Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 1-4)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لفظ { تَبَارَكَ } فعل ماض لا ينصرف . وهو مأخوذ من البَركة ، بمعنى الكثرة من كل خير . وأصلها النماء والزيادة أى كثر خيره وإحسانه ، وتزايدت بركاته . أو مأخوذ من البركة بمعنى الثبوت . يقال برك البعير ، إذا أناخ فى موضعه فلزمه وثبت فيه . وكل شئ ثبت ودام فقد برك . أى ثبت ودام خيره على خلقه . والملك - بضم الميم وسكون اللام - السلطان والقدرة ونفاذ الأمر . أى جل شأن الله - تعالى - وكثر خيره وإحسانه ، وثبت فضله على جميع خلقه ، فهو - سبحانه - الذى بيده وقدرته التمكن والتصرف فى كل شئ على حسب ما يريد ويرضى ، وهو - عز وجل - الذى لا يعجزه أمر فى الأرض أو فى السماء . واختار - سبحانه - الفعل " تبارك " للدلالة على المبالغة فى وفرة العظمة والعطاء ، فإن هذه الصيغة ترد للكناية عن قوة الفعل وشدته … كما فى قولهم تواصل الخير ، إذا تتابع بكثرة مع دوامه … والتعريف فى لفظ " الملك " للجنس . وتقديم المسند وهو " بيده " على المسند إليه ، لإِفادة الاختصاص . أى بيده وحده لا بيد أحد سواه جميع أنواع السلطان والقدرة ، والأمر والنهى … قال الإِمام الرازى وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكا ومالكا ، تقول بيد فلان الأمر والنهى ، والحل والعقد . وذكر اليد إنما هو تصوير للإِحاطة ولتمام قدرته ، لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة … وجملة { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } معطوفة على قوله { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } الذى هو صلة الموصول ، وذلك لإِفادة التعميم بعد التخصيص ، لأن الجملة الأولى وهى { ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } أفادت عموم تصرفه فى سائر الموجودات ، وهذه أفادت عموم تصرفه - سبحانه - فى سائر الموجودات والمعدومات ، إذ بيده - سبحانه - إعدام الموجود ، وإيجاد المعدوم . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ، ما يدل على شمول قدرته ، وسمو حكمته ، فقال { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً … } . والموت صفة وجودية تضاد الحياة والمراد بخلقه إيجاده . أو هو عدم الحياة عما هى من شأنه . والمراد بخلقه على هذا المعنى تقديره أزلا . واللام فى قوله { لِيَبْلُوَكُمْ … } متعلقة بقوله { خَلَقَ } وقوله { لِيَبْلُوَكُمْ } بمعنى يختبركم ويمتحنكم … وقوله { أَيُّكُمْ } مبتدأ ، و { أَحْسَنُ } خبره ، و { عَمَلاً } تمييز ، والجملة فى محل نصب مفعول ثان لقوله { لِيَبْلُوَكُمْ } . والمعنى ومن مظاهر قدرته - سبحانه - التى لا يعجزها شئ ، أنه خلق الموت لمن يشاء إماتته ، وخلق الحياة لمن يشاء إحياءه ، ليعاملكم معاملة من يختبركم ويمتحنكم ، أيكم أحسن عملا فى الحياة ، لكى يجازيكم بما تستحقونه من ثواب … أو المعنى خلق الموت والحياة ، ليختبركم أيكم أكثر استعدادا للموت ، وأسرع إلى طاعة ربه - عز وجل - . قال القرطبى ما ملخصه قوله { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } … قيل الذى خلقكم للموت والحياة ، يعنى للموت فى الدنيا والحياة فى الآخرة . وقدم الموت على الحياة ، لأن الموت إلى القهر أقرب … وقيل لأنه أقدم ، لأن الأشياء فى الابتداء كانت فى حكم الموت … وقيل لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل ، من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع على الغرض الذى سيقت له الآية أهم . قال قتادة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله - تعالى - أذل ابن آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ، ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء … " . وعن أبى الدرداء أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت ، وإنه مع ذلك لوَثَّاب … " . وقال العلماء الموت ليس بعدم محض ، ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال ، وانتقال من دار إلى دار ، والحياة عكس ذلك … وأوثر بالذكر من المخلوقات الموت والحياة ، لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان ، الذى هو أعجب موجود على ظهر الأرض ، والذى الإِنسان نوع منه ، وهو المقصود بالمخاطبة ، إذ هو الذى رضى بحمل الأمانة التى عجزت عن حملها السموات والأرض … والتعريف فى الموت والحياة للجنس . و " أحسن " أفعل تفضيل ، لأن الأعمال التى يقوم بها الناس فى هذه الحياة متفاوته فى الحسن من الأدنى إلى الأعلى . وجملة { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } تذييل قصد به أن جميع الأعمال تحت قدرته وتصرفه . أى وهو - سبحانه - الغالب الذى لا يعجزه شئ الواسع المغفرة لمن شاء أن يغفر له ويرحمه من عباده ، كما قال - تعالى - { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } ثم بين - سبحانه - مظهرا آخر من مظاهر قدرته التى لا يعجزها شئ فقال { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً … } . والجملة الكريمة صفة للعزيز الغفور ، أو عطف بيان أو بدل ، أو خبر لمبتدأ محذوف . وطباقا صفة لسبع سموات . وهى مصدر طابَق مطابقة وطباقا ، من قولك طابق فلان النعل ، إذا جعله طبقة فوق أخرى ، وهو جمع طبَق ، كجبل وجبال ، أو جمع طبقة كرَحبة ورحاب … أى هو - سبحانه - لا غيره الذى أوجد وخلق على غير مثال سابق سبع سموات متطابقة ، أى بعضها فوق بعض ، بطريقة متقنة محكمة … لا يقدر على خلقها بتلك الطريقة إلا هو ، ولا يعلم كنه تكوينها وهيئاتها … أحد سواه - عز وجل - . وقوله - سبحانه - { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } مؤكد لما قبله ، والتفاوت مأخوذ من الفوت ، وأصله الفرجة بين الإِصبعين . تقول تفاوت الشيئان تفاوتا ، إذا حدث تباعد بينهما ، والجملة صفة ثانية لسبع سماوات ، أو مستأنفة لتقرير وتأكيد ما قبلها … والخطاب لكل من يصلح له . أى هو - سبحانه - الذى خلق سبع سماوات بعضها فوق بعض ، مع تناسقها ، وإتقان تكوينها ، وإحكام صنعها … بحيث لا ترى - أيها العاقل - فى خلق السموات السبع شيئا من الاختلاف ، أو الاضطراب ، أو عدم التناسب … بل كلها محكمة ، جارية على مقتضى نهاية النظام والإِبداع . وقال - سبحانه - { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ … } ولم يقل ما ترى فى السموات السبع من تفاوت ، للإِشعار بأن هذا الخلق البديع ، هو ما اقتضته رحمته - تعالى - بعباده ، لكى تجرى أمورهم على حالة تلائم نظام معيشتهم … وللتنبيه - أيضا - على أن جميع مخلوقاته تسير على هذا النمط البديع فى صنعها وإيجادها ، كما قال - تعالى - { صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وكما قال - سبحانه - { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ … } قال صاحب الكشاف قوله { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } أى من اختلاف واضطراب فى الخلقة ولا تناقض ، إنما هى مستوية ومستقيمة ، وحقيقة التفاوت عدم التناسب ، كأن بعض الشئ يفوت بعضا ولا يلائمه ، ومنه قولهم خلق متفاوت ، وفى نقيضه متناصف . فإن قلت ما موقع هذه الجملة مما قبلها ؟ قلت هى صفة مشايعة لقوله { طِبَاقاً } وأصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله { خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } تعظيما لخلقهن ، وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه يباهر قدرته هو الذى يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب … ثم ساق - سبحانه - بأسلوب فيه ما فيه من التحدى ، ما يدل على أن خلقه خال من التفاوت والخلل فقال { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ . ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } و { الفطور } جمع فَطْر ، وهو الشق والصدع ، يقال فطر فلان الشئ فانفطر ، إذا شقه ، وبابه نصر . وقوله { كَرَّتَيْنِ } مثنى كرَّة ، وهى المرة من الكَرّ ، وهو الرجوع إلى الشئ مرة أخرى ، يقال كر المقاتل على عدوه ، إذا عاد إلى مهاجمته بعد أن تركه . والمراد بالكرتين هنا معاودة النظر وتكريره كثيرا ، بدون الاقتصار على المرتين ، فالتثنية هنا كناية عن مطلق التكرير ، كما فى قولهم لبيك وسعديك . وقوله { خَاسِئاً } أى صاغراً خائبا لأنه لم يجد ما كان يطلبه ويتمناه . وقوله { حَسِيرٌ } بمعنى كليل ومتعب ، من حسَر بصرُ فلان يَحسُر حسورا إذا كَلَّ وتعب من طول النظر والتأمل والفحص ، وفعله من باب قعد . والمعنى ما ترى - أيها الناظر - فى خلق الرحمن من تفاوت أو خلل … فإن كنت لا تصدق ما أخبرناك به ، أو فى أدنى شك من ذلك ، فكرر النظر فيما خلقنا حتى يتضح لك الأمر ، ولا يبقى عندك أدنى شك أو شبهه . والاستفهام فى قوله { هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } للتقرير أى إنك مهما نظرت فى خلق الرحمن . وشددت فى التفحص والتأمل … فلن ترى فيه من شقوق أو خلل أو تفاوت … وقوله { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } تعجيز إثر تعجيز ، وتحد فى أعقاب تحد … أى ثم لا تكتف بإعادة النظر مرة واحدة ، فربما يكون قد فاتك شئ فى النظرة الأولى والثانية … بل أعد النظر مرات ومرات … فتكون النتيجة التى لا مفر لك منها ، أن بصرك - بعد طول النظر والتأمل - ينقلب إليك خائبا وهو كليل متعب … لأنه - بعد هذا النظر الكثير - لم يجد فى خلقنا شيئا من الخلل أو الوهن أو التفاوت . قال صاحب الكشاف ما ملخصه قوله { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } أى إن رجعت البصر ، وكررت النظر ، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل ، وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور … أى بالبعد عن إصابة الملتمس . فإن قلت كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين ؟ قلت معنى التثنية هنا التكرير بكثرة كقولك لبيك وسعديك … فإن قلت فما معنى { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ } ؟ قلت أمره برجع البصر ، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى ، وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها ، ويُجِم بصره ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يَحْسِر بصرُه من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شئ من فطور … هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يراها قد ساقت ما يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته بأبلغ أسلوب ، ودعت الغافلين الذين فسقوا عن أمر ربهم ، إلى التدبر فى هذا الكون الذى أوجده - سبحانه - فى أبدع صورة وأتقنها ، فإن هذا التدبر من شأنه أن يهدى إلى الحق ، ويرشد إلى الصواب … ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك أدلة أخرى على وحدانيته وقدرته ، وبين ما أعده للكافرين من عذاب ، بسبب إصرارهم على كفرهم … فقال - تعالى - { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ … }