Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 68, Ayat: 1-16)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
افتتحت سورة " القلم " بأحد الحروف المقطعة ، وهى آخر سورة فى ترتيب المصحف ، افتتحت بواحد من هذه الحروف . أما بالنسبة لترتيب النزول ، فقد تكون أول سورة نزلت على النبى صلى الله عليه وسلم فى السور المفتتحة بالحروف المقطعة . وقد قلنا عند تفسيرنا لسورة البقرة وردت هذه الحروف المقطعة تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة ، أو أربعة ، أو خمسة . فالسور التى بدئت بحرف واحد ثلاث سور وهى ص ، ق ، ن . والسور التى بدئت بحرفين تسع سور وهى طه ، يس ، طس ، وحم ، فى ست سور ، وهى غافر ، فصلت ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف . والسور التى بدئت بثلاثة أحرف ، ثلاث عشرة سورة وهى " ألم " فى ست سور ، وهى البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة . و { الر } فى خمس سور وهى يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر . و { طسم } فى سورتين وهما الشعراء ، والقصص . وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما الرعد ، " المر " ، والأعراف " المص " . وهناك سورتان - أيضا - بدئتا بخمسة أحرف ، وهما " مريم " " كهيعص " والشورى " حم عسق " فيكون مجموع السور التى افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة . هذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم فى رأيين رئيسيين الرأى الأول يرى أصحابه أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهى من المتشابه الذى استأثر الله - تعالى - بعلمه . وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى بعض الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى ، وسفيان الثورى وغيرهم من العلماء . فقد أخرج ابن المنذر عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال إن لكل كتاب سرا ، وإن سر هذا القرآن فى فواتح السور . ويروى عن ابن عباس أنه قال عجزت العلماء عن إدراكها . وعن على بن أبى طالب أنه قال " إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة الكتاب حروف التهجى " . وفى رواية أخرى عن الشعبى أنه قال " سر الله فلا تطلبوه " ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى ، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها . وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ ، لم ينتف الإِفهام عنها عند كل أحد ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين ، ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور . وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى ، يضيق المجال عن ذكرها . أما الرأى الثانى فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله - تعالى - بعلمه . وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى أ - أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " ، وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة " ص " وسورة " يس " . ولايخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه . ب - وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة ، للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى . جـ - وقيل إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله - تعالى - ، وبعضها من صفاته ، فمثلا { ألم } أصلها أنا الله أعلم . د - وقيل إنها اسم الله الأعظم . إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلوا من مقال ، والتى أوصلها الإِمام السيوطى فى كتابه " الإِتقان " إلى أكثر من عشرين قولا . هـ - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال إن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت فى افتتاح بعض السور ، للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى الله به المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والبلاغة ، مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة . وفضلا عن ذلك ، فإن تصدير هذه السور بمثل هذه الحروف المقطعة ، يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم ، إلى الإِنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم . وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكما وحججا قد تكون سببا فى هدايتهم واستجابتهم للحق . هذه خلاصة لآراء العلماء فى الحروف المقطعة ، التى افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب " البرهان " للزركشى . وكتاب " الإِتقان " للسيوطى ، وتفسير " الآلوسى " . ولفظ " ن " على الرأى الذى رجحناه ، يكون إشارة إلى إعجاز القرآن … وقيل هو من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه … وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى ، لا يعتمد عليها لضعفها ، ومن ذلك قولهم إن " نون " اسم لحوت عظيم … أو اسم للدواة … وقيل " نون " لوح من نور … والواو فى قوله { وَٱلْقَلَمِ } للقسم ، والمراد بالقلم جنسه ، فهو يشمل كل قلم يكتب به و " ما " فى قوله { وَمَا يَسْطُرُونَ } موصولة أو مصدرية . و { يَسْطُرُونَ } مضارع سطر - من باب نصر - ، يقال سطر الكتاب سطرا ، إذا كتبه ، والسطر الصف من الشجر وغيره ، وأصله من السطر بمعنى القطع ، لأن صفوف الكتابة تبدو وكأنها قطع متراصة . وجواب القسم قوله { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } . أى وحق القلم الذى يكتب به الكاتبون من مخلوقاتنا المتعددة ، إنك - أيها الرسول الكريم - لمبرأ مما اتهمك به أعداؤك من الجنون ، وكيف تكون مجنونا وقد أنعم الله - تعالى - عليك بالنبوة والحكمة . فالمقصود بالآيات الكريمة تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المشركين ، ودفع تهمهم الباطلة دفعا يأتى عليها من القواعد فيهدمها ، وإثبات أنه رسول من عنده - تعالى - . وأقسم - سبحانه - بالقلم ، لعظيم شرفه ، وكثرة منافعه ، فبه كتبت الكتب السماوية ، وبه تكتب العلوم المفيدة … وبه يحصل التعارف بين الناس … وصدق الله إذ يقول { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ . ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ . عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال القرطبى أقسم - سبحانه - بالقلم . لما فيه من البيان كاللسان . وهو واقع على كل قلم مما يَكتب به من السماء مَن فى الأرض ، ومنه قول أبى الفتح البستى @ إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم وعدُّوه مما يُكْسِبُ المجد والكرَمْ كفى قلم الكتاب عزا ورفعة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلَمْ @@ والضمير فى قوله { يَسْطُرُونَ } راجع إلى غير مذكور فى الكلام ، إلا أنه معلوم للسامعين ، لأن ذكر القلم يدل على أن هناك من يكتب به . ونفى - سبحانه - عنه صلى الله عليه وسلم الجنون بأبلغ أسلوب ، لأن المشركين كانوا يصفونه بذلك ، قال - تعالى - . { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } قال الآلوسى قوله { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } . جواب القسم ، والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفى . ومجنون خبر ما ، والباء الأولى للملابسة ، والجار والمجرور فى موضع الحال من الضمير فى الخبر ، والعامل فيها معنى النفى . والمعنى انتفى عنك الجنون فى حال كونك ملتبسا بنعمة ربك أى منعما عليك بما أنعم من حصافة الرأى ، والنبوة … وفى إضافته صلى الله عليه وسلم إلى الرب - عز وجل - مزيد إشعار بالتسلية والقرب والمحبة . ومزيد إشعار - أيضا - بنفى ما افتراه الجاهلون من كونه صلى الله عليه وسلم مجنونا ، لأن هذه الصفة لا تجتمع فى عبد أنعم الله - تعالى - عليه ، وقربه ، واصطفاه لحمل رسالته وتبليغ دعوته . ثم بشره - سبحانه - ببشارة ثانية فقال { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } . وقوله { مَمْنُونٍ } مأخوذ من المن بمعنى القطع ، تقول مننت الحبل ، إذا قطعته ، ويصح أن يكون من المن ، بمعنى أن يعطى الإِنسان غيره عطية ثم يفتخر بها عليه ، ومنه قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ … } أى وإن لك - أيها الرسول الكريم - عندنا ، لأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا نحن ، وهذا الأجر غير مقطوع بل هو متصل ودائم وغير ممنون . وهذه الجملة الكريمة وما بعدها ، معطوفة على جملة جواب القسم ، لأنهما من جملة المقسم عليه … ثم أثنى - سبحانه - عليه بأجمل ثناء وأطيبه فقال { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } . والخلق - كما يقول الإِمام الرازى - ملكه نفسانية ، يسهل على المتصف بها الإِتيان بالأفعال الجميلة … و … والعظيم الرفيع القدر ، الجليل الشأن ، السامى المنزلة . أى وإنك - أيها الرسول الكريم - لعل دين عظيم ، وعلى خلق كريم ، وعلى سلوك قويم ، فى كل ما تأتيه وما تتركه من أقوال وأفعال … والتعبير بلفظ " على " يشعر بتمكنه صلى الله عليه وسلم ورسوخه فى كل خلق كريم . وهذا أبلغ رد على أولئك الجاهلين الذين وصفوه بالجنون ، لأن الجنون سفه لا يحسن معه التصرف . أما الخلق العظيم ، فهو أرقى منازل الكمال ، فى عظماء الرجال . وإن القلم ليعجز عن بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة ، من ثناء من الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه قال قتادة ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل السيدة عائشة عن معنى هذه الآية فقالت ألست تقرأ القرآن ؟ قال بلى . قالت فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن … ومعنى هذا ، أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمرا ونهيا ، سجية له وخلقا وطبعا ، فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه ، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق الكريم ، كالحكمة ، والعفة ، والشجاعة ، والعدالة … وكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم جماع كل خلق عظيم وهو القائل " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " . ثم بشره - سبحانه - ببشارات أخرى فقال { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ . بِأَيِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } . والفاء فى قوله { فَسَتُبْصِرُ … } للتفريع على ما تقدم من قوله { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } والفعل " تبصر ويبصرون " من الإِبصار الذى هو الرؤية بالعينين ، وقيل بمعنى العلم … والسين فى { فَسَتُبْصِرُ … } للتأكيد . والباء فى قوله { بِأَيِّكُمُ … } يرى بعضهم أنها بمعنى فى . والمفتون اسم مفعول ، وهو الذى أصابته فتنة . أدت إلى جنونه ، والعرب كانوا يقولون للمجنون فتنته الجن . أو هو الذى اضطرب أمره واختل تكوينه وضعف تفكيره … كأولئك المشركين الذين قالوا فى النبى صلى الله عليه وسلم أقوالا لا يقولها عاقل … أى لقد ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - أنك بعيد عما اتهمك به الكافرون ، وأن لك عندنا المنزلة التى ليس بعدها منزلة . . وما دام الأمر كذلك فسترى وسنعلم ، وسيرى وسيعلم هؤلاء المشركون ، فى أى قريق منكم الإِصابة بالجنون ؟ أفى فريق المؤمنين أم بفريق الكافرين … قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه قوله { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } قال ابن عباس فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل ، وقيل فى الدنيا بظهور عاقبة أمرك … { بِأَيِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } الباء مزيدة فى المبتدأ ، والتقدير أيكم المفتون ، فزيدت الباء كزيادتها فى نحو بحسبك درهم … وقيل الباء بمعنى " فى " الظرفية ، كقولك زيد بالبصرة . أى فيها . والمعنى فى أى فرقة منكم المفتون . وقيل المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور . أى ، بأيكم الفتون … وجملة { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ … } تعليل لما ينبئ عنه ما قبله من ظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد ، وتأكيد لوعده صلى الله عليه وسلم بالنصر ، ولوعيدهم بالخيبة والخسران . أى إن ربك - أيها الرسول الكريم - الذى خلقك فسواك فعدلك ، هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وبمن أعرض عن طريق الحق والصواب … وهو - سبحانه - أعلم بالمهتدين الذين اهتدوا إلى ما ينفعهم ويسعدهم فى دنياهم وآخرتهم … وما دام الأمر كذلك فذرهم فى طغيانهم يعمهون ، وسر فى طريقك ، فستكون العاقبة لك ولأتباعك . ثم أرشده - سبحانه - إلى جانب من مسالكهم الخبيثة ، وصفاتهم القبيحة ، وحذره من الاستجابة إلى شئ من مقترحاتهم ، فقال { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ . وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } وقوله { وَدُّواْ } من الود بمعنى المحبة . وقوله { تُدْهِنُ } من الإِدهان وهى المسايرة والمصانعة والملاينة للغير . وأصله أن يجعل على الشئ دهنا لكى يلين أو لكى يحسن شكله ، ثم استعير للملاينة والمساهلة مع الغير . أى إن ربك - أيها الرسول الكريم - لا يخفى عليه شئ من أحوالك وأحوالهم ، وما دام الأمر كذلك ، فاحذر أن تطيع هؤلاء المكذبين فى شئ مما يقترحونه عليك ، فإنهم أحبوا وودوا أن تقبل بعض مقترحاتهم ، وأن تلاينهم وتطاوعهم فيما يريدون منك … وهم حينئذ يظهرون لك من جانبهم الملاينة والمصانعة … حتى لكأنهم يميلون نحو الاستجابة لك ، وترك إيذائك وإيذاء أصحابك . فالآية الكريمة تشير إلى بعض المساومات التى عرضها المشركون على النبى صلى الله عليه وسلم وما أكثرها ، ومنها ما ذكره ابن إسحاق فى سيرته من أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت فى الأمر ، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه ، فنزلت سورة " الكافرون " . ومنها ما دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين الوليد بن المغيرة تارة ، وبينه وبين عتبة بن ربيعة تارة أخرى … مما هو معروف فى كتب السيرة . ولقد " قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب عندما نصحه بأن يترك المشركين وشأنهم ، وقال له يا ابن أخى أشفق على نفسك وعلى ، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق . قال له صلى الله عليه وسلم يا عماه ، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى ، والقمر فى يسارى . على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه … " . والتعبير بقوله { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } يشير إلى أن الملاينة والمصانعة كانت منهم ، لا منه صلى الله عليه وسلم ، فهم الذين كانوا يحبون منه أن يستجيب لمقترحاتهم ، لكى يقابلوا ذلك بالتظاهر بأنهم على صلة طيبة به وبأصحابه . قال صاحب الكشاف قوله { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم ، وكانوا قد أرادوا على أن يعبد الله مدة ، وآلهتهم مدة ، ويكفوا عن غوائلهم . وقوله { لَوْ تُدْهِنُ } لو تلين وتصانع { فَيُدْهِنُونَ } . فإن قلت لماذا رفع " فيدهنون " ولم ينصب بإضمار " أن " وهو جواب التمنى ؟ قلت قد عدل إلى طريق آخر ، وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف . أى فهم يدهنون ، كقوله { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون … ثم يكرر - سبحانه - النهى للنبى صلى الله عليه وسلم عن طاعة كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم … فيقول { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ . هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ . مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } . وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآيات الكريمة ، نزلت فى الوليد بن المغيرة … وقيل إنها نزلت فى الأخنس بن شريق … والآيات الكريمة يشمل النهى فيها كل من هذه صفاته ، ويدخل فيها الوليد بن المغيرة ، والأخنس بن شريف … دخولا أوليا . أى ولا تطع - أيها الرسول الكريم - كل من كان كثير الحلف بالباطل ، وكل من كان مهينا ، أى حقير ذليلا وضيعا . من المهانة ، وهى القلة فى الرأى والتمييز . { هَمَّازٍ } أى عياب للناس ، أو كثير الاغتياب لهم ، من الهمز ، وأصله الطعن فى الشئ بعود أو نحوه ، ثم استعير للذى يؤذى الناس بلسانه وبعينه وبإشارته ، ويقع فيهم بالسوء ، ومنه قوله - تعالى - { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } { مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } أى نقال للحديث السَّيَّئ لكى يفسد بين الناس … والنميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإِفساد . يقال نَمَّ فلان الحديث - من بابى قتل وضرب - إذا سار بين الناس بالفتنة . وأصل النم الهمس والحركة الخفيفة ثم استعملت فى السعى بين الناس بالفساد على سبيل المجاز . { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أى هو شديد المنع لكل ما فيه خير ، ولكل من يستحقه ، خصوصا إذا كان من يستحقه من المؤمنين . ثم هو بعد ذلك { مُعْتَدٍ } أى كثير العدوان على الناس { أَثِيمٍ } أى مبالغ فى ارتكابه للآثام ، لا يترك سيئة دون أن يرتكبها . وقد جاءت صفات الذم السابقة بصيغة المبالغة ، للإِشعار برسوخه فيها ، وباقترافه لها بسرعة وشدة . { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } والعتل هو الجاف الغليظ ، القاسى القلب الفظ الطبع ، الأكول الشروب … بدون تمييز بين حلال وحرام . مأخوذ من عتله يعتُلِه - بكسر التاء وضمها - إذا جره بعنف وغلظة … { والزنيم } هو اللصيق بالقوم دون أن يكون منهم ، وإنما هو دعى فيهم ، حتى لكأنه فيهم كالزنمة ، وهى ما يتدلى من الجلد فى حلق المعز أو الشأة … وقيل الزنيم ، هو الشخص الذى يعرف بالشر واللؤم بين الناس ، كما تعرف الشاة بزنمتها . أى بعلامتها . ومعنى " بعد ذلك " كمعنى " ثم " أى ثم هو بعد كل تلك الصفات القبيحة السابقة جاف غليظ ، ملصق بالقوم ، دعى فيهم … فهذه تسع صفات ، كل صفة منها قد بلغت النهاية فى القبح والسوء ، ساقها - سبحانه - لذم الوليد بن المغيرة وأشباهه فى الكفر والفجور . وقوله { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ … } متعلق بقوله قبل ذلك { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ … } أى ولا تطع من كانت هذه صفاته لكونه ذا مال وبنين ، فإن ماله وولده لن يغنى عنه من الله - تعالى - شيئا . وقوله { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } كلام مستأنف جار مجرى التعليل للنهى عن طاعته ، والأساطير جمع أسطورة بمعنى أكذوبة . أى لا تطعه - لأنه فضلا عما اتسم به من صفات قبيحة - تراه إذا تتلى عليه آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا … وعلى صدقك يا محمد فيما تبلغه عنا ، قال هذا العتل الزنيم ، هذه الآيات أكاذيب الأولين وترهاتهم . ثم ختم هذه الآيات بأشد أنواع الوعيد لمن هذه صفاته فقال - تعالى - { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } . أى سنبين أمره ونوضحه توضيحا يجعل الناس يعرفونه معرفة تامة لاخفاء معها ولا لبس ولا غموض ، كما لا تخفى العلامة الكائنة على الخرطوم ، الذى يراد به هنا الأنف . والوسم عليه يكون بالنار . أو سنلحق به عارا لا يفارقه ، بل يلازمه مدى الحياة ، وكان العرب إذا أرادوا أن يسبوا رجلا سبة قبيحة … قالوا قد وُسِمَ فلان مِيسَمَ سوء … أى التصق به عار لا يفارقه ، كالسمة التى هى العلامة التى لا يمحى أثرها … وذكر الوسم والخرطوم فيه ما فيه من الذم ، لأن فيه جمعا بين التشويه الذى يترتب على الوسم السَّيِّئ ، وبين الإِهانة ، لأن كون الوسم فى الوجه بل فى أعلى جزء من الوجه وهو الأنف … دليل على الإِذلال والتحقير . ومما لا شك فيه أن وقع هذه الآيات على الوليد بن المغيرة وأمثاله ، كان قاصما لظهورهم ، ممزقا لكيانهم ، هادما لما كانوا يتفاخرون به من أمجاد زائفة ، لأنه ذم لهم من رب الأرض والسماء ، الذى لا يقول إلا حقا وصدقا . كذلك كانت هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ، عما أصابهم من أذى ، من هؤلاء الحلافين بالباطل والزور ، المشائين بين الناس بالنميمة ، المناعين لكل خير وبر . وبمناسبة الحديث السابق الذى فيه إشارة إلى المال والبنين ، اللذين كانا من أسباب بطر هؤلاء الكافرين وطغيانهم … ساق القرآن بعد ذلك قصة أصحاب الجنة ، لتكون موعظة وعبرة كل عاقل ، فقال - تعالى - { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ … } .