Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 65, Ayat: 1-3)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

افتتح الله - تعالى - السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } . وأحكام الطلاق التى وردت فى هذه الآية ، تشمل النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تشمل جميع المكلفين من أمته - صلى الله عليه وسلم - . وإنما كان النداء له - صلى الله عليه وسلم - وكان الخطاب بالحكم عاما له ولأمته ، تشريفا وتكريما له - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبلغ للناس ، وهو إمامهم وقدوتهم والمنفذ لأحكام الله - تعالى - فيهم . قال صاحب الكشاف خُصَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - بالنداء ، وعُمًّ بالخطاب ، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - إمام أمته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان افعلوا كيت وكيت ، وإظهارا لتقدمه ، واعتبارا لترؤسه ، وأنه مِدْرة قومه ولسانهم - والمدرة القرية . أى أنه بمنزلة القرية لقومه ، وأنه الذى يصدرون عن رأيه ، ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده فى حكم كلهم ، وساد مسد جميعهم . وهذا التفسير الذى اقتصر عليه صاحب الكشاف ، هو المعول عليه ، وهو الذى يناسب بلاغة القرآن وفصاحته ، ويناسب مقام النبى - صلى الله عليه وسلم - . وقيل الخطاب له ولأمته والتقدير يأيها النبى وأمته إذا طلقتم ، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه . وقيل هو خطاب لأمته فقط ، بعد ندائه - عليه السلام - وهو من تلوين الخطاب ، خاطب أمته بعد أن خاطبه . وقيل إن الكلام على إضمار قول ، أى يأيها النبى قل لأمتك إذا طلقتم . والحق أن الذى يتدبر القرآن الكريم ، يرى أن الخطاب والأحكام المترتبة عليه ، تارة تكون خاصة به - صلى الله عليه وسلم - كما فى قوله - تعالى - { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وتارة يكون شاملا له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته كما فى هذه الآية التى معنا ، وكما فى قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وتارة يكون - صلى الله عليه وسلم - خارجا عنه كما فى قوله - تعالى - { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } فصيغة الخطاب هنا وإن كانت موجهة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا إنه ليس داخلا فيها ، لأن والديه لم يكونا موجودين عند نزول هاتين الآيتين . والمراد بقوله { إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } أى إذا أردتم تطليقهن ، لأن طلاق المطلقة من باب تحصيل الحاصل . وهذا الأسلوب يرد كثيرا فى القرآن الكريم ، ومنه قوله - تعالى - { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ … } أى إذا أردتم القيام للصلاة فاغسلوا . والمراد بالنساء هنا الزوجات المدخول بهن ، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } واللام فى قوله - سبحانه - فطلقوهن لعدتهن ، هى التى تسمى بلام التوقيت ، وهى بمعنى عند ، أو بمعنى فى ، كما يقول القائل كتبت هذا الكتاب لعشر مضين من شهر كذا . ومنه قوله - تعالى - { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ … } أى عند أو فى وقت دلوكها . وقوله { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } من الإِحصاء بمعنى العد والضبط ، وهو مشتق من الحصى ، وهى من صغار الحجارة ، لأن العرب كانوا إذا كثر عدد الشىء ، جعلوا لكل واحد من المعدود حصاة ، ثم عدوا مجموع ذلك الحصى . والمراد به هنا شدة الضبط ، والعناية بشأن العد ، حتى لا يحصل خطأ فى وقت العدة . والمعنى يأيها النبى ، أخبر المؤمنين ومرهم ، إذا أرادوا تطليق نسائهم المدخول بهن ، من المعتدات بالحيض ، فعليهم أن يطلقوهن فى وقت عدتهن . أى فى طهر لم يجامعوهن فيه ، ثم يتركوهن حتى تنقضى عدتهن . وعليهم كذلك أن يضبطوا أيام العدة ضبطا تاما حتى لا يقع فى شأنها خطأ أو لبس . قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه خوطب النبى - صلى الله عليه وسلم - أولا تشريفا وتكريما ، ثم خاطب الأمة تبعا ، فقال { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ … } . روى ابن أبى حاتم عن أنس قال " طلق النبى - صلى الله عليه وسلم - حفصة ، فأتت أهلها ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية . وقيل له راجعها فإنها صوامة قوامة ، وهى من أزواجك فى الجنة " . وروى البخارى " أن عبد الله بن عمر ، طلق امرأة له وهى حائض ، فذكر عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فتغيظ - صلى الله عليه وسلم - ثم قال فليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فتلك العدى التى أمر الله - تعالى - . " ثم قال - رحمه الله - ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق ، وقسموه إلى طلاق سنة ، وطلاق بدعة . فطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، أو حاملا قد استبان حملها . والبدعى هو أن يطلقها فى حال الحيض ، - وما يشبهه كالنفاس - ، أو فى طهر قد جامعها فيه ، ولا يدرى أحملت أم لا ؟ . … وتعليق { طَلَّقْتُمُ } بإذا الشرطية ، يشعر بأن الطلاق خلاف الأصل ، إذ الأصل فى الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة ، وعلى الدوام والاستقرار . قال - تعالى - { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً … } قال القرطبى روى الثعلبى من حديث ابن عمر قال قال رسول - صلى الله عليه وسلم - " إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق " . وعن أبى موسى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله - عز وجل - لا يحب الذواقين ولا الذواقات " . وعن أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما حلف بالطلاق ، ولا استحلف به إلا منافق " . والمراد بالأمر فى قوله - تعالى - { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم اتباعه إذا ما أرادوا مفارقة أزواجهم ، ونهيهم عن إيقاع الطلاق فى حال الحيض أو ما يشبهها كالنفاس ، لأن ذلك يكون طلاقا بدعيا محرما ، إذ يؤدى إلى تطويل عدة المرأة لأن بقية أيام الحيض لا تحسب من العدة ، ويؤدى - أيضا - إلى عدم الوفاء لها ، حيث طلقها فى وقت رغبته فيها فاترة … ولكن الطلاق مع ذلك يعتبر واقعا ونافذا عند جمهور العلماء . قال القرطبى من طلق فى طهر لم يجامع فيه ، نفذ طلاقه وأصاب السنة ، وإن طلقها وهى حائض نفذ طلاقه وأخطأ السنة . وقال سعيد بن المسبب لا يقع الطلاق فى الحيض لأنه خلاف السنة ، وإليه ذهبت الشيعة . وفى الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال " طلقت امرأتى وهى حائض ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ وقال فليراجعها ثم فليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التى طلقها فيها " . وكان عبد الله بن عمر قد طلقها تطليقة ، فحسبت من طلاقها ، وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفى رواية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له " هى واحدة " وهذا نص . وهو يرد على الشيعة قولهم . وقد بسط الفقهاء وبعض المفسرين الكلام فى هذه المسألة فليرجع إليها من شاء … والمخاطب بقوله { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } الأزواج على سبيل الأصالة ، لأنهم هم المخاطبون بقوله { طَلَّقْتُمُ } وبقوله { فَطَلِّقُوهُنَّ } ، ويدخل معهم الزوجات على سبيل التبع ، وكذلك كل من له صلة بهذا الحكم ، وهو إحصاء العدة . ثم أمر - سبحانه - بتقواه فقال { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ } أى ، واتقوا الله ربكم ، بأن تصونوا أنفسم عن معصيته ، التى من مظاهرها إلحاق الضرر بأزواجكم ، بتطليقهن فى وقت حيضهن . أو فى غير ذلك من الأوقات المنهى عن وقوع الطلاق فيها . فالمقصود بهذه الجملة الكريمة التحذير من التساهل فى أحكام الطلاق والعدة ، كما كان أهل الجاهلية يفعلون . وجمع - سبحانه - بين لفظ الجلالة ، وبين الوصف بربكم ، لتأكيد الأمر بالتقوى ، وللمبالغة فى وجوب المحافظة على هذه الأحكام . ثم بين - سبحانه - حكما آخر يتعلق بالأزواج والزوجات فقال { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } . والجملة الكريمة مستأنفة ، أو حال من ضمير { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } أى حالة كون العدة فى بيوتهن ، والخطاب للأزواج ، والزوجات ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والأساليب . والفاحشة الفعلة البالغة الغاية فى القبح والسوء ، وأكثر إطلاقها على الزنا . وقوله { مُّبَيِّنَةٍ } صفة للفاحشة ، وقراءة الجمهور - بكسر الياء - أى بفاحشة توضح لمن تبلغه أنها فاحشة لشدة قبحها . وقرأ ابن كثير { مُّبَيَّنَةٍ } بفتح الياء - أى بفاحشة قامت الحجة على مرتكيبيها قياما لا مجال معه للمناقشة أو المجادلة . أى واتقوا الله ربكم - أيها المؤمنون - فيما تأتون وتذرون ، ومن مظاهر هذه التقوى ، أنكم لا تخرجون زوجاتكم المطلقات من مساكنهن إلى أن تنقضى عدتهن ، وهن - أيضا - لا يخرجن منها بأنفسهن فى حال من الأحوال ، إلا فى حال إتيانهن بفاحشة عظيمة ثبتت عليهن ثبوتا واضحا . فالمقصود بالجملة الكريمة نهى الأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنتهى عدتهن ، ونهى المعتدات عن الخروج منها إلا عند ارتكابهن الفاحشة الشديدة القبح . وأضاف - سبحانه - البيوت إلى ضمير النساء فقال { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } للإِشعار بأن استحقاقهن للمكث فى بيوت أزواجهن مدة عدتهن كاستحقاق المالك لما يملكه ، ولتأكيد النهى عن الإِخراج والخروج . وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن المطلقة لا يصح إخراجها أو خروجها من بيت الزوجية ما دامت فى عدتها ، إلا لأمر ضرورى . قال الألوسى ما ملخصه وقوله { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } أى من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضى عدتهن … وعدم العطف للإِيذان باستقلاله بالطلب اعتناء به ، والنهى عن الإِخراج يتناول بمنطوقة عدم إخراجهن غضبا عليهن ، أو كراهة لمساكنتهن … ويتناول بإشارته عدم الإِذن لهن بالخروج ، لأن خروجهن محرم ، لقوله - تعالى - { وَلاَ يَخْرُجْنَ } فكأنه قيل لا تخرجوهن ، ولا تأذنوا لهن فى الخروج إذا طلبن ذلك ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ، فهناك دلالة على أن سكونهن فى البيوت حق للشرع مؤكد ، فلا يسقط بالإِذن … وهذا رأى الأحناف . ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز . إذ الحق لا يعدوهما ، فيكون المعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن . والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } يرى بعضهم أنه راجع إلى { وَلاَ يَخْرُجْنَ } فتكون الفاحشة المبينة هى نفس الخروج قبل انقضاء العدة ، أى لا يطلق لهن فى الخروج ، إلا فى الخروج الذى هو فاحشة ، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه ، فيكون ذلك منعا من الخروج على أبلغ وجه . . كما يقال لا تزن إلا أن تكون فاسقا … وقال بعض العلماء والذى تخلص لى أن حكمة السكنى للمطلقة ، أنها حفظ للأعراض ، فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها ، وقد يتسرب سوء الظن إليها ، فيكثر الاختلاف عليها ، ولا تجد ذا عصمة يذب عنها ، فلذلك شرعت لها السكنى ، فلا تخرج إلا لحاجياتها الضرورية … ومن الحكم - أيضا - فى ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا ، لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال ، وإنما هن عيال على الرجال … ويزاد فى المطلقة الرجعية ، قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها ، لعله يثوب إليه رشده فيراجعها … فهذا مجموع علل ، فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم ، لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها … واسم الإِشارة فى قوله { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } يعود إلى الأحكام التى سبق الحديث عنها ، والحدود جمع حد ، وهو مالا يصح تجاوزه أو الخروج عنه . أى وتلك الأحكام التى بيناها لكم ، هى حدود الله - تعالى - التى لا يصح لم تعديها أو تجاوزها ، وإنما يجب عليكم الوقوف عندها ، وتنفيذ ما اشتملت عليه من آداب وهدايات . ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من يتجاوز حدوده فقال { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى ومن يتجاوز حدود الله التى حدها لعباده ، بأن أخل بشىء منها ، فقد حمل نفسه وزرا ، وأكسبها إثما ، وعرضها للعقوبة والعذاب . وقوله - تعالى - { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ترغيب فى امتثال الأحكام السابقة ، بعد أن سلك فى شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها ، ودعوة إلى فتح باب المصالحة بين الرجل وزوجه ، وعدم السير فى طريق المفارقة حتى النهاية … والخطاب لكل من يصلح له ، أو هو للمتعدى بطريق الالتفات ، والجملة الكريمة مستأنفة ، مسوقة لتعليل مضمون ما قبلها ، وتفصيل لأحواله . أى اسلك - أيها المسلم - الطريق الذى أرشدناك إليه فى حياتك الزوجية ، وامتثل ما أمرناك به ، فلا تطلق امرأتك وهى حائض ، ولا تخرجها من بيتها قبل تمام عدتها … ولا تقفل باب المصالحة بينك وبينها ، بل اجعل باب المصالحة مفتوحا ، فإنك لا تدرى لعل الله - تعالى - يحدث بعد ذلك النزاع الذى نشب بينك وبين زوجك أمرا نافعا لك ولها ، بأن يحول البغض إلى حب ، والخصام إلى وفاق ، والغضب إلى رضا … فالجملة الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الإِرشاد لحمل النفوس المتجهة نحو الطلاق … إلى التريث والتعقل ، وفتح باب المواصلة بعد المقاطعة والتقارب بعد التباعد ، لأن تقليب القلوب بيد الله - عز وجل - وليس بعيدا عن قدرته - تعالى - تحويل القلوب إلى الحب بعد البغض . قال القرطبى الأمر الذى يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه ، فيراجعها . وقال جميع المفسرين أراد بالأمر هنا الرغبة فى الرجعة … ثم بين - سبحانه - حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال - تعالى - { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ … } . والفاء فى قوله { فَإِذَا بَلَغْنَ … } للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة . والمراد ببلوغ أجلهن ، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده ، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها ، لأن الإِمساك يكون قبل انقضائها . فالكلام من باب المجاز ، لمشابهة مقاربة الشىء ، بالحصول فيه ، والتلبس به . والمراد بالإِمساك المراجعة وعدم السير فى طريق مفارقتها . والمعروف ما أمر به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين ، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق . والمعنى لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التى تتعلق بعدة النساء ، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن ، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة ، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة ، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء … والأمر فى قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ } و { فَارِقُوهُنَّ } للإِباحة ، و " أو " للتخيير . والتعبير بالإِمساك للإِشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة ، ما عدا الاستمتاع بها ، فعليه أن يستمسك بها ، ولا يتسرع فى فراقها ، فهى ما زالت فى عصمته . وقدم - سبحانه - الإِمساك على الفراق ، للإِشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية ، وإبقاء للمودة والرحمة . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ … } ثم قال - سبحانه - { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } أى وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لأن الإِشهاد يقطع التنازع ، ويدفع الريبة ، وينفى التهمة . والأمر فى قوله { وَأَشْهِدُواْ } للندب والاستحباب فى حالتى المراجعة والمفارقة ، فهو كقوله - تعالى - { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وهذا رأى جمهور العلماء . قال الآلوسى قوله { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } أى عند الرجعة إن اخترتموها ، أو الفرقة إن اخترتموها ، تبريا عن الريبة ، وقطعا للنزاع . وهذا أمر ندب كما فى قوله - تعالى - { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وقال الشافعى فى القديم إنه للوجوب فى الرجعة . وزعم الطبرسى أن الظاهر أنه أمر بالإِشهاد على الطلاق ، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت ، وأنه للوجوب ، وشرط فى صحة الطلاق … وقوله { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } معطوف على ما قبله ، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة . والمراد بإقامة الشهادة أداؤها بالعدل والصدق . أى وعليكم - أيها المؤمنون - عند أدائكم للشهادة ، أن تؤدوها بالعدل والأمانة ، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله - تعالى - وامتثالا لأمره . والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم ، أمر واجب ، لأن الشهادة هنا اسم للجنس ، ولأن الله - تعالى - يقول فى آية أخرى { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ … } والإِشارة فى قوله - سبحانه - { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام ، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهى عدتها ، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل . والوعظ معناه التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر فى القلوب ، وتهدى النفوس إلى الرشد . أى ذلك الذى ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به ، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله - تعالى - وباليوم الآخر إيمانا حقا . وخص - سبحانه - الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام ، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا . ثم بشر - سبحانه - عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } . والجملة الكريمة اعتراض بين قوله - تعالى - { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وبين قوله - سبحانه - بعد ذلك { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ } وجىء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته - تعالى - وآدابه ، ولحض الزوجين على مراقبته - سبحانه - وتقواه . أى ومن يتق الله - تعالى - فى كل أقواله وأفعاله وتصرفاته . يجعل له - سبحانه - مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها ، ومن شدائد الموت وغمراته ، ومن أهوال الآخرة وعذابها ، ويزرقه الفوز بخير الدارين ، من طرق لا تخطر له على بال ، ولا ترد له على خاطر ، فإن أبواب رزقه - سبحانه - لا يعلمها أحد إلا هو - عز وجل - . وفى هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن ، حتى يثبت فؤاده ، ويستقيم قلبه ، ويحرص على طاعة الله - تعالى - فى كل أحواله . قال القرطبى قال أبو ذر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ، ثم تلا { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } " . وعن جابر بن عبد الله قال " نزلت هذه الآية فى عوف بن مالك الأشجعى ، أسر المشركون ابنا له ، فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك . فقال له - صلى الله عليه وسلم - " اتق الله واصبر ، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله " . فعاد إلى بيته وقال لامرأته إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله . فقالت نعم ما أمرنا ، فجعلا يقولان ذلك ، فغفل العدو عن ابنه ، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف ، " فنزلت الآية … ثم قال - تعالى - { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } . ولفظ { حَسْبُ } بمعنى كاف وأصله اسم مصدر أو مصدر ، ومعنى { بَالِغُ أَمْرِهِ } بإضافة الوصف إلى مفعوله ، أى يبلغ ما يريده - سبحانه - ، وقرأ الجمهور { بَالِغُ أَمْرِهِ } بتنوين الوصف ونصب أمره على المفعولية ، والمراد بأمره ، شأنه ومراده . وهذه الجملة تعليل لما قبلها . أى ومن يفوض أمره إلى الله - تعالى - ويتوكل عليه وحده ، فهو - سبحانه - كافيه فى جميع أموره ، لأنه - سبحانه - يبلغ ما يريده ، ولا يفوته مراد ، ولا يعجزه شىء ، ولا يحول دون أمره حائل … ومن مظاهر حكمه فى خلقه ، أنه عز وجل - قد جعل لكل شىء تقديرا قبل وجوده ، وعلم علما تاما مقاديرها وأوقاتها وأحوالها . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وقوله - سبحانه - { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } وقوله - عز وجل - { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } قال بعض العلماء ما ملخصه ولهذه الجملة ، وهى قوله - تعالى - { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن ، فى ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض … فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البيانى الناشىء عما اشتملت عليه جمل { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً … } إلى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت ، فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله ، فيقول أين أنا من تحصيل هذا الشىء … ويتملكه اليأس … فيقول الله - تعالى - له { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } أى فلا تيأس أيها الإِنسان . ولها موقع التعليل لجملة { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } فإن العدة من الأشياء التى تعد ، فلما أمر الله بإحصائها علل ذلك فقال { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } . ولها موقع التذبيل لجملة { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى الذى وضع تلك الحدود ، قد جعل الله لكل شىء قدرا لا يعدوه ، كما جعل الحدود . ولها موقع التعليل لجملة { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذى جعله الله لمدة العدة ، فقد حصل المقصد الشرعى ، الذى أشار إليه بقوله - تعالى - { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } . ولها موقع التعليل لجملة { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ } فإن الله - تعالى - جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع . فهذه الجملة جزء آية ، وهى تحتوى على حقائق من الحكمة … ثم ذكر - سبحانه - أحكاما أخرى تتعلق بعدة أنواع أخرى من النساء وأكد الأمر بتقواه - عز وجل - وأمر برعاية النساء والانفاق عليهن … فقال - تعالى - { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ … } .