Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 64, Ayat: 14-18)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن رجلا يسأله عن هذه الآيات فقال هؤلاء رجال أسلموا من مكة ، فأرادوا أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أولادهم وأزواجهم أن يتركوهم - ليهاجروا . فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أى بالمدينة - رأوا الناس قد تفقهوا فى الدين ، فهموا أن يعاقبوهم - أى يعاقبوا أولادهم وأزواجهم - فأنزل الله - تعالى - هذه الآيات . وفى رواية أخرى عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت بالمدينة فى عوف بن مالك الأشجعى ، شكى إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - جفاء أهله وولده فنزلت . وصدرت الآيات الكريمة بالنداء بصفة الإِيمان ، لحضهم على الاستجابة لما اشتملت عليه هذه الآيات من توجيهات سامية وإرشادات عالية … فإن من شأن الإِيمان الحق ، أن يحمل صاحبه على طاعة الله - عز وجل - . و " من " فى قوله { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ … } للتبعيض . والمراد بالعداوة ما يشمل العداوة الدينية والدنيوية ، بأن يكون هؤلاء الأولاد والأزواج يضمرون لآبائهم وأزواجهم العداوة والبغضاء وسوء النية ، يسبب الاختلاف فى الطباع أو فى العقيدة والأخلاق . والعفو ترك المعاقبة على الذنب بعد العزم على هذه المعاقبة . والصفح الإِعراض عن الذنب وإخفاؤه ، وعدم إشاعته . أى يا من آمنتم بالله حق الإِيمان ، إن بعض أزواجكم وأولادكم ، يعادونكم ويخالفونكم فى أمر دينكم . وفى أمور دنياكم ، { فَٱحْذَرُوهُمْ } أى فاحذروا أن تطيعوهم فى أمر يتعارض مع تعاليم دينكم ، فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق . { وَإِن تَعْفُواْ } - أيها المؤمنون - عنهم ، بأن تتركوا عقابهم بعد التصميم عليه { وَتَصْفَحُواْ } عنهم ، بأن تتركوا عقابهم بدون عزم عليه … { وَتَغْفِرُواْ } ما فرط منهم من أخطاء ، بأن تخفوها عليهم . وقوله { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قائم مقام جواب الشرط . أى وإن تفعلوا ذلك من العفو والصفح والمغفرة ، يكافئكم الله - تعالى - على ذلك مكافأة حسنة ، فإن الله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة لمن يعفون ويصفحون ويغفرون . وقوله - تعالى - { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } تعميم بعد تخصيص ، وتـأكيد التحذير الذى اشتملت عليه الآية السابقة . والمراد بالفتنة هنا ما يفتن الإِنسان ويشغله ويلهيه عن المداومة على طاعة الله - تعالى - . أى إن أموالكم وأولادكم - أيها المؤمنون - على رأس الأمور التى تؤدى المبالغة والمغالاة فى الاشتغال بها ، إلى التقصير فى طاعة الله - تعالى - ، وإلى مخالفة أمره . والإِخبار عنهم بأنهم { فِتْنَةٌ } للمبالغة ، والمراد أنهم سبب للفتنة أى لما يشغل عن رضاء الله وطاعته ، إذا ما جاوز الإِنسان الحد المشروع فى الاشتغال بهما . قال الآلوسى قوله - تعالى - { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } أى بلاء ومحنة ، لأنهم يترتب عليهم الوقوع فى الإِثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك . وفى الحديث . " يؤتى بالرجل يوم القيامة ، فيقال أكل عياله حسناته " . وأخرج الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى … عن بريدة قال . " كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل صلى الله عليه وسلم من فوق المنبر ، فحملهما … ثم صعد المنبر فقال صدق الله إذ يقول { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ، إنى لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران ، لم أصبر أن قطعت كلامى ، ونظرت إليهما " . وقال الجمل قال الحسن فى قوله - تعالى - { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ } أدخل - سبحانه - { مِنْ } للتبعيض ، لأنهم كلهم ليسوا بأعداء ، ولم يذكر { مِنْ } فى قوله { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ، لأنهما لا يخلوان من الفتنة ، واشتغال القلب بهما ، وقدم الأموال على الأولاد ، لأن الفتنة بالمال أكثر . وترك ذكر الأزواج فى الفتنة ، لأن منهن من يكن صلاحا وعونا على الآخرة . وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } معطوف على جملة { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } . أى والله - تعالى - عنده أجر عظيم ، لمن آثر محبة الله - تعالى - وطاعته ، على محبة الأزواج والأولاد والأموال . والفاء فى قوله - سبحانه - { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } للإِفصاح والتفريع على ما تقدم . و { مَا } فى قوله { مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } مصدرية ظرفية . والمراد بالاستطاعة نهاية الطاقة والجهد . أى إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن المؤمن الصادق فى إيمانه هو الذى لا يشغله ماله أو ولده أو زوجه عن ذكر الله - تعالى - فابذلوا نهاية قدرتكم واستطاعتكم فى طاعة الله - تعالى - وداوموا على ذلك فى جميع الأوقات والأزمان . وليس بين هذه الآية ، وبين قوله - تعالى - { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } تعارض ، لأن كلتا الآيتين تأمران المسلم بأن يبذل قصارى جهده ، ونهاية طاقته ، فى المواظبة على أداء ما كلفه الله به ، ولذلك فلا نرى ما يدعو إلى قول من قال إن الآية التى معنا نسخت الآية التى تقول { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال الآلوسى أخرج ابن أبى حاتم عند سعيد بن جبير قال لما نزلت { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت أقدامهم . فأنزل الله هذه الآية { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } تخفيفا على المسلمين . وحذف متعلق التقوى ، لقصد التعميم ، أى فاتقوا الله مدة استطاعتكم فى كل ما تأتون وما تذرون ، واعلموا أنه - تعالى - { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } و { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ومن الأحاديث التى وردت فى معنى الآية الكريمة ، ما رواه البخارى عن جابر بن عبد الله قال " بايعت رسول الله - صلى الله - عليه وسلم - على السمع والطاعة ، فلقننى " فيما استطعت " . وعطف قوله - تعالى - { وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ } على قوله { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } من باب عطف الخاص على العام ، للاهتمام به . أى فاتقوا الله - تعالى - فى كل ما تأتون وما تذرون ، واسمعوا ما يبلغكم إياه رسولنا عنا سماع تدبر وتفكر ، وأطيعوه فى كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه . { وَأَنْفِقُواْ } مما رزقكم الله - تعالى - من خير ، يكن ذلك الإِنفاق { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } فى دنياكم وفى آخرتكم . { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } أى ومن يستطع أن يبعد نفسه عن الشح والبخل . { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أى الفائزون فوزا تاما لا نقص معه . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالحض على الإِنفاق فى سبيله فقال { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } . أى إن تبذلوا أموالكم فى وجوه الخير التى يحبها الله - تعالى - ، بذلا مصحوبا بالإِخلاص وطيب النفس ، يضاعف الله - تعالى - لكم ثواب هذا الإِنفاق والإِقراض بأن يجعل لكم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } فضلا عن ذلك ذنوبكم ببركة هذا الإِنفاق الخالص لوجهه الكريم . { وَٱللَّهُ شَكُورٌ } أى كثير الشكر لمن أطاعه { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة المذنبين . { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أى هو - سبحانه - يعلم علما تاما ما كان خافيا عليكم وما كان ظاهرا لكم ، وهو - عز وجل - القوى الذى لا يغلبه غالب ، الحكيم فى كل أقواله وأفعاله . وبعد فهذا تفسير لسورة " التغابن " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .