Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 66, Ayat: 10-12)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والمراد بضرب المثل . إيراد حالة غريبة ، ليعرف بها حالة أخرى مشابهة لها فى الغرابة . وقوله { مَثَلاً } مفعول ثان لضرب ، والمفعول الأول { ٱمْرَأَتَ نُوحٍ … } . والمتدبر للقرآن الكريم ، يراه قد أكثر من ضرب الأمثال ، لأن فيها تقريبا للبعيد ، وتوضيحا للغريب وتشبيه الأمر المعقول بالأمر المحسوس ، حتى يرسخ فى الأذهان … أى جعل الله - تعالى - مثلا لحال الكافرين ، وأنه لا يغنى أحد عن أحد { ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ } عليهما السلام . وعدى الفعل { ضَرَبَ } باللام ، للإِشعار بأن هذا المثل إنما سيق من أجل أن يعتبر به الذين كفروا ، وأن يقلعوا عن جهالاتهم التى جعلتهم يعتقدون أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة . وقوله - تعالى - { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا … } بيان لحال هاتين المرأتين ، ولما قامتا به من أفعال شائنة ، تتنافى مع صلتهما بهذين النبيين الكريمين … والمراد بالتحتية هنا كونهما زوجين لهذين النبيين الكريمين ، وتحت عصمتهما وصيانتهما ، وأشد الناس التصاقا بهما . وقال - سبحانه - { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ … } للتعظيم ، أى كانتا فى عصمة نبيين لهما من سمو المنزلة ما لهما عند الله - تعالى - . ووصفهما - سبحانه - بالصلاح ، مع أنهما نبيان والنبوة أعظم هبة من الله لعبد من عباده - للتنويه بشأن الصالحين من الناس ، حتى يحرصوا على هذه الصفة ، ويتمسكوا بها ، فقد مدح الله - تعالى - من هذه صفته فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } وخيانة امرأة نوح له ، كانت عن طريق إفشاء أسراره ، وقولها لقومه إنه مجنون . وخيانة امرأة لوط له ، كانت عن طريق إرشاد قومه إلى ضيوفه … مع استمرار هاتين المرأتين على كفرهما … قال الإِمام ابن كثير قوله { فَخَانَتَاهُمَا } أى فى الإِيمان ، لم يوافقا هما على الإِيمان ، ولا صدقاهما فى الرسالة … وليس المراد بقوله { فَخَانَتَاهُمَا } فى فاحشة ، بل فى الدين ، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع فى الفاحشة … وعن ابن عباس قال مازنتا ، أما امرأة نوح ، فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط ، فكانت تدل على قومها على أضيافه . وفى رواية عنه قال كانت خيانتهما أن امرأة نوح ، كانت تفشى سره ، فإذا آمن معه نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط ، فكانت إذا أضاف لوط أحدا ، أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء … وقوله - تعالى - { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ } بيان لما أصابهما من سوء العاقبة بسبب خيانتهما . أى أن نوحا ولوطا - عليهما السلام - مع جلالة قدرهما ، لم يستطيعا أن يدفعا شيئا من العذاب عن زوجتيهما الخائنتين لهما ، وإنما قيل لهاتين المرأتين عند موتهما . أو يوم القيامة ، ادخلا النار مع سائر الداخلين من الكفرة الفجرة … وقوله { شَيْئاً } منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله { يُغْنِيَا } ، وجاء منكرا للتقليل والتحقير ، أى فلم يغنيا عنهما شيئا من الإِغناء حتى ولو كان قليلا … وقوله { مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ } بعد قوله { ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ } لزيادة تبكيتهما ، ولتأكيد مساواتهما فى العذاب مع غيرهما من الكافرين الخائنين الذين لا صلة لهما بالأنبياء من حيث القرابة أو ما يشبهها . ثم ضرب - سبحانه - مثلا للمؤمنين فقال { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } وهى آسية ابنة مزاحم ، التى لم يمنعها ظلام الكفر الذى كانت تعيش فيه فى بيت فرعون ، ولم يشغلها ما كانت فيه من متاع الحياة الدنيا وزينتها … عن أن تطلب الحق ، وتعرض عن الباطل ، وأن تكفر بكل ما يدعيه زوجها من كذب وطغيان . قال الجمل آمنت بموسى - عليه السلام - لما غلب السحرة ، وتبين لها أنه على الحق . ولم تضرها الوصلة بالكافر ، وهى الزوجية التى هى من أعظم الوصل ولا نفعه إيمانها ، لأن كل امرىء بما كسب رهين … وروى الشيخان عن أبى موسى الأشعرى " أنه قال كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع مريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - وآسية بنت مزاحم ، امرأة فرعون " . قيل إنها إسرائيلية وأنها عمة موسى . وقيل إنها ابنة عم فرعون … ومن فضائلها أنها اختارت القتل على الملك ، وعذاب الدنيا على النعيم الذى كانت فيه - بعد أن خالط الإِيمان قلبها . أى وجعل الله - تعالى - حال امرأة فرعون ، مثلا للمؤمنين ، حيث آمنت بالحق بعد أن تبين لها ، دون أن يصرفها عن ذلك أى صارف ، فكان ما فعلته فى أسمى درجات الإِخلاص وصدق اليقين … والظرف فى قوله { إِذْ قَالَتْ … } متعلق بمحذوف ، أو بقوله { مَثَلاً } . أى وضرب الله - تعالى - مثلا للذين آمنوا ، حال امرأة فرعون وقت أن قالت { رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } أى ابن لى بيتا فى مستقر رحمتك ، أو فى جنتك التى لا يستطيع أحد التصرف فيها إلا بإذنك . وقوله { فِي ٱلْجَنَّةِ } بدل أو عطف بيان لقوله - تعالى - { عِندَكَ } وقدم عندك ، للإِشعار بأن محبتها للقرب من رحمته - تعالى - أهم من أى شىء آخر . { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أى ونجنى من طغيان فرعون ، ومن عمله الذى بلغ النهاية فى السوء والقبح … { وَنَجِّنِي } - أيضا - من القوم الظالمين ، وهم أتباع فرعون وحاشيته وملؤه ، وشيعته … وفى هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب ، فهى تسأل الله - تعالى - أن يعوضها عن دار فرعون ، دارا فى أعلى درجات الجنة . . وهذا الدعاء يشعر بأن فرعون وقومه ، قد صدوها عن الإِيمان ، وهددوها بأنها إن آمنت … حرموها من قصر فرعون ، وزينته وفخامته . كما أنها سألت ربها - عز وجل - أن ينجيها من ذات فرعون ، ومن علمه السىء ، ومن كل من حام حول فرعون ، واتبعه فى طغيانه وكفره . وقوله - سبحانه - { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ … } معطوف على { ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ … } . أى وضرب الله - تعالى - مثلا آخر للمؤمنين مريم ابنة عمران … { ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أى حفظته وصانته ، إذ الإِحصان جعل الشىء حصينا ، بحيث لا يتوصل إليه ، وهو كناية عن عفتها وطهارتها وبعدها عن كل فاحشة … وقوله { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } مفرع على ماقبله . قال الآلوسى وقوله { فَنَفَخْنَا فِيهِ } النافخ رسوله جبريل - عليه السلام - فالإِسناد مجازى . وقيل الكلام على حذف مضاف ، أى فنفخ رسولنا ، وضمير { فِيهِ } للفرج . واشتهر أن جبريل - عليه السلام - نفخ فى جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج . وقال الفراء ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها ، وهو محتمل لأن الفرج معناه فى اللغة ، كل فرجة بين شيئين ، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج ، وهذا أبلغ فى الثناء عليها ، لأنها إذا منعت جيب درعها ، فهى للنفس أمنع … أى فنفخ رسولنا جبريل فى فرجها أو فى جيب درعها ، روحا من أرواحنا هى روح عبدنا ونبينا عيسى - عليه السلام - . وإضافة الروح إلى ذاته - تعالى - لأنه هو الخالق والموجد وللإِشارة إلى أن تكوين المخلوق الحى فى رحمها ، كان على غير الأسباب المعتادة . وقوله - تعالى - { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } زيادة فى مدحها ، وفى الثناء عليها … أى وكان من صفات مريم ابنة عمران أنها آمنت إيمانا حقا { بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أى بشرائعه التى شرعها لعباده ، وبما ألقاه إليها من إرشادات عن طريق وحيه . و { وَكُتُبِهِ } أى وصدقت بكتبه التى أنزلها على أنبيائه ، وقرأ الجمهور وكتابه بالإِفراد ، على أن المراد به جنس الكتب ، أو الإِنجيل الذى أنزله - سبحانه - على ابنها عيسى . و { مِنَ } فى قوله - تعالى - { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } للابتداء ، أى وكانت من نسل الرجال القانتين ، الذين بذلوا أقصى جهدهم فى طاعة الله - تعالى - ، وفى إخلاص العبادة له . ويصح أن تكون { مِنَ } للتبعيض . أى وكانت من عداد المواظبين على الطاعة ، وجىء بجمع الذكور على سبيل التغليب ، وللإِشعار بأن طاعتها لا تقل عن طاعة الرجال ، الذين بلغوا الغاية فى المواظبة على طاعة الله - تعالى - . وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد اشتملت على ثلاثة أمثال مثل للكافرين ، ومثلين للمؤمنين . وقد تضمن مثل الكفار ، أن الكافر يعاقب على كفره ، دون أن ينفعه ما بينه وبين المؤمنين من قرابة أو نسب . . كما حدث لامرأة نوح وامرأة لوط … وأما المثلان اللذان للمؤمنين ، فقد تضمنا أن اتصال المؤمن بالكافر ، لا يضره شيئا إذا فارقه فى كفره وعمله … وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى فقال ما ملخصه مثَّل الله - تعالى - حال الكفار ، فى أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين … دون أن ينفعهم ما بينهم وبينهم من صلة أو قرابة - بحال امرأة نوح وامرأة لوط فإنهما لما نافقتا وخانتا الرسولين . لم يغن عنهما ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج شيئا … ومثل حال المؤمنين - فى أن وصلة الكافرين لا تضرهم . ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله - بحال امرأة فرعون ، فإنها مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، فإنها بسبب إيمانها قد رفع منزلتها عنده … وبحال مريم ابنة عمران ، فقد أعطاها الله ما أعطاها من الكرامة … مع أن قومها كانوا كافرين … وفى طى هذين التمثيلين تعريض بأمى المؤمنين المذكورتين فى أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده … وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا فى الإِخلاص والكمال فيه ، كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين … وأسرار التنزيل ورموزه فى كل باب ، بالغة من اللطف والخفاء ، حدا يدق عن تفطن العالم ، ويزل عن تبصره … وبعد فهذا تفسير لسورة " التحريم " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .