Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 61, Ayat: 1-4)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت سورة " الصف " - كما افتتحت قبلها سورة الحديد والحشر بتنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق به . أى نزه الله - تعالى - وقدسه ، جميع ما فى السماوات وجميع ما فى الأرض من مخلوقات ، وهو - عز وجل - { ٱلْعَزِيزُ } الذى لا يغلبه غالب { ٱلْحَكِيمُ } فى كل أقواله وأفعاله . ثم وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين فقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } . وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما روى عن ابن عباس أنه قال كان أناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون لَوَدِدْنا أن الله - عز وجل - دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه ، إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإِيمان ولم يقروا به . فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره ، فنزلت هذه الآيات . وقال قتادة والضحاك نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون قتَلْنَا ، ضرَبْنَا ، طَعَنَّا ، وفَعَلنْا ، ولم يكونوا فعلوا ذلك . والاستفهام فى قوله - تعالى - { لِمَ تَقُولُونَ } للانكار والتوبيخ على أن يقول الإِنسان قولا لا يؤيده فعله ، لأن هذا القول إما أن يكون كذبا ، وإما أن يكون خلفا للوعد ، وكلاهما يبغضه الله - تعالى - . و { لِمَ } مركبة من اللام الجارة ، وما الاستفهامية ، وحذفت ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر ، تخفيفا لكثرة استعمالها معا ، كما فى قولهم بِمَ ، وفِيمَ ، وعَمَّ . أى يا من آمنتم بالله واليوم الآخر … لماذا تقولون قولا ، تخالفه أفعالكم ، بأن تزعموا بأنكم لو كلفتم بكذا لفعلتموه ، فلما كلفتم به قصرتم فيه ، أو أن تقولوا بأنكم فعلتم كذا وكذا ، مع أنكم لم تفعلوا ذلك . وناداهم بصفة الإِيمان الحق ، لتحريك حرارة الإِيمان فى قلوبهم ، وللتعريض بهم ، إذ من شأن الإِيمان الحق أن يحمل المؤمن على أن يكون قوله مطابقا لفعله . وقوله - سبحانه - { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } بيان للآثار السيئة التى تترتب على القول الذى يخالفه الفعل . وقوله { كَبُرَ } بمعنى عظم ، لأن الشىء الكبير ، لا يوصف بهذا الوصف ، إلا إذا كان فيه كثرة وشدة فى نوعه . والمقت البغض الشديد ، ومنه قوله - تعالى - { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } وهو منصوب على التمييز المحول عن الفاعل للإِشعار بأن قولهم هذا مقت خالص لا تشوبه شائبة من الرضا . أى كبر وعظم المقت الناشىء عن قولكم قولا لا تطابقه أفعالكم . وقال - سبحانه - { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ } للإِشعار بشناعة هذا البغض من الله - تعالى - لهم ، بسبب مخالفة قولهم لفعلهم ، لأنه إذا كانت هذه الصفة عظيمة الشناعة عند الله ، فعلى كل عاقل أن يجتنبها ، ويبتعد عنها . قال صاحب الكشاف ما ملخصه ، ونداؤهم بالإِيمان تهكم بهم وبإيمانهم وهذا من أفصح الكلام وأبلغه فى معناه . وقصد فى " كَبُرَ " التعجب من غير لفظه … ومعنى التعجب تعظيم الأمر فى قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شىء خارج عن نظائره وأشكاله . وأُسْنِد إلى { أَن تَقُولُواْ } ونُصِب { مَقْتاً } على التمييز ، للدلالة على أن قولهم مالا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفَرْط تمكن المقت منه . واختير لفظ المقت ، لأنه أشد البغض وأبلغه ، ومنه قيل نكاح المقت - وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه - . وإذا ثبت كِبر مقته عند الله ، فقد تم كبره وشدته ، وانزاحت عنه الشكوك … فأنت ترى أن الله - تعالى - قد ذم الذين يقولون مالا يفعلون ذما شديدا ، ويندرج تحت هذا الذم ، الكذب فى القول ، والخلف فى الوعد ، وحب الشخص للثناء دون أن يكون قد قدم عملا يستحق من أجله الثناء . وبعد أن وبخ - سبحانه - الذين يقولون مالا يفعلون ، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله - تعالى - فقال { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } . ومبحة الله - تعالى - لشخص ، معناها رضاه عنه ، وإكرامه له . والصف يطلق على الأشياء التى تكون منتظمة فى مظهرها ، متناسقة فى أماكنها ، والمرصوص هو المتلاصق الذى انضم بعضه إلى بعض . يقال رصصت البناء ، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة . والمعنى أن الله - تعالى - يحب الذين يقاتلون فى سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا ، حتى لكأنهم فى ثباتهم ، واجتماع كلمتهم ، وصدق يقينهم … بنيان قد التصق بعضه ببعض ، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه . فالمقصود بالآية الكريمة الثناء على المجاهدين الصادقين ، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم ، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل . قال الإِمام الرازى أخبر الله - تعالى - أنه يحب من يثبت فى الجهاد ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء المرصوص . ويجوز أن يكون على أن يستوى أمرهم فى حرب عدوهم ، حتى يكونوا فى اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضا ، كالبنيان المرصوص . ثم ساق - سبحانه - جانبا مما قاله موسى - عليه السلام - لقومه . وكيف أنهم عندما انصرفوا عن الحق ، عاقبهم - سبحانه - بما يستحقون من عقاب فقال { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ … } .