Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 5-11)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال الإِمام الرازى اعلم أن هذا هو الدليل الثانى على كونه - تعالى - قادرا عالما ، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار معين ، وموضع خاص ، وسير معين ، تدل على أن صانعها قادر . ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد ، ومن كونها زينة لأهل الدنيا ، وسببا لانتفاعهم بها ، تدل على أن صانعها عالم . ونظير هذه الآية قوله - تعالى - فى سورة الصافات { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ . وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } وقوله { زَيَّنَّا } من التزيين بمعنى التحسين والتجميل . و { ٱلدُّنْيَا } صيغة تفضيل من الدنو بمعنى القرب . والمصابيح جمع مصباح وهو السراج المضئ . والمراد بها النجوم . وسميت بالمصابيح على التشبيه بها فى حسن المنظر ، وفى الإضاءة ليلا … والرجوم جمع رَجْم ، وهو فى الأصل مصدر رَجَمه رَجْماً - من باب نصر - إذا رماه بالرِّجام أى بالحجارة ، فهو اسم لما يُرْجَم به ، أى ما يَرْمِى به الرامى غيرَه من حجر ونحوه ، تسمية للمفعول بالمصدر ، مثل الخَلْق بمعنى المخلوق . وصدرت الآية الكريمة بالقسم ، لإِبراز كال العناية بمضمونها . والمعنى وبالله لقد زينا وجملنا السماء القريبة منكم بكواكب مضيئة كإضاءة السُّرُجِ ، وجعلنا - بقدرتنا - من هذه الكواكب ، ما يرجم الشياطين ويحرقها ، إذا ما حاولوا أن يسترقوا السمع ، كما قال - تعالى - { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } قال الإِمام ابن كثير قوله { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } عاد الضمير فى قوله { وَجَعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح لاعلى عينها ، لأنه لا يرمى بالكواكب التى فى السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها - والله أعلم - . قال قتادة إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال خلقها زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به … فالضمير فى قوله { وَجَعَلْنَاهَا } يعود إلى المصابيح ، ومنه من أعاده إلى السماء الدنيا ، على تقدير وجعلنا منها رجوما للشياطين الذين يسترقون السمع . وقوله - تعالى - { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } بيان لسوء مصيرهم فى الآخرة ، بعد بيان سوء مصيرهم فى الدنيا عن طريق إحراقهم بالشهب . أى وهيأنا لهؤلاء الشياطين فى الآخرة - بعد إحراقهم فى الدنيا بالشهب - عذاب النار المشتعلة المستعرة . فالسعير - بزنة فعيل - اسم لأشد النار اشتعالا . يقال سعر فلان النار - كمنع - إذا أوقدها بشدة . وكان السعير عذابا للشياطين - مع أنهم مخلوقون من النار ، لأن نار جهنم أشد من النار التى خلقوا منها ، فإذا ألقوا فيها صارت عذابا لهم ، إذ السعير أشد أنواع النار التهابا واشتعالا وإحراقا . . وقوله { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } معطوف على ما قبله . أى هيأنا للشياطين عذاب السعير ، وهيأنا - أيضا - للذين كفروا بربهم من الإِنس عذاب جهنم ، وبئس المصير عذاب جهنم . ثم بين - سبحانه - أحوالهم الأليمة حينما يلقون جميعا فى النار فقال { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ … } والظرف " إذا " متعلق بقوله { سَمِعُواْ } والشهيق تردد النفس فى الصدر بصعوبة وعناء … أى أن هؤلاء الكافرين بربهم ، عندما يلقون فى النار ، يسمعون لها صوتا فظيعا منكرا ، { وَهِيَ تَفُورُ } أى وحالها أنها تغلى بهم غليان المرجل بما فيه ، إذا الفوز شدة الغليان ، ويقال ذلك فى النار إذا هاجت ، وفى القدر إذا غلت … { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } أى تكاد النار تتقطع وينفصل بعضها عن بعض ، لشدة غضبها عليهم ، والتهامها لهم ، وتميز أصله تتميز فحذفت إحدى التاءين تخفيفا . والغيظ أشد الغضب ، والجملة فى محل نصب على الحال ، أو فى محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف . أى هى تكاد تتقطع من شدة غضبها عليهم … وقوله { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ … } كلام مستأنف لبيان حال أهلها . والفوج الجماعة من الناس ولفظ { كلما } مركب من كل الدال على الشمول ، ومن ما المصدرية الظرفية . أى فى كل وقت وآن ، يلقى بجامعة من الكافرين فى النار ، يسألهم خزنتها من الملائكة ، سؤال تبكيت وتقريع ، بقولهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } أى ألم يأتكم يا معشر الكافرين نذير فى الدنيا ، ينذركم ويخوفكم من أهوال هذا اليوم ، ويدعوكم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده . ثم حكى - سبحانه - ما رد به الكافرون على خزنة جهنم فقال { قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ … } . أى قال الكافرون - على سبيل التحسر والتفجع - فى ردهم على خزنة جهنم بلى لقد جاءنا المنذر الذى أنذرنا وحذرنا من سوء عاقبة الكفر … ولكننا كذبناه ، وأعرضنا عن دعوته ، بل وتجاوزنا ذلك بأن قلنا له على سبيل العناد والجحود والغرور ما نزل الله على أحد من شئ من الأشياء التى تتلوها علينا ، وتأمرنا بها ، أو تنهانا عن مخالفتها . وقوله { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } يحتمل أنه من كلام الكافرين لرسلهم الذين أنذروهم وحذروهم من الإِصرار على الكفر . أى جاءنا الرسل الذين أنذرونا … فكذبناهم ، وقلنا لهم ما نزل الله من شئ من الأشياء على ألسنتكم … وقلنا لهم - أيضا - ما أنتم إلا فى ضلال كبير ، أى فى ذهاب واضح عن الحق ، وبعدٍ شديد عن الصواب . ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة ، أى قال لهم الملائكة على سبيل التجهيل والتوبيخ ما أنتم - أيها الكافرون - إلا فى ضلال كبير ، بسبب تكذيبكم لرسلكم ، وإعراضكم عمن حذركم وأنذركم . قال صاحب الكشاف فإن قلت { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } من المخاطبون به ؟ قلت هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين ، على أن النذير بمعنى الإِنذار . والمعنى ألم يأتكم أهل نذير أو وصف به منذروهم لغلوهم فى الإِنذار ، كأنهم ليسوا إلا إنذارا … ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم فى الدنيا ، أو أرادوا بالضلال الهلاك … وجمع - سبحانه - الضمير فى قوله { إِنْ أَنتُمْ … } مع أن الملائكة قد سألوهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } بالإِفراد ، للإِشعار بأن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بتكذيب النذير الذى أنذرهم ، بل كذبوه وأتباعه الذين آمنوا به . فكأن كل فوج منهم كان يقول للرسول الذى جاء لهدايته أنت وأتباعك فى ضلال كبير . ثم بين - سبحانه - جانبا آخر من حسراتهم فى هذا اليوم فقال { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ … } . أى وقال الكافرون بربهم - على سبيل الحسرة والندامة - لو كنا فى الدنيا نسمع ما يقال لنا على لسان رسولنا ، سماع طاعة وتفكر واستجابة ، أو نعقل ما يوجه إلينا من هدايات وإرشادات … لو كنا كذلك ، ما صرنا فى هذا اليوم من جملة أصحاب النار المسعرة ، الذين هم خالدون فيها أبدا . وقدم - سبحانه - السماع على التعقل ، مراعاة للترتيب الطبيعى ، لأن السماع يكون أولا ، ثم يعقبه التعقل والتدبر لما يسمع . والفاء الأولى فى قوله - تعالى - { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } للإِفصاح ، والثانية للسببية ، والسُّحقُ البُعد ، يقال سَحُق - ككَرم وعَلِم - سُحقا ، أى بَعُدَ بُعْداً ، وفلان أسحقه الله ، أى أبعده عن رحمته ، وهو مصدر ناب عن فعله فى الدعاء ، ونصبه على أنه مفعول به لفعل مقدر ، أى ألزمهم الله سحقا ، أو منصوب على المصدرية ، أى فسحقهم الله سحقا . أى إذا كان الأمر كما أخبروا عن أنفسهم ، فقد أقروا واعترفوا بذنوبهم ، وأن الله - تعالى - ما ظلمهم ، وأن ندمهم لن ينفعهم فى هذا اليوم … بل هم جديرون بالدعاء عليهم بالطرد من رحمة الله - تعالى - وبخلودهم فى نار السعير . واللام فى قوله { لأَصْحَابِ } للتبيين ، كما فى قولهم سَقياً لك . فالآية الكريمة توضح أن ما أصابهم من عذاب كان بسبب إقرارهم بكفرهم ، وإصرارهم عليه حتى الممات ، وفى الحديث الشريف " لن يدخل أحد النار ، إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة " وفى حديث آخر " لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم " . وكعادة القرآن الكريم فى قرنه الترغيب بالترهيب أو العكس ، أخذت السورة فى بيان حسن عاقبة المؤمنين ، بعد بيان سوء عاقبة الكافرين ، وفى لفت أنظار الناس إلى نعم الله - تعالى - عليهم ، لكى يشكروه ويخلصوا له العبادة … قال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ … } .