Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 66, Ayat: 1-5)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقد افتتح سبحانه - السورة الكريمة بقوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ … ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } . وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة ، منها ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة - رضى الله عنها - قالت " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير ؟ - والمغافير صمغ حلو له رائحة كريهة - إنى أجد منك ريح مغافير . فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه ، وقد حلفت ، فلا تخبرى بذلك أحدا ، فنزلت هذه الآيات " . وفى رواية أن التى شرب عندها العسل حفصة بنت عمر ، وأن القائلة له ذلك سودة بنت زمعة ، وصفية بنت حيى . قالوا والاشتباه فى الاسم لا يضر ، بعد ثبوت أصل القصة . وأخرج النسائى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما ، فأنزل الله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ … الآيات … } . وروى ابن جرير عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصاب أم إبراهيم مارية ، فى بيت بعض نسائه - وفى رواية فى بيت حفصة فقالت يا رسول الله فى بيتى وعلى فراشى ؟ فجعلها أى مارية - عليه حراما ، وحلف بهذا … فأنزل الله هذه الآيات . قال القرطبى ما ملخصه " وأصح هذه الأقوال أولها … والصحيح أن التحريم كان فى العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه ، فجرى ما جرى فحلف أن لا يشربه وأسر ذلك ، ونزلت الآية فى الجميع " . وقال الإِمام ابن كثير - بعد أن ساق عددا من الروايات فى هذا الشأن والصحيح أن ذلك كان فى تحريمه - صلى الله عليه وسلم - للعسل . وقال الآلوسى قال النووى فى شرح مسلم الصحيح أن الآية فى قصة العسل ، لا فى قصة مارية المروية فى غير الصحيحين ، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح . والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش … وقد افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } . وفى توجيه النداء إليه - صلى الله عليه وسلم - تنبيه إلى أن ما سيذكر بعد النداء ، شىء مهم ، بالنسبة له ولسائر المسلمين . والاستفهام فى قوله - تعالى - { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ … } للنفى المصحوب بالعتاب منه - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - . وجملة { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } حال من فاعل { تُحَرِّمُ } ، والعتاب واقع على مضمون هذه الجملة والتى قبلها ، وهى قوله { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } . والمعنى يا أيها الرسول الكريم ، لماذا حرمت على نفسك ما أحله الله - تعالى - لك من شراب أو غيره ؟ أفعلت ذلك من أجل إرضاء أزواجك ؟ . إنه لا ينبغى لك أن تفعل ذلك ، لأن ما أباحه الله - تعالى - لك ، لا يصح أن تحرمه على نفسك أو أن تمتنع عن تعاطيه ، فتشق على نفسك من أجل إرضاء غيرك . قال بعض العلماء " ناداه بلفظ " النبى " إشعارا بأنه الذى نُبئَ بأسرار التحليل والتحريم الإِلهى ، والمراد بتحريمه ما أُحِل له ، امتناعه منه ، وحظره إياه على نفسه . وهذا المقدار مباح ، ليس فى ارتكابه جناح ، وإنما قيل له { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } رفقا به ، وشفقة عليه ، وتنويها لقدره ولمنصبه - صلى الله عليه وسلم - أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه ، جريا على ما ألف من لطف الله - تعالى - به ، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه … " . وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من وقع هذا اللوم ، ومن أثر هذا العتاب ، وإرشاد له - صلى الله عليه وسلم - بأن ما فعله داخل تحت مغفرة الله - تعالى - ورحمته . أى والله - تعالى - واسع المغفرة والرحمة وقد غفر لك - بفضله وكرمه ما فعلته بسبب بعض أزواجك ، وجعلك على رأس من تظلهم رحمته . ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر رحمته فقال { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . وقوله { فَرَضَ } هنا بمعنى شرع ، والتحلة مصدر بمعنى التحليل ، والمراد بها الكفارة ، وهى مصدر حلّل كالتكرمة مصدر كرْم ، من الحل الذى هو ضد العقد . أى قد شرع الله - تعالى - لكم تحليل الايمان التى عقدتموها ، عن طريق الكفارة ، لأن اليمين إذا كانت فى أمر لا يحبه الله - تعالى - فالعدول عنها أولى وأفضل . وفى الحديث الشريف يقول - صلى الله عليه وسلم - " إنى والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يمينى وفعلت الذى هو خير " . وقد اختلف العلماء فى التحريم الذى كن من النبى - صلى الله عليه وسلم - أكان بيمين أم لا . وظاهر الآية يؤيد القول بالإِيجاب لقوله - تعالى - { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } لأن هذه الجملة الكريمة تشعر بأن هناك يمينا تحتاج إلى كفارة . وقد جاء فى بعض الروايات الصحيحة أنه قال " بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت . لا تخبرى بذلك أحدا … " . قال الآلوسى ما ملخصه واختلفوا هل كفر النبى - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه هذه أولا ؟ فعن الحسن أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكفر لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وإنما هو تعليم للمؤمنين . وعن مقاتل أنه - صلى الله عليه وسلم - أعتق رقبة … ونقل مالك عن زيد بن أسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطى الكفارة . وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } أى وهو - سبحانه - سيدكم ومتولى أموركم وناصركم . وهو - تعالى - { ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } أى العليم بجميع أحوالكم وشئونكم ، الحكيم فى كل أقواله وأفعاله وتدبير شئون عباده . والظرف فى قوله - تعالى - { وَإِذَ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } متعلق بمحذوف تقديره اذكر ، وقوله { أَسَرَّ } من الإِسرار بالشىء بمعنى كتمانه وعدم إشاعته . والمراد ببعض أزواجه حفصة - رضى الله عنها - . والمراد بالحديث قوله لها - كما جاء فى بعض الروايات - " بل شربت عسلا عند زينب ، ولن أعود ، وقد حلفت فلا تخبرى بذلك أحدا … " . أو قوله لها فى شأن مارية " إنى قد حرمتها على نفسى ، فاكتمى ذلك فأخبرت بذلك عائشة " . أى واذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - وقت أن أسر النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجه حفصة حديثا ، يتعلق بشربه العسل فى بيت زينب بنت جحش ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لحفصة لا تخبرى بذلك أحدا " . { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أى فلما أخبرت حفصة عائشة بهذا الحديث الذى أمرت بكتمانه { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أى وأطلع الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما قالته حفصة لعائشة . فالمراد بالإِظهار الاطلاع ، وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب . وعبر بالإِظهار عن الاطلاع ، لأن حفصة وعائشة كانتا حريصتين على عدم معرفة ما دار بينهما فى هذا الشأن ، فلما أطلع الله - تعالى - نبيه على ذلك كانتا بمنزلة من غلبتا على أمرهما . وقوله - سبحانه - { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } بيان للمسلك السامى الذى سلكه - صلى الله عليه وسلم - فى معاتبته لحفصة على إفشائها لما أمرها أن تكتمه والمفعول الأول لعرف محذوف أى عرفها بعضه . أى فحين خاطب - صلى الله عليه وسلم - حفصة فى شأن الحديث الذى أفشته ، اكتفى بالإِشارة إلى جانب منه ، ولم يذكر لها تفاصيل ما قاله لها سابقا . لسمو أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - إذ فى ذكر التفاصيل مزيد من الخجل والإِحراج لها . قال بعضهم ما زال التغافل من فعل الكرام وما استقصى كريم قط وقال الشاعر @ ليس الغبى بسيد فى قومه لكن سيد قومه المتغابى @@ وإنما عرفها - صلى الله عليه وسلم - ببعض الحديث ، ليوقفها على خطئها وعلى أنه كان من الواجب عليها أن تحفظ سره - صلى الله عليه وسلم - . قالوا ولعل حفصة رضى الله عنها - قد فعلت ذلك ، ظنا منها أنه لا حرج فى إخبار عائشة بذلك ، أو أنها اجتهدت فأخطأت ، ثم تابت وندمت على خطئها . ثم حكى - سبحانه - ما قالته حفصة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وما رد به عليها فقال { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } . أى فلما سمعت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أنه قد أطلع على ما قالته لعائشة ، قالت له من أخبرك بما دار بينى وبينها ؟ فأجابها - صلى الله عليه وسلم - بقوله أخبرنى بذلك الله - تعالى - العليم بجميع أحوال عباده وتصرفاتهم … الخبير بما تكنه الصدور ، وبما يدور فى النفوس من هواجس وخواطر . وإنما قالت له - صلى الله عليه وسلم - { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } لتتأكد من أن عائشة لم تخبره - صلى الله عليه وسلم - بما دار بينهما فى هذا الشأن … فلما قال لها - صلى الله عليه وسلم - { نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } تحقق ظنها فى كتمان عائشة لما قالته لها ، وتيقنت أن الذى أخبره بذلك هو الله - عز وجل - . وفى تذييل الآية الكريمة بقوله { ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } إشارة حكيمة وتنبيه بليغ ، إلى أن من الواجب على كل عاقل ، أن يكون ملتزما لكتمان الأسرار التى يؤتمن عليها ، وأن إذاعتها - ولو فى أضيق الحدود - لا تخفى على الله - عز وجل - لأنه - سبحانه - عليم بكل معلوم ، ومحيط بخبايا النفوس وخلجاتها . ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك خطابه إلى حفصة وعائشة ، فأمرهما بالتوبة عما صدر منهما . فقال { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } . ولفظ { صَغَتْ } بمعنى مالت وانحرفت عن الواجب عليهما . يقال صغا فلان يصغو ويصغى صغوا ، إذا مال نحو شىء معين . ويقال صغت الشمس ، إذا مالت نحو الغروب ، ومنه قوله - تعالى - { وَلِتَصْغَىۤ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } وجواب الشرط محذوف ، والتقدير إن تتوبا إلى الله ، فلتوبتكما موجب أو سبب ، فقد مالت قلوبكما عن الحق ، وانحرفت عما يجب عليكما نحو الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كتمان لسره ، ومن حرص على راحته ، ومن احترام لكل تصرف من تصرفاته . . وجاء الخطاب لهما على سبيل الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، مبالغة فى المعاتبة ، فإن المبالغ فى ذلك يوجه الخطاب إلى من يريد معاتبته مباشرة . وقال - سبحانه - { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } بصيغة الجمع للقلوب ، ولم يقل قلبا كما بالتثنية ، لكراهة اجتماع تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة ، مع ظهور المراد ، وأمن اللبس . ثم ساق - سبحانه - ما هو أشد فى التحذير والتأديب فقال { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } . وقوله { تَظَاهَرَا } أصله تتظاهرا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا . والمراد بالتظاهر التعاون والتآزر ، يقال ظاهر فلان فلانا إذا أعانه على ما يريده ، وأصله من الظهر ، لأن من يعين غيره فكأنه يشد ظهره ، ويقوى أمره قال - تعالى - { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } وجواب الشرط - أيضا - محذوف - أى وإن تتعاونا عليه بما يزعجه ، ويغضبه ، من الإِفراط فى الغيرة ، وإفشاء سره . فلا يعدم ناصرا ولا معينا بل سيجد الناصر الذى ينصره عليكما ، فإن الله - تعالى - { هُوَ مَوْلاَهُ } أى ناصره ومعينه { وَجِبْرِيلُ } كذلك ناصره ومعينه عليكما . { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أى وكذلك الصالحون من المؤمنين من أنصاره وأعوانه . { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } أى والملائكة بعد نصر الله - تعالى - له ، وبعد نصر جبريل وصالح المؤمنين له ، مؤيدونه ومناصرونه وواقفون فى صفه ضدكما . وفى هذه الآية الكريمة أقوى ألوان النصر والتأييد للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأسمى ما يتصوره الإِنسان من تكريم الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن غيرته - عز وجل - عليه ، ومن دفاعه عنه - صلى الله عليه وسلم - . وفيها تعريض بأن من يحاول إغضاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يكون من صالح المؤمنين . وقوله { وَجِبْرِيلُ } مبتدأ ، وقوله { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ } معطوف عليه . وقوله { بَعْدَ ذَلِكَ } متعلق بقوله { ظَهِيرٌ } الذى هو خبر عن الجميع . وقد جاء بلفظ المفرد ، لأن صيغة فعيل يستوى فيها الواحد وغيره . فكأنه - تعالى - قال والجميع بعد ذلك مظاهرون له ، واختير الإِفراد للإِشعار بأنهم جميعا كالشىء الواحد فى تأييده ونصرته ، وبأنهم يد واحدة على من يعاديه . قال صاحب الكشاف فإن قلت قوله { بَعْدَ ذَلِكَ } تعظيم للملائكة ومظاهرتهم ، وقد تقدمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين ، ونصرة الله - تعالى - أعظم وأعظم ؟ قلت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله ، فكأنه فضل نصرته - تعالى - بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته ، لفضلهم … " . وخص جبريل بالذكر مع أنه من الملائكة ، للتنويه بمزيد فضله ، فهو أمين الوحى ، والمبلغ عن الله - تعالى - إلى رسله . هذا ، ومما يدل على أن الخطاب فى قوله - تعالى - { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } ، لحفصة وعائشة ، ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس أنه قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللتين قال الله - تعالى - فيهما { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } . فلما كان ببعض الطريق … قلت يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - اللتان قال الله تعالى - فيهما { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } . فقال عمر واعجبا لك يا ابن عباس … هما حفصة وعائشة . ثم أضاف - سبحانه - إلى تكريمه لنبيه تكريما آخر ، وإلى تهديده لمن تسىء إليه من أزواجه تهديدا آخر فقال - تعالى - { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } . قال الجمل ما ملخصه سبب نزولها أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أشاعت حفصة ما أسرها به ، اغتم - صلى الله عليه وسلم - وحلف أن لا يدخل عليهن شهرا مؤاخذة لهن . ولما بلغ عمر - رضى الله عنه - أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد اعتزل نساءه … قال له يا رسول الله لا يشق عليك أمر النساء ، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك . قال عمر وقلما تكلمت بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولى الذى أقوله فنزلت هذه الآية . فاستأذن عمر النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له فقام على باب المسجد ، ونادى بأعلى صوته لم يطلق النبى - صلى الله عليه وسلم - نساءه . و { عَسَىٰ } كلمة تستعمل فى الرجاء ، والمراد بها هنا التحقيق ، لأنها صادرة عن الله - عز وجل - . قال الآلوسى { عَسَىٰ } فى كلامه - تعالى - للوجوب ، وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط وقيل هى كذلك إلا هنا ، والشرط معترض بين اسم { عَسَىٰ } وخبرها . والجواب محذوف . أى إن طلقكن فعسى … و { أَزْوَاجاً } مفعلو ثان لـ { يُبْدِلَ } و { خَيْراً } صفته … أى عسى إن طلقكن رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بإذن ربه ومشيئته ، أن يبدله - سبحانه - أزواجا خيرا منكن . ثم وصف - سبحانه - هؤلاء الأزواج بقوله { مُسْلِمَاتٍ } منقادات ومطيعات لله ولرسوله ، ومتصفات بكل الصفات التى أمر بها الإِسلام . { مُّؤْمِنَاتٍ } أى مذعنات ومصدقات بقلوبهن لكل ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه . { قَانِتَاتٍ } أى قائمات بالطاعة لله ولرسوله على أكمل وجه . { تَائِبَاتٍ } أى مقلعات عن الذنوب والمعاصى ، وإذا مسهن شىء منها ندمن وتبن إليه - تعالى - توبة صادقة نصوحا . { عَابِدَاتٍ } أى مقبلات على عبادته - تعالى - إقبالا عظيما . { سَائِحَاتٍ } أى ذاهبات فى طاعة الله أى مذهب ، من ساح الماء إذا سال فى انحاء متعددة ، وقيل معناه مهاجرات . وقيل صائمات . تشبيها لهن بالسائح الذى لا يصحب معه الزاد غالبا فلا يزال ممسكا عن الطعام حتى يجده . { ثَيِّبَاتٍ } جمع ثيب - بوزن سيد - وهى المرأة التى سبق لها الزواج ، من ثاب يثوب ثوبا ، إذا رجع ، وسميت المرأة التى سبق لها الزواج بذلك . لأنها ثابت إلى بيت أبويها بعد زواجها ، أو رجعت إلى زوج آخر غير زوجها الأول . { وَأَبْكَاراً } جمع بكر ، وهى الفتاة العذراء التى لم يسبق لها الزواج ، وسميت بذلك لأنها لا تزال على أول حالتها التى خلقت عليها . وهذه الصفات جاءت منصوبة على أنها نعت لقوله { أَزْوَاجاً } . أو حال . ولم يعطف بعضها على بعض بالواو ، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن . وعطف - سبحانه - { وَأَبْكَاراً } على ما قبله لتنافى الوصفين ، إذ الثيبات لا يوصفن بالأبكار ، وكذلك الأبكار لا يوصفن بالثيبات ، ولا يجتمع الوصفان فى ذات واحدة . قال صاحب الكشاف فإن قلت كيف تكون المبدلات خيراً منهن ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين ؟ قلت إذا طلقهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعصيانهن له ، وإيذائهن إياه ، لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنزول على هداه ورضاه خيرا منهن . فإن قلت لم أخليت الصفات كلها من العاطف ، ووسط بين الثبات والأبكار ؟ قلت لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات فيهن ، فلم يكن بد من الواو . هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها ترسم جانبا من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أزواجه ، وهذا الجانب فيه ما فيه من العظات التى من أبرزها تكريم الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وإرشاده إلى ما هو أهدى وأقوم ، وسمو أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - فى معاملته لأهله ، وتحذير أزواجه من أن يتصرفن أى تصرف لا يرغب فيه ، ولا يميل إليه وتعليم المؤمنين والمؤمنات - فى كل زمان ومكان - كيف تكون العلاقة الطيبة بين الرجال والنساء . ثم وجه - سبحانه - بعد ذلك نداءين إلى المؤمنين ، أمرهم فى أولهما أن يؤدوا واجبهم نحو أنفسهم ونحو أهليهم ، حتى ينجو من عذاب النار ، وأمرهم فى ثانيهما بالمداومة على التوبة الصادقة النصوح ، ووجه نداء إلى الكافرين بين لهم فيه سوء عاقبة كفرهم ، ثم وجه - سبحانه - نداء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أمره فيه بأن يجاهد الكفار والمنافقين جهاداً مصحوبا بالغلظة والخشونة … فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .