Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 64, Ayat: 1-6)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
سورة " التغابن " هى آخر السور المفتتحة بالتسبيح ، فقد قال - سبحانه - فى مطلعها . { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } أى ينزه الله - تعالى - عن كل نقص ، ويجله عن كل مالا يليق به ، جميع الكائنات التى فى سماواته - سبحانه - وفى أرضه ، كما قال - عز وجل - { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وجىء هنا وفى سورة الجمعة بصيغة المضارع { يُسَبِّحُ } للدلالة على تجدد هذا التسبيح ، وحدوثه فى كل وقت وآن . وجىء فى سورة الحديد ، والحشر ، والصف ، بصيغة الماضى سَبَّحَ . للدلالة على أن التسبيح قد استقر وثبت لله - تعالى - وحده ، من قديم الزمان . وقوله - سبحانه - { لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } مؤكد لما قبله ، من بيان أن جميع الكائنات تسبح لله - تعالى - لأنه مالكها وصاحب الفضل المطلق عليها . وتقديم الجار والمجرور { لَهُ } لإِفادة الاختصاص والقصر . أى له - سبحانه - وحده ملك هذا الكون ، وله وحده الحمد التام المطلق من جميع مخلوقاته ، وليس لغيره شىء منهما ، وإذا وجد شىء منهما لغيره فهو من فيضه وعطائه ، إذ هو - سبحانه - القدير الذى لا يقف فى وجه قدرته وإرادته شىء . ثم بين - سبحانه - أقسام خلقه فى هذه الحياة فقال { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } . والخطاب فى قوله { خَلَقَكُمْ } لجيمع المكلفين من هذه الأمة . والفاء فى قوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ } للتفريع المشعر بالتعجب من وجود من هو كافر بالله - تعالى - مع أنه - سبحانه - هو الذى خلقه ، وخلق كل شىء . وقدم ذكر الكافر ، لأنه الأهم فى هذا المقام ، ولأنه الأكثر عددا فى هذه الحياة . أي هو سبحانه - الذى خلقكم بقدرته ، دون أن يشاركه فى ذلك مشارك ، وزودكم بالعقول التى تعينكم على معرفة الخير من الشر ، والنافع من الضار وأرسل إليكم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لكى يخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان ، وأنزل معه الكتاب الذى يدلكم على أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، وأمركم هذا الرسول الكريم بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ولم يترك رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وسيلة تهديكم إلى الحق إلا وأرشدكم إليها … ومع ذلك وجد منكم المختار للكفر بالحق ، المعرض عن الإِيمان بوحدانية الله - تعالى - وكان منكم المستجيب للحق باختياره المخلص فى عقيدته لله - تعالى - المؤمن بوحدانيته ، المؤدى لجميع التكاليف التى كلفه - سبحانه - بها . قال القرطبى - بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى هذه الآية - وقال الزجاج - وقوله أحسن الأقوال ، والذى عليه الأئمة والجمهور من الأمة - إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر . وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإِيمان . والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ، لأن الله - تعالى - قدر ذلك عليه وعلمه منه ، ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما ، غير الذى قدر عليه ، وعلمه منه … وقوله { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى والله - تعالى - لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ، وسيحاسبكم عليها يوم القيامة ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ } أى خلقهن خلقا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل ، وبالحكمة التى لا يشوبها اضطراب أو عبث ، فالباء فى قوله " بالحق " للملابسة . والمراد بالسماوات والأرض ذواتهن وأجرامهن التى هى أكبر من خلق الناس . والمراد بالحق المقصد الصحيح ، والغرض السليم ، الواقع على أتم الوجوه وأفضلها وأحكمها . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على الناس فقال { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } . وقوله { وَصَوَّرَكُمْ } من التصوير ، وهو جعل الشىء على صورة لم يكن عليها ، وهو ماخوذ من مادة صار الشىء إلى كذا ، بمعنى تحول إليه ، أو من صاره إلى كذا ، بمعنى أماله وحوله . أى وأوجدكم - سبحانه - يا بنى آدم على أحسن الصور وأكملها وأبدعها وأجملها ، بدليل أن الإِنسان لا يتمنى أن يكون على غير صورته التى خلقه الله عليها ، كأن يكون على صورة حيوان أو غيره . وصدق الله إذ يقول { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } قال الآلوسى ولعمرى إن الإِنسان أعجب نسخة فى هذا العالم ، قد اشتملت على دقائق وأسرار شهدت ببعضها الآثار ، وعلم ما علم منها أولو الأبصار ، وكل ما يشاهد من الصور الإِنسانية حسن ، لكن الحسن كغيره من المعانى على طبقات ومراتب … كما قال بعض الحكماء شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان . وقوله - تعالى - { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } معطوف على ما قبله ، لأن التصوير يقتضى الإِيجاد ، فبين - سبحانه - أن هذا الإِيجاد يعقبه الفناء لكل شىء سوى وجهه الكريم . أى وإليه وحده - تعالى - مرجعكم بعد انتهاء آجالكم فى هذه الحياة ، لكى يجازيكم على أعمالكم الدنيوية . ثم بين - سبحانه - شمول علمه لكل شىء فقال { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أى هو - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فى السماوات والأرض . { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } - أيها الناس - والتصريح بذلك مع اندراجه فيما قبله ، من علم ما فى السماوات وما فى الأرض ، لمزيد التأكيد فى الوعد والوعيد . { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } والمراد بذات الصدور ، النوايا والخواطر التى تخفيها الصدور ، وتكتمها القلوب . أى والله - تعالى - عليم علما تاما بالنوايا والخواطر التى اشتملت عليها الصدور ، فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على ثلاث جمل ، كل جملة منها أخص من سابقتها . وجمع - سبحانه - بينها للإِشارة إلى أن علمه - تعالى - محيط بالجزئيات والكليات ، دون أن يعزب عن علمه - تعالى - شىء منها . وفى هذا رد على أولئك الكفار الجاحدين ، الذين استبعدوا إعادتهم إلى الحياة ، بعد أن أكلت الأرض أجسادهم ، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ثم وبخهم - سبحانه - على عدم اعتبارهم بالسابقين من قبلهم فقال { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . والاستفهام فى قوله { أَلَمْ يَأْتِكُمْ … } للتقرير والتبكيت . والمراد بالذين كفروا من قبل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، من الأقوام الذين أعرضوا عن الحق ، فكانت عاقبتهم الدمار والهلاك . والخطاب لمشركى قريش وأمثالهم ، ممن استحبوا العمى على الهدى . والوبال فى الأصل الشدة المترتبة على أمر من الأمور ، ومنه الوبيل للطعام الثقيل على المعدة . المضر لها … والمراد به هنا العقاب الشديد الذى نزل بهم فأهلكهم ، وعبر عن هذا العقاب بالوبال ، للإِشارة إلى أنه عذابا ثقيلا جدا ، لم يستطيعوا الفرار أو الهرب منه . والمراد بأمرهم كفرهم وفسوقهم عن أمر ربهم ، ومخالفتهم لرسلهم . وقوله { فَذَاقُواْ } معطوف على كفروا ، عطف المسبب على السبب والذوق مجاز فى مطلق الإِحساس والوجدان . شبه ما حل بهم من عقاب ، بشىء كريه الطعم والمذاق . وعبر عن كفرهم بالأمر ، للإِشعار بأنه أمر قد بلغ النهاية فى القبح والسوء . والمعنى لقد أتاكم ووصف إلى علمكم - أيها المشركون - حال الذين كفروا من قبلكم من أمثال قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، وعلمتم أن إصرارهم على كفرهم قد أدى بهم إلى الهلاك وإلى العذاب الأليم ، فعليكم أن تعتبروا بهم . وأن تفيئوا إلى رشدكم ، وأن تتبعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذى أرسله الله - تعالى - لإخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان . فالمقصود من الآية الكريمة تحذير الكافرين الذين أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم . ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت إلى سوء عاقبة هؤلاء السابقين فقال { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } . أى ذلك الذى أصاب الأقوام السابقين من هلاك ودمار ، سببه أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالآيات البينات ، وبالمعجزات الواضحات ، الدالة على صدقهم ، فما كان من هؤلاء الأقوام إلا أن أعرضوا عن دعوة الرسل ، وقال كل قوم منهم لرسولهم على سبيل الإِنكار والتكذيب والتعجب أبشر مثلنا يهدوننا إلى الحق والرشد ؟ ! ! . فالباء فى قوله { بِأَنَّهُ } للسببية ، والضمير ضمير الشأن لقصد التهويل والاستفهام فى قوله { أَبَشَرٌ } للإِنكار والمراد بالبشر الجنس ، وهو مرفوع على أنه مبتدأ وخبره جملة { يَهْدُونَنَا } . وشبيه بهذه الآية ما حكاه القرآن من قول قوم صالح له { فَقَالُوۤاْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ … } والفاء فى قوله { فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } للسببية . أى فكفروا بسبب هذا القول الفاسد { وَتَوَلَّواْ } أى وأعرضوا عن الحق إعراضا تاما { وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } أى واستغنى الله - تعالى - عنهم وعن إيمانهم ، والسين والتاء للمبالغة فى غناه - سبحانه - عنهم . { وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أى والله - تعالى - غنى عنهم وعن العالمين ، محمود من كل مخلوقاته بلسان الحال والمقال وهو - تعالى - يجازى الشاكرين له بما يستحقونه من جزاء كريم . ثم حكى - سبحانه - مزاعم الجاحدين للبعث والحساب ، ورد عليهم بما يبطلها ، ودعاهم إلى الإِيمان بالحق ، وحضهم على العمل الصالح الذى ينفعهم يوم القيامة ، وبشر المؤمنين بما يشرح صدورهم ، وبين أن كل شىء فى هذا الكون يسير بإذنه - تعالى - وإرادته ، فقال - سبحانه - { زَعَمَ ٱلَّذِينَ … } .