Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 17-33)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه هذا مثل ضربه الله - تعالى - لكفار قريش ، فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة ، وأعطاهم من النعم الجسيمة ، وهو بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم فقابلوه بالتكذيب والمحاربة … وقد ذكر بعض السلف أن أصحاب الجنة هؤلاء كانوا من أهل اليمن كانوا من قرية يقال لها " ضَرَوان " على ستة أميال من صنعاء … وكان أبوهم قد ترك لهم هذه الجنة ، وكانوا من أهل الكتاب ، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة ، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليه ، ويدخر لعياله قوت سنتهم ، ويتصدق بالفاضل . فلما مات وورثه أولاده ، قالوا لقد كان أبونا أحمق ، إذ كان يصرف من هذه الجنة شيئا للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك لنا ، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم ، فقد أذهب الله ما بأيديهم بالكلية أذهب رأس المال ، والربح … فلم يبق لهم شئ … وقوله - سبحانه - { بَلَوْنَاهُمْ } أى اختبرناهم وامتحناهم ، مأخوذ من البلوى ، التى تطلق على الاختبار ، والابتلاء قد يكون بالخير وقد يكون بالشر ، كما قال - تعالى - { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } . وكما فى قوله - سبحانه - { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } والمراد بالابتلاء هنا الابتلاء بالشر بعد جحودهم لنعمة الخير . أى إنا امتحنا مشركى قريش بالقحط والجوع . حتى أكلوا الجيف ، بسبب كفرهم بنعمنا ، وتكذيبهم لرسولنا صلى الله عليه وسلم كما ابتلينا من قبلهم أصحاب الجنة ، بأن دمرناها تدميرا ، بسبب بخلهم وامتناعهم عن أداء حقوق الله منها … ويبدو أن قصة أصحاب الجنة ، كانت معروفة لأهل مكة ، ولذا ضرب الله - تعالى - المثل بها . حتى يعتبروا ويتعظوا … ووجه المشابهة بين حال أهل مكة ، وحال أصحاب الجنة … يتمثل فى أن كلا الطرفين قد منحه الله - تعالى - نعمة عظيمة ، ولكنه قابلها بالجحود وعدم الشكر . و { إذ } فى قوله { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِين … } تعليلية . والضمير فى { أَقْسَمُواْ } يعود لمعظمهم ، لأن الآيات الآتية بعد ذلك ، تدل على أن أوسطهم قد نهاهم عما اعتزموه من حرمان المساكين ، ومن مخالفة ما يأمرهم شرع الله - تعالى - به … قال - تعالى - { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ … } . وقوله { لَيَصْرِمُنَّهَا } من الصرم وهو القطع . يقال صرم فلان زرعه - من باب ضرب - إذا جَزّه وقطعه ، ومنه قولهم انصرم حبل المودة بين فلان وفلان ، إذا انقطع . وقوله { مُصْبِحِينَ } أى داخلين فى وقت الصباح المبكر . أى إنا امتحنا أهل مكة بالبأساء والضراء ، كما امتحنا أصحاب البستان الذين كانوا قبلهم ، لأنهم أقسموا بالأيمان المغلظة ، ليقطعن ثمار هذا البستان فى وقت الصباح المبكر . { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } أى دون أن يجعلوا شيئا - ولو قليلا - من ثمار هذا البستان للمتحاجين ، الذين أوجب الله - تعالى - لهم حقوقا فى تلك الثمار . وقيل معنى { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } ولم يقولوا إن شاء الله ، كما قال - تعالى - { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ … } والجملة الكريمة معطوفة على قوله تعالى { لَيَصْرِمُنَّهَا } ، وهى فى الوقت نفسه مقسم عليه . أى أقسموا ليصرمنها فى وقت الصباح المبكر ، وأقسموا كذلك على أن لا يعطوا شيئا منها للفقراء والمساكين . ثم بين - سبحانه - ما ترتب على هذا القسم الذى لم يقصد به الخير ، وإنما قصد به الشر فقال { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } . والطائف مأخوذ من الطواف ، وهو المشى حول الشئ من كل نواحيه ومنه الطواف حول الكعبة . وأكثر ما يستعمل لفظ الطائف فى الشر كما هنا ، ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } وعدى لفظ " طائف " بحرف " على " لتضمينه معنى تسلط أو نزل . والصريم - كما يقول القرطبى - الليل المظلم … أى احترقت فصارت كالليل الأسود . وعن ابن عباس كالرماد الأسود . أو كالزرع المحصود . فالصريم بمعنى المصروم ، أى المقطوع ما فيه … أى أقسم هؤلاء الجاحدون على أن لا يعطوا شيئا من جنتهم للمحتاجين ، فكانت نتيجة نيتهم السيئة ، وعزمهم على الشر … أن نزل بهذه الحديقة بلاء أحاط بها فأهلكها ، فصارت كالشئ المحترق الذى قطعت ثماره ، ولم يبق منه شئ ينفع . ولم يعين - سبحانه - نوع هذا الطائف ، أو كيفية نزوله ، لأنه لا يتعلق بذكره غرض ، وإنما المقصود ما ترتب عليه من آثار توجب الاعتبار . وتنكير لفظ { طَآئِفٌ } للتهويل . و { من } فى قوله { مِّن رَّبِّكَ } للابتداء والتقييد بكونه من الرب - عز وجل - لإِفادة أنه بلاء لا قبل لأحد من الخلق بدفعه . قال القرطبى فى هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإِنسان ، لأنهم عزموا على أن يفعلوا ، فعوقبوا قبل فعلهم . ومثله قوله - تعالى - { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وفى الحديث الصحيح " إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول فى النار . قيل يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه " . ثم يصور - سبحانه - أحاسيسهم وحركاتهم ، وقد خرجوا لينفذوا ما عزموا عليه من سوء … فيقول { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } أى فنادى بعضهم بعضا فى وقت الصباح المبكر ، حتى لا يراهم أحد . فقالوا فى تناديهم { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } أى قال بعضهم لبعض هيا بنا لنذهب إلى بستاننا لكى نقطع ما فيه من ثمار فى هذا الوقت المبكر ، حتى لا يرانا أحد ، إذ الغدو هو الخروج إلى المكان فى غدوة النهار . أى فى أوله . قال صاحب الكشاف فإن قلت هلا قيل اغدوا إلى حرثكم ، وما معنى " على " ؟ . قلت لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه ، كما تقول غدا عليهم العدو . ويجوز أن يضمن الغدو معى الإِقبال ، كقولهم يغدى عليه بالجفنة ويراح . أى فأقبلوا على حرثكم باكرين … وجواب الشرط فى قوله { إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه . أى إن كنتم صارمين فاغدوا { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } أى فانطلقوا مسرعين نحو جنتهم وهم يتسارُّون فيما بينهم ، إذ التخافت تفاعل من خفت فلان فى كلامه ، إذا نطق به بصوت منخفض لا يكاد يسمع . وجملة { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } مفسرة لما قبلها لأن التخافت فيه معنى القول دون حروفه أى انطلقوا يتخافتون وهم يقولون فيما بينهم احذروا أن يدخل جنتكم اليوم وأنتم تقطعون ثمارها أحد من المساكين . وجملة { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } حالية . والحرد القصد . يقال فلان حرد فلان - من باب ضرب - أى قَصَد قَصْدَه . قال الإِمام الشوكانى الحرد يكون بمعنى المنع والقصد … لأن القاصد إلى الشئ حارد . يقال حرد يحرد إذا قصد … وقال أبو عبيدة { عَلَىٰ حَرْدٍ } أى على منع ، من قولهم حردت الإبل حردا ، إذا قلت ألبانها . والحرود من الإِبل القليلة اللبن … وقال السدى { عَلَىٰ حَرْدٍ } أى على غضب … وقال الحسن على حرد ، أى على حاجة وفاقة . وقيل { عَلَىٰ حَرْدٍ } أى على انفراد . يقال حرد يحرد حردا ، إذا تنحى عن قومه ، ونزل منفردا عنهم دون أن يخالطهم . أى أن أصحاب الجنة ساروا إليها غدوة ، على أمر قد قصدوه وبيتوه … موقنين أنهم قادرون على تنفيذه ، لأنهم قد اتخذوا له جميع وسائله ، من الكتمان والتبكير والبعد عن أعين المساكين . أو ساروا إليها فى الصباح المبكر ، وهم ليس معهم أحد من المساكين أو من غيرهم ، وهم فى الوقت نفسه يعتبرون أنفسهم قادرين على قطع ثمارها ، دون أن يشاركهم أحد فى تلك الثمار . ثم صور - سبحانه - حالهم تصويرا بديعا عندما شاهدوا جنتهم ، وقد صارت كالصريم ، فقال { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ } أى فحين شاهدوا جنتهم - وهلى على تلك الحال العجيبة - قال بعضهم لبعض إنا الضالون عن طريق جنتنا ، تائهون عن الوصول إليها … لأن هذه الجنة الخاوية على عروشها ليست هى جنتنا التى عهدناها بالأمس القريب ، زاخرة بالثمار . ثم اعترفوا بالحقيقة المرة ، بعد أن تأكدوا أن ما أمامهم هى حديقتهم فقالوا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أى لسنا بضالين عن الطريق إليها ، بل الحقيقة أن الله - تعالى - قد حرمنا من ثمارها . . بسبب إصرارنا على حرماننا المساكين من حقوقهم منها . وهنا تقدم إليهم أوسطهم رأيا ، وأعدلهم وأمثلهم تفكيرا … فقال لهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } والاستفهام للتقرير . و { لَوْلاَ } حرف تحضيض بمعنى هلا . والتسبيح هنا بمعنى الاستغفار والتوبة ، وإعطاء كل ذى حق حقه . أى قال لهم - أعقلهم وأصلحهم - بعد أن شاهد ما شاهد من أمر الحديقة . قال لهم لقد قلت لكم عندما عزمتم على حرمان المساكين حقوقهم منها … اتقوا الله ولا تفعلوا ذلك ، وسيروا على الطريقة التى كان يسير عليها أبوكم ، وأعطوا المساكين حقوقهم منها ، ولكنكم خالفتمونى ولم تطيعوا أمرى ، فكانت نتيجة مخالفتكم لنصحى ، ما ترون من خراب الجنة التى أصابنى من خرابها ما أصابكم . وكعادة كثير من الناس الذين لا يقدرون النعمة إلا بعد فوات الأوان … قالوا لأعقلهم وأصلحهم { سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } . أى قالوا وهم يعترفون بظلمهم وجرمهم … { سُبْحَانَ رَبِّنَآ } أى تنزه ربنا ونستغفره عما حدث منا ، فإننا كنا ظالمين لأنفسنا حين منعنا حق الله - تعالى - عن عباده . ثم حكى - سبحانه - ما دار بينهم بعد أن أيقنوا أن حديقتهم قد دمرت فقال { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } أى يلوم بعضهم بعضا ، وكل واحد منهم يلقى التبعة على غيره ، ويقول له أنت الذى كنت السبب فيما أصابنا من حرمان … { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا } أى يا هلاكنا ويا حسرتنا … { إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أى إنا كنا متجاوزين لحدودنا ، وفاسقين عن أمر ربنا ، عندما صممنا على البخل بما أعطانا - سبحانه - من فضله { عَسَىٰ رَبُّنَآ } بفضله وإحسانه { أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ } أى أن يعطينا ما هو خير منها { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا } لا إلى غيره { رَاغِبُونَ } أى راغبون فى عطائه ، راجعون إليه بالتوبة والندم … قال الآلوسى قال مجاهد إنهم تابوا فأبدلهم الله - تعالى - خيرا منها . وحكى عن الحسن التوقف وسئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار ؟ فقال للسائل لقد كلفتنى تعبا … ثم ختم - سبحانه - قصتهم بقوله { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ } أى مثل الذى بلونا به أصحاب الجنة ، من إهلاك جنتهم بسبب جحودهم لنعمنا … يكون عذابنا لمن خالف أمرنا من كبار مكة وغيرهم . فقوله { كَذَلِكَ } خبر مقدم ، و { ٱلْعَذَابُ } مبتدأ مؤخر . والمشار إليه هو ما تضمنته القصة من إتلاف تلك الجنة ، وإذهاب ثمارها . وقدم المسند وهو الخبر ، على المسند إليه وهو المبتدأ ، للاهتمام بإحضار تلك الصورة العجيبة فى ذهن السامع . وقوله { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يدل على أن المراد بالعذاب السابق عذاب الدنيا . أى مثل ذلك العذاب الذى أنزلناه بأصحاب الجنة فى الدنيا ، يكون عذابنا لمشركى قريش ، أما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى وأعظم … ولو كانوا من أهل العلم والفهم ، لعلموا ذلك ، ولأخذوا منه حذرهم عن طريق الإِيمان والعمل الصالح . هذا ، والمتأمل فى هذه القصة ، يراها زاخرة بالمفاجآت ، وبتصوير النفس الإِنسانية فى حال غناها وفى حال فقرها ، فى حال حصولها على النعمة وفى حال ذهاب هذه النعمة من بين يديها . كما يراها تحكى لنا سوء عاقبة الجاحدين لنعم الله ، إذ أن هذا الجحود يؤدى إلى زوال النعم ، ورحم الله القائل من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها . ثم تبدأ السورة بعد ذلك بيان حسن عاقبة المؤمنين ، وفى محاجة المجرمين ، وفى تحديهم بالسؤال تلو السؤال إلزاما لهم بالحجة ، وتقريعا لهم على غفلتهم ، وتذكيرا لهم بيوم القيامة الذى سيندمون عنده ، ولن ينفعهم الندم . قال - تعالى - { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ … } .