Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 65, Ayat: 8-12)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكلمة { وَكَأِيِّن } اسم لعدد كثير منهم ، يفسره ما بعده ، فهى بمعنى " كم " الخبرية التى تفيد التكثير ، وهى مبتدأ ، وقوله { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز لها . وجملة { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } خبر للمبتدأ . والعتو الخروج عن الطاعة ، يقال عتا فلان يعتو عتوا وعتيا . إذا تجبر وطغى وتجاوز الحدود فى الاستكبار والعناد . والمراد بالقرية أهلها ، على سبيل المجاز المرسل ، من إطلاق المحل وإرادة الحال ، فهو كقوله - تعالى - { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } والقرينة على أن المراد بالقرية أهلها ، قوله - تعالى - بعد ذلك { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً … } . والمراد بالمحاسبة فى قوله { فَحَاسَبْنَاهَا … } المجازاة والمعاقبة الدنيوية على أعمالهم ، بدليل قوله - تعالى - عن العذاب الأخروى بعد ذلك { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً … } . ويجوز أن يراد بالمحاسبة هنا العذاب الأخروى ، وجىء بلفظ الماضى على سبيل التأكيد وتحقق الوقوع ، كما فى قوله - تعالى - { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ … } ويكون قوله - سبحانه - { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً … } تكريرا للوعيد . والمعنى وكثير من أهل القرى الماضية ، خرجوا عن طاعة ربهم ، وعصوا رسله ، فكانت نتيجة ذلك أن سجلنا عليهم أفعالهم تسجيلا دقيقا ، وجازيناهم عليها جزاء عادلا ، بأن عذبناهم عذابا فظيعا . وعاقبناهم عقابا نكرا … والشىء النكر بضمتين وبضم فسكون - ما ينكره العقل من شدة كيفية حدوثه إنكارا عظيما . والفاء فى قوله - تعالى - { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا … } للتفريع على ما تقدم . والوبال الثقل ، ومنه الطعام الوبيل ، أى الوخيم الثقيل على المعدة فيكون سببا فى فسادها ومرضها . والذوق الإِحساس بالشىء إحساسا واضحا … أى فترتب على هذا الحساب والعقاب ، أن ذاق أهل تلك القرى سوء عاقبة بغيهم وجحودهم لنعم الله … وكان عاقبة أمرها خسرا أى وكانت نهايتهم نهاية خاسرة خسارة عظيمة ، كما يخسر التاجر صفقته التجارية التى عليها قوام حياته . ثم بين - سبحانه - ما أعده لهم فى الآخرة من عذاب ، بعد بيان ما حل بهم فى الدنيا فقال { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً … } . أى أن ما أصابهم فى الدنيا بسبب فسوقهم عن أمر ربهم ، ليس نهاية المطاف ، بل هيأ الله - تعالى - لهم عذابا أشد من ذلك وأبقى فى الآخرة … وما دام كذلك { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً … } . والألباب جمع لب ، وهو العقل السليم الذى يرشد صاحبه إلى الخير والبر . وقوله { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } منصوب بإضمار أعنى على سبيل البيان للمنادى ، أو عطف بيان له . والمراد بالذكر القرآن الكريم ، وقد سمى بذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ … } أى فيه شرفكم وعزكم ، وفيه ما يذكركم بالحق ، وينهاكم عن الباطل . أى فاتقوا الله - تعالى - يا أصحاب العقول السليمة ، ويامن آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان ، فهو - سبحانه - الذى أنزل عليكم القرآن الكريم ، الذى فيه ما يذكركم عما غفلتم عنه من عقيدة سليمة ، ومن أخلاق كريمة ، ومن آداب قويمه … وفى ندائهم يوصف " أولى الألباب " إشعار بأن العقول الراجحة هى التى تدعو أصحابها إلى تقوى الله وطاعته ، وإلى كل كمال فى الطباع والسلوك . والمراد بالرسول فى قوله - تعالى - { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } محمد - صلى الله عليه وسلم - وللمفسرين جملة من الأقوال فى إعرابه ، فمنهم من يرى أنه منصوب بفعل مقدر ، ومنهم من يرى أنه بدل من ذكرا … والمعنى فاتقوا الله - أيها المؤمنون - فقد أنزلنا إليكم قرآنا فيه ما يذكركم بخير الدنيا والآخرة … وأرسلنا إليكم رسولا هو عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لكى يتلو عليكم آياتنا تلاوة تدبر وفهم ، يعقبهما تنفيذ ما اشتملت عليه هذه الآيات من أحكام وأداب وهدايات … ولكى يخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الشرك الذى كانوا واقعين فيه ، إلى نور الإِيمان الذى صاروا إليه . ومنهم من فسر الذكر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - … قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً } هو النبى - صلى الله عليه وسلم - وعبر عنه بالذكر ، لمواظبته على تلاوة القرآن الذى هو ذكر … وقوله - تعالى - { رَّسُولاً } بدل من { ذِكْراً } ، وعبر عن إرساله بالإِنزال ، لأن الإِرسال مسبب عنه … والظاهر أن الذكر هو القرآن ، والرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسولا منصوب بمقدر ، أى وأرسل رسولا … ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين الصادقين فقال { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ } إيمانا حقا { وَيَعْمَلْ } عملا { صَالِحاً يُدْخِلْهُ } - سبحانه - بفضله وإحسانه { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } خلودا أبديا … وقوله { قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } حال من الضمير المنصوب فى قوله { يُدْخِلْهُ } ، والجمع فى الضمائر باعتبار معنى { مِن } كما أن الأفراد فى الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها والرزق كل ما ينتفع به الإِنسان ، وتنكيره للتعظيم . أى قد وسع الله - تعالى - لهذا المؤمن الصادق فى إيمانه رزقه فى الجنة ، وأعطاه من الخير والنعيم ، ما يشرح صدره ، ويدخل السرور على نفسه . ويصلح باله … ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بما يدل على كمال قدرته ، وسعة علمه فقال { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ … } . أى الله - تعالى - وحده هو الذى خلق سبع سماوات طباقا وخلق من الأرض مثلهن ، أى فى العدد فهى سبع كالسماوات . والتعدد قد يكون باعتبار أصول الطبقات الطينية والصخرية والمائية والمعدنية ، وغير ذلك من الاعتبارات التى لا يعلمها إلا الله - تعالى - . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية يقول - تعالى - مخبرا عن قدرته التامة ، وسلطانه العظيم ، ليكون ذلك باعثا على تعظيم ما شرع من الدين القويم { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } كقوله - تعالى - إخبارا عن نوح أنه قال لقومه { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً … } وقال - تعالى - { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } وقوله { وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } أى سبعا - أيضا - كما ثبت فى الصحيحين " من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه مع سبع أرضين " . وفى صحيح البخارى " خسف به إلى سبع آرضين … " ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم ، فقد أبعد النجعة ، وأغرق فى النزع ، وخالف القرآن والحديث بلا مستند … وقال الآلوسى الله الذى خلق سبع سماوات مبتدأ وخبر { وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } أى وخلق من الأرض مثلهن ، على أن { مِثْلَهُنَّ } مفعول محذوف ، والجملة معطوفة على الجملة قبلها . والمثلية تصدق بالاشتراك فى بعض الأوصاف ، فقال الجمهور هى هنا فى كونها سبعا وكونها طباقا بعضها فوق بعض ، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض ، وفى كل أرض سكان من خلق الله ، لا يعلم حقيقتهم أحد إلا الله - تعالى - . وقيل المثلية فى الخلق لا فى العدد ولا فى غيره ، فهى أرض واحدة مخلوقة كالسماوات السبع . ورد هذا القيل بأنه قد صح من رواية البخارى وغيره ، قوله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن … " . والذى نراه أن كون المثلية فى العد ، هو المعول عليه ، لورود الأحاديث الصحيحة التى صرحت بأن الأرضين سبع ، فعلينا أن نؤمن بذلك ، وأن نرد كيفية تكوينها ، وهيئاتها ، وأبعادها ، ومساحاتها ، وخصائصها … إلى علم الله - تعالى - . وقوله { يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } أى يجرى أمر الله - تعالى - وقضاؤه وقدره بينهن ، وينفذ حكمه فيهن ، فالمراد بالأمر قضاؤه وقدره ووحيه . واللام فى قوله - تعالى - { لِّتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } متعلقة بقوله { خَلَقَ } … أى خلق - سبحانه - سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، وأخبركم بذلك ، لتعلموا علما تاما أن الله - تعالى - على كل شىء قدير ، وأن علمه - تعالى - قد أحاط بكل شىء سواء أكان هذا الشىء جليلا أم حقيرا ، صغيرا أم كبيرا … وبعد فهذا تفسير لسورة " الطلاق " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم …