىء بعد ذلك بصفة عامة . وعليه يكون المعنى لقد بينت لكم - أيها المؤمنون - حكم أموال بنى النضير ، وهى أنها لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - يضعها حيث شاء . أما ما أفاءه الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أموال أهل القرى الأخرى ، كقريظة وفدك وغيرهما فحكم هذا الفىء أنه يقسم إلى خمسة أقسام قسم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفق منه على نفسه وأهله وما تبقى منه يكون فى مصالح المسلمين . وقسم لأقاربه - صلى الله عليه وسلم - وهم بنو هاشم وبنو المطلب … وقسم لليتامى وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم عنهم قبل أن يبلغوا . وقسم للمساكين وهم الذين ليس لهم مال يكفيهم ضررويات الحياة . وقسم لأبناء السبيل وهم المسافرون المنقطعون عن مالهم فى سفرهم ، ولو كانوا أغنياء فى بلدهم … وقد رجح الإِمام ابن جرير هذا الرأى ، فقال بعد استعراضه للأقوال والصواب من القول فى ذلك عندى أن هذه الآية حكمها غير حكم الآية التى قبلها وذلك أن الآية التى قبلها ، مال جعله الله - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون غيره . لم يجعل فيه لأحد نصيبا … فإذا كانت هذه الآية التى قبلها مضت ، وذكر المال الذى خص الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجعل لأحد منه شيئا ، وكانت هذه الآية خبرا عن المال الذى جعله الله لأصناف شتى ، كان معلوما بذلك أن المال الذى جعله لأصناف من خلقه . غير المال الذى جعله للنبى - صلى الله عليه وسلم - . وقال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية ما مخلصه قوله - تعالى - { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ … } بيان لحكم ما أفاءه الله على رسوله من قرى الكفار على العموم ، بعد بيان حكم ما أفاءه من بنى النضير … فالجملة جواب سؤال مقدر ناشىء مما فهم من الكلام السابق ، فكأن قائلا يقول قد علمنا حكم ما أفاءه الله - تعالى - من بنى النضير ، فما حكم ما أفاء الله - عز وجل - من غيرهم ؟ … فقيل ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى . ولذا لم يعطف على ما تقدم ، ولم يذكر فى الآية قيد الإِيجاف ولا عدمه … وسهمه - سبحانه - وسهم رسوله واحد ، وذكره - تعالى - افتتاح كلام للتيمن والتبرك . فإن لله ما فى السموات وما فى الأرض ، وفيه تعظيم لشأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وأهل القرى المذكورون فى الآية هم أهل الصفراء ، وينبع ، ووادى القرى ، وما هنالك من قرى العرب ، التى تسمى قرى عرينة ، وحكمها مخالف لحكم أموال بنى النضير . ومن العلماء من يرى أن الآية التى معنا ، بمنزلة البيان والتفسير للآية التى قبلها ، لأن الآية الأولى لم تبين المستحقين للفىء الذى أفاءه الله - تعالى - على رسوله من أموال بنى النضير ، فجاءت الآية الثانية وبينت المستحقين له . وعلى رأس المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية لم يدخل - سبحانه - العاطف على هذه الجملة - وهى قوله { مَّآ أَفَآءَ … } - لأنها بيان للأولى ، فهى منها غير أجنبية عنها . بين لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يصنع بما أفاءه الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم ، مقسوما على الأقسام الخمسة . وقال الإِمام ابن كثير قوله - تعالى - { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } أى جميع البلدان التى تفتح هكذا ، فحكمها حكم أموال بنى النضير ، ولهذا قال { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } . فهذه مصارف أموال الفىء ووجوهه … ومن هذا نرى أن أصحاب الرأى الأول ، يقولون إن الآيتين فى حكمين مختلفين ، لأن الآية الأولى فى بيان حكم أموال بنى النضير ، وأن الله - تعالى - قد جعلها للرسول - صلى الله عليه وسلم - يضعها حيث يشاء ، وأما الآية الثانية فهى فى حكم أموال القرى الأخرى التى أفاءها الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الله - تعالى - قد حدد له وجوه صرفها ، فقال { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ . … } . وأما أصحاب الرأى الثانى فيرون أن الآية الثانية مفصلة لما أجملته الآية الأولى ، وأن كل فىء يقسم بالطريقة التى بينتها الآية الثانية . ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن الثابت فى السنة الصحيحة أن أموال بنى النضير ، لم يخمسها - صلى الله عليه وسلم - بل كانت له خاصة ، يوزعها كما يشاء ، وقد آثر بها المهاجرين ، وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا سوى ثلاثة رجال منهم ، كانت بهم حاجة فأعطاهم ، وبذلك نرى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتقيد فى التوزيع لهذه الأموال ، بمن ورد ذكرهم فى الآية الثانية . وما دام الأمر كذلك ، فلا حاجة إلى القول بأن الآية الثانية ، ببيان وتفصيل للآية الأولى . هذا وهناك أقوال أخرى فى معنى هذه الآية ، مبسوطة فى كتب الفقه والتفسير ، فليرجع إليها من شاء المزيد من الأحكام الفقهية … وقوله - سبحانه - { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ … } بيان لحكمة هذا التشريع الذى شرعه - سبحانه - بالنسبة للأموال التى أتت عن طريق الفىء … والضمير المستتر فى قوله { يَكُونَ } للفىء . و " الدُّولة " بضم الدال المشددة اسم لما يتداوله الناس فيما بينهم من أموال ، فيكون فى يد هذا تارة ، وفى يد ذاك تارة أخرى . والدَّولة - بفتح الدال المشددة - اسم للنوبة من الظفر والنصر فى الحرب وغيرها . يقال لفلان على فلان دولة ، أى غلبة ونصر . وبعضهم يرى أن الدولة - بالضم والفتح - بمعنى واحد ، وهو ما يدور ويدول للإِنسان من الغنى والنصر . والمعنى شرعنا لكم هذه الأحكام المتعلقة بتقسيم الفىء ، كى لا يكون المال الناجم عنه ، متداولا بين أيدى أغنيائكم دون فقرائكم . والمقصود بهذه الجملة الكريمة ، إبطال ما كان شائعا فى الجاهلية ، من استئثار قواد الجيوش ، ورؤساء القبائل ، بالكثير من الغنائم دون غيرهم ممن اشترك معهم فى الحروب ، كما قال أحد الشعراء ، لأحد الرؤساء أو القادة @ لك المِربَاع منها والصفايا وحُكْمُك والنَّشيِطةُ والفُضُول @@ أى لك - أيها القائد وحدك - من الغنيمة ربعها ، والصفايا أى والنفيس منها ، ولك - أيضا ما تحكم به على العدو ، ولك النشيطة ، وهى ما يصيبه الجيش من العدو قبل الحرب ، ولك - كذلك - الفضول ، أى ما يبقى بعد قسمة الغنائم . وقد أبطل الإِسلام كل ذلك ، حيث جعل مصارف الفىء ، تعود إلى المسلمين جميعا ، بطريقة عادلة ، بينها - سبحانه - فى هذه الآية وفى غيرها … قال بعض العلماء والجدير بالذكر هنا أن دعاة المذاهب الاقتصادية الفاسدة ، يحتجون بهذه الآية على مذهبهم الفاسد ، ويقولون ويجوز للدولة أن تستولى على مصادر الإِنتاج ورءوس الأموال ، لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء ، وما يسمونهم طبقة العمال ، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادى ، وفساد اجتماعى ، قد ثبت خطؤه وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال . لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة ، من الإِنفاق على المجاهدين ، وتأمين الغزاة فى الحدود والثغور ، وليس يعطى للأفراد كما يقولون ، ثم - هو أساسا - مال جاء غنيمة للمسملين ، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه الحلال . ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص ، ولا هو - أيضا - كسب لشخص معين ، تحقق فيه العموم فى مصدره ، وهو الغنيمة ، والعموم فى مصرفه وهو عموم مصالح الأمة ، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه ، فشتان بين هذا الأصل فى التشريع ، وهذا الفرع فى التضليل … ثم أمر - سبحانه - المسلمين أن يمتثلوا أمر رسولهم - صلى الله عليه وسلم - امتثالا تاما ، فقال { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } . وقوله { آتَاكُمُ } من الإِتيان ، والمقصود به هنا ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هدايات وتشريعات ، وآداب . ويدخل فى ذلك دخولا أوليا قسمته لفىء بنى النضير بين المهاجرين ، دون الأنصار . أى ما أمركم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعله - أيها المؤمنون - فافعلوه ، وما نهاكم عن فعله فاجتنبوه ، واتقوا الله فى كل أحوالكم ، فإنه - سبحانه - شديد العقاب لمن خالف أمره . ومنهم من جعل { آتَاكُمُ } هنا بمعنى أعطاكم من الفىء ، وجعل { نَهَاكُمْ } بمعنى نهاكم عن الأخذ منه ، وكأن صاحب هذا الرأى يستعين على ما ذهب إليه بفحوى المقام . قال صاحب الكشاف قوله { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ } من قسمة غنيمة أو فىء فخذوه وما نهاكم عنه ، أى عن أخذه منه { فَٱنتَهُواْ } عنه . والأجود أن يكون - الأمر والنهى - عاما فى كل ما آتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهى عنه ، أمر الفىء داخل فى عمومه … وقال الإِمام ابن كثير وقوله - تعالى - { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } . أى مهما أمركم به فافعلوه ، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه ، فإنه إنما يأمر بخير ، وينهى عن شر . أخرج الشيخان عن ابن مسعود أنه قال لعن الله الواشمات والمستشومات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، والمغيرات لخلق الله - عز وجل - فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب ، وكان يقرأ القرآن ، فأتته فقالت بلغنى انك قلت كذا وكذا ، فقال ومالى لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى كتاب الله . فقالت لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته . فقال إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } ؟ قالت بلى . قال فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه . قالت إنى لأظن أهلك يفعلونه ! ! … قال اذهبى فانظرى ، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا . فجاءت فقالت ما رأيت شيئا . قال لو كان كذا لم تجامعنا … وقال بعض العلماء وفى الآية دليل على وجوب الأخذ بالسنن الصحيحة فى كل الأمور . وعن أبى رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى ! ! ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه … " . وهذا الحديث من أعلام النبوة ، فقد وقع ذلك بعدُ من الجاهلين بكتاب الله ، وبمنصب الرسالة ، ومن الزنادقة الصادين عن سبيل الله … ثم أثنى - سبحانه - على المهاجرين الذين فارقوا أموالهم وعشيرتهم ، من أجل إعلاء كلمته - تعالى - فقال { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } . قال الإِمام الرازى اعلم أن هذا بدل من قوله - تعالى - { وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ … } كأنه قيل أعنى بأولئك الأربعة ، هؤلاء الفقراء المهاجرين الذين من صفتهم كذا وكذا . ثم إنه - تعالى - وصفهم بأمور ، أولها أنهم فقراء ، ثانيها أنهم مهاجرون وثالثها أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، يعنى أن الكفار أجبروهم على الخروج … ورابعها أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والمراد بالفضل ثواب الجنة ، وبالرضوان قوله { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } وخامسها قوله { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أى بأنفسهم وأموالهم . وسادسها قوله { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } يعنىأنهم لما هجروا لذَّات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين ، ظهر صدقهم فى دينهم … فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف المهاجرين فى سبيله ، بجملة من المناقب الحميدة . التى استحقوا بسببها الفلاح والفوز برضوان الله . ثم مدح - سبحانه - بعد ذلك الأنصار ، الذين يحبون من هاجر إليهم فقال { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } . والجملة الكريمة معطوفة على { الْمُهَاجِرِينَ } أو مبتدأ وخبره { يُحِبُّونَ } والتبوؤ النزول فى المكان ، ومنه المباءة للمنزل الذى ينزل فيه الإِنسان . والمراد بالدار المدينة المنورة ، وأل للعهد . أى الدار المعهودة المعروفة وهى دار الهجرة . وقوله { وَٱلإِيمَانَ } منصوب بفعل مقدر ، أى وأخلصوا الإِيمان . قال صاحب الكشاف فإن قلت ما معنى عطف الإِيمان على الدار ، ولا يقال تبوأوا الإِيمان ؟ … قلت معناه تبوأوا الدار وأخلصوا الإِيمان . كقوله علفتها تبنا وماء باردا . أى وجعلوا الإِيمان مستقرا ومتوطنا لهم ، لتمكنهم منه ، واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك . أو أراد دار الهجرة ودار الإِيمان ، فأقام لام التعريف فى الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإِيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه . . أو سمى المدينة - لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإِيمان - بالإِيمان … وقوله { مِن قَبْلِهِمْ } أى من قبل المهاجرين ، وهو متعلق بقوله { تَبَوَّءُوا } . وقوله { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } خبر لمبتدأ ، أو حال من الذين تبوأوا الدار … أى هذه هى صفات المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم … وهذا هو جزاؤهم … أما الذين سكنوا دار الهجرة وهى المدينة المنورة ، من قبل المهاجرين ، وأخلصوا إيمانهم وعبادتهم لله - تعالى - ، فإن من صفاتهم أنهم يحبون إخوانهم الذين هاجروا إليهم حبا شديدا ، لأن الإِيمان ربط قلوبهم برباط المودة والمحبة . وقوله { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } صفة أخرى من صفات الأنصار . ومعنى { يَجِدُونَ } هنا يحسون ويعلمون ، والضمير للأنصار ، وفى قوله { أُوتُواْ } للمهاجرين . والحاجة فى الأصل اسم مصدر بمعنى الاحتياج ، أى الافتقار إلى الشىء . والمراد بها هنا المأرب أو الرغبة الناشئة عن التطلع إلى ما منحه النبى - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين دون الأنصار ، من فىء أو غيره . أى أن من صفات الأنصار - أيضا - أنهم لا تتطلع نفوسهم إلى شىء مما أعطى للمهاجرين من الفىء أو غيره ، لأن المحبة التى ربطت قلوب الأنصار بالمهاجرين ، جعلت الأنصار يرتفعون عن التشوف إلى شىء مما أعطاه النبى - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين وحدهم … ثم وصفهم - سبحانه - بصفة ثالثة كريمة فقال { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … } . والإِيثار معناه أن يؤثر الإِنسان غيره على نفسه ، على سبيل الإِكرام والنفع ، والخصاصة شدة الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتحات . أى أن من صفات الأنصار أنهم كانوا يقدمون فى النفع إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ، ولو كانوا فى حاجة ماسة ، وفقر واضح ، إلى ما يقدمونه لإِخوانهم المهاجرين . ولقد ضرب الأنصار - رضى الله عنهم - أروع الأمثال وأسماها فى هذا المضمار ، ومن ذلك ما رواه الشيخان والترمذى والنسائى وغيرهم عن أبى هريرة قال " أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ، أصابنى الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد شيئا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - " ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله " ؟ فقام رجل من الأنصار - وفى رواية أنه أبو طلحة - فقال أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله ، فقال لامرأته أكرمى ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت والله ما عندى إلا قوت الصيبة ! ! قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالى فأطفئى السراج ، ونطوى بطوننا الليلة لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففعلت . ثم غدا الضيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة " وأنزل الله فيهما { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ … } . " وقوله - سبحانه - { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } تذييل قصد به حض الناس على التحلى بفضيلة السخاء والكرم . والشح يرى بعضهم أنه بمعنى البخل ، ويرى آخرون أن الشح غريزة فى النفس تحملها على الإِمساك والتقتير ، وأما البخل فهو المنع ذاته ، فكأن البخل أثر من آثار الشح . قال صاحب الكشاف " الشح " - بالضم والكسر قد قرئ بهما - اللؤم ، وأن تكون نفس المرء كزة حريصة على المنع كما قال الشاعر @ يمارس نفسا بين جنبيه كَزَّةً إذا هَمَّ بالمعروف قالت له مهلا @@ وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، ومنه قوله - تعالى - { وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ … } أى ومن يوق - بتوفيق الله وفضله - شح نفسه وحرصها على الإِمساك ، فيخالفها فيما تأمره به من المنع والتقتير . فأولئك الذين يخالفونها هم المفلحون ، الفائزون برضا الله - عز وجل - . ومن الأحاديث التى وردت فى النهى عن الشح ، ما أخرجه مسلم - فى صحيحه - عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم " . ثم مدح - سبحانه - كل من سار على نهج المهاجرين والأنصار فى قوة الإِيمان ، وفى طهارة القلب ، وسماحة النفس فقال - تعالى - { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ … } . قال الآلوسى قوله { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ … } عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين ، والمراد بهؤلاء قيل الذين هاجروا حين قوى الإِسلام ، فالمجىء حسى ، وهو مجيئهم إلى المدينة ، وضمير من بعدهم ، للمهاجرين الأولين . وقيل هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ، فالمجىء إما إلى الوجود أو إلى الايمان وضمير { مِن بَعْدِهِمْ } للفريقين المهاجرين والأنصار . وهذا هو الذى يدل عليه كلام عمر - رضى الله عنه - وكلام كثير من السلف كالصريح فيه ، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين … ويبدو لنا أن هذا الرأى الثانى ، وهو كون الذين جاءوا من بعدهم يشمل المؤمنين الصادقين جميعا ، أقرب إلى الصواب ، لأنهم هم التابعون بإحسان للمهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، كما قال - تعالى - { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ … } وعليه يكون المعنى والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار ، واتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة { يَقُولُونَ } على سبيل الدعاء لأنفسهم ولإِخوانهم فى العقيدة ، { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } أى يا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واغفر ، لإِخواننا فى الدين { ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ } فهم أسبق منا إلى الخير والفضل . . { وَلاَ تَجْعَلْ } يا ربنا { فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } أى حسدا وحقدا { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أى يا ربنا لا تجعل فى قلوبنا أى غل أو حسد لإِخواننا المؤمنين جميعا . { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أى يا ربنا إنك شديد الرأفة بعبادك واسع الرحمة بهم . وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن من حق الصحابة - رضى الله عنهم - على من جاءوا بعدهم ، أن يدعوا لهم ، وأن ينزلوهم فى قلوبهم منزلة الاحترام والتبجيل والتكريم … ورحم الله الإِمام القرطبى فقد أفاض فى بيان هذا المعنى ، فقال ما ملخصه قوله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ … } يعنى التابعين ، ومن دخل فى الإِسلام إلى يوم القيامة . قال ابن أبى ليلى الناس على ثلاثة منازل المهاجرون ، والذين تبوأوا الدار والإِيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل . وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة … وقال الإِمام الرازى واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون ، أو الأنصار ، أو الذين جاءوا من بعدهم ، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار ، أن يذكر السابقين ، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة ، فمن لم يكن كذلك ، بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين ، بحسب نص هذه الآية … وبعد أن رسمت السورة الكريمة ، تلك الصورة الوضيئة للمهاجرين والأنصار والذين ابتعوهم بإحسان … بعد كل ذلك أخذت فى رسم صورة أخرى ، متباينة تمام المباينة مع صورة هؤلاء الصادقين ، ألا وهى صورة المنافقين ، الذين انضموا إلى كل مناوئ للدعوة الإِسلامية ، فقال - تعالى - { أَلَمْ تَرَ … } .