Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 68, Ayat: 44-52)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الفاء فى قوله { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ … } لترتيب ما بعدها على ما قبلها . والفعل { ذرنى } من الأفعال التى يأتى منها الأمر بالمضارع ، ولم يسمع لها ماض ، وهو بمعنى أترك . يقال ذَرْهُ يفعل كذا ، أى اتركه . ومنه قوله - تعالى - { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } والمراد بالحديث { بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ … } ما أوحاه - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم من قرآن كريم ، ومن توجيهات حكيمة ، لكى يبلغها للناس . والاستدراج استنزال الشئ من درجة إلى أخرى ، والانتقال به من حالة إلى أخرى ، والسين والتاء فيه للطلب والمراد به هنا التمهل فى إنزال العقوبة . والإِملاء الإِمداد فى الزمن ، والإِمهال والتأخير ، مأخوذ من الملاوة والملوة ، وهى الطائفة الطويلة من الزمن . والملوان الليل والنهار ، والمراد به هنا إمدادهم بالكثير من النعم . يقال أملى فلان لبعيره ، إذا أرخى له فى الزمام ، ووسع له فى القيد ، ليتسع المرعى . والكيد كالمكر ، وهو التدبير الذى يقصد به غير ظاهره ، بحيث ينخدع الممكور به ، فلا يفطن لما يراد به ، حتى يقع عليه ما يسوؤه . وإضافة الكيد إليه - تعالى - يحمل على المعنى اللائق به كإبطال مكر أعدائه ، وكإمدادهم بالنعم . ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر . والمقصود بهاتين الآيتين الكريمتين تسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه . والمعنى إذا كانت أحوال هؤلاء المشركين ، كما ذكرت لك - أيها الرسول الكريم - فكِلْ أمرهم إلىَّ ، واترك أمر هؤلاء الذين يكذبونك فيما جئتهم به من عندنا إلى ربك ، ولا تشغل بالك بهم . فإنى سأقربهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم ، بأن أسوق لهم النعم ، حتى يفاجئهم الهلاك من حيث لا يعلمون أن صنعنا هذا معهم هو لون من الاستدراج ، ثم إنى أمد لهم فى أسباب الحياة الرغدة ، ليزدادوا إثما ، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وهذا لون من ألوان كيدى الشديد القوى ، الذى لا يفطن إليه أمثال هؤلاء الجاهلين الأغبياء … وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " . وقال الحسن البصرى كم من مستدرج بالإِحسان ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه . قال الآلوسى وقوله { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ … } استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا . وقوله { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أى من حيث لا يعلمون أنه استدراج ، بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم ، وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب هلاكهم . وقوله { وَأُمْلِي لَهُمْ } أى وأمهلهم ليزدادوا إثما . { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أى لا يُدفَع بشئ . وتسمية ذلك كيدا - وهو ضرب من الاحتيال - لكونه فى صورته - حيث إنه - سبحانه - يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا ، ومراده - عز وجل - به الضرر ، لما علم من خبث جبلتهم ، وتماديهم فى الكفر والجحود … ثم عادت السورة الكريمة إلى إبطال معاذيرهم ، بأسلوب الاستفهام الإِنكارى ، الذى تكرر فيها كثيرا ، فقال - تعالى - { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ . أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ؟ والمغرم والغرامة ما يفرض على المرء أداؤه من مال وغيره . والمثقلون جمع مثقل ، وهو من أثقلته الديون ، حتى صار فى حالة عجز عن أدائها . والمراد بالغيب علم الغيب ، وهو ما غاب عن علم البشر ، فالكلام على حذف مضاف . والمعنى بل أتسألهم - يا محمد - على دعوتك لهم إلى الحق والخير { أَجْراً } دنيويا { فَهُمْ } من أجل ذلك مثقلون بالديون المالية ، وعاجزون عن دفعها لك … فترتب على هذا الغرم الثقيل . أن أعرضوا عن دعوتك ، وتجنبوا الدخول فى دينك ؟ . أم أن هؤلاء القوم عندهم علم الغيب ، بأن يكونوا قد اطلعوا على ما سطرناه فى اللوح المحفوظ من أمور غيبية لا يعلمها أحد سوانا … فهم يكتبون ذلك ، ثم يصدرون أحكامهم . ويجادلونك فى شأنها . وكأنهم قد اطلعوا على بواطن الأمور ! . الحق الذى لا حق سواه ، أن هؤلاء القوم ، أنت لم تطلب منهم أجرا على دعوتك إياهم إلى إخلاص العبادة لنا ، ولا علم عندهم بشئ من الغيوب التى لا يعلمها أحد سوانا ، وكل ما يزعمونه فى هذا الشأن فهو ضرب من الكذب والجهل … وما دام الأمر كما ذكرنا لك { فَٱصْبِرْ } أيها الرسول الكريم - لحكم ربك ، ولقضائه فيك وفيهم ، وسر فى طريقك التى كلفناك به ، وهو تبليغ رسالتنا إلى الناس … وستكون العاقبة لك ولأتباعك . { وَلاَ تَكُن } - أيها الرسول الكريم - { كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } وهو يونس - عليه السلام - . أى لا يوجد منك ما وجد منه ، من الضجر ، والغضب على قومه الذين لم يؤمنوا ، ففارقهم دون أن يأذن له ربه بمفارقتهم … والظرف فى قوله { إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } منصوب بمضاف محذوف ، وجملة { وَهُوَ مَكْظُومٌ } فى محل نصب على الحال من فاعل " نادى " . والمكظوم - بزنة مفعول - المملوء غضبا وغيظا وكربا ، مأخوذ من كظم فلان السقاء إذا ملأه ، وكظم الغيظ إذا حبسه وهو ممتلئ به . أى لا يكن حالك كحال صاحب الحوت ، وقت ندائه لربه - عز وجل - وهو مملوء غيظا وكربا ، لما حدث له مع قومه ، ولما أصابه من بلاء وهو فى بطن الحوت . وهذا النداء قد أشار إليه - سبحانه - فى آيات منها قوله - تعالى - { وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ . فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } وقوله - سبحانه - { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ … } استئناف لبيان جانب من فضله - تعالى - على عبده يونس - عليه السلام - . و { لَّوْلاَ } هنا حرف امتناع لوجود ، و { أَن } يجوز أن تكون مخففة من { أَن } الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، وهو ومحذوف ، وجملة { تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } خبرها . ويجوز أن تكون مصدرية ، أى لولا تدارك رحمة من ربه . والتدارك تفاعل من الدرك - بفتح الدال - بمعنى اللحاق بالغير . والمقصود به هنا المبالغة فى إدراك رحمة الله - تعالى - لعبده يونس - عليه السلام - . قال الجمل قرأة العامة { تَدَارَكَهُ } ، وهو فعل ماضى مذكر ، حمل على معنى النعمة ، لأن تأنيثها غير حقيقى ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود تدراكته - على لفظ النعمة - وهو خلاف المرسوم . والمراد بالنعمة رحمته - سبحانه - بيونس - عليه السلام - وقبول توبته ، وإجابة دعائه … والنبذ الطرح والترك للشئ ، والعراء الأرض الفضاء الخالية من النبات وغيره . والمعنى لولا أن الله - تدارك عبده يونس برحمته ، وبقبول توبته … لطرح من بطن الحوت بالأرض الفضاء الخالية من النبات والعمران … وهو مذموم ، أى وهو ملوم ومؤاخذ منا على ما حدث منه … ولكن ملامته ومؤاخذته منا قد امتنعت ، لتداركه برحمتنا ، حيث قبلنا توبته ، وغسلنا حوبته ، ومنحناه الكثير من خيرنا وبرنا … فالمقصود من الآية الكريمة بيان جانب من فضل الله - تعالى - على عبده يونس - عليه السلام - ، وبيان أن رحمته - تعالى - به ، ونعمته عليه ، قد حالت بينه ويبن أن يكن مذموما على ما صدر منه ، من مغاضبة لقومه ومفارقته لهم بدون إذن من ربه … قال الجمل ما ملخصه قوله { وَهُوَ مَذْمُومٌ } أى ملوم ومؤاخذ بذنبه والجملة حال من مرفوع " نُبِذ " ، وهى محط الامتناع المفاد بلولا ، فهى المنفية لا النبذ بالعراء … أى لنبذ بالعراء وهو مذموم ، لكنه رُحِم فنبذ غير مذموم … فلولا - هنا - ، حرف امتناع لوجود ، وأن الممتنع القيد فى جوابها لا هو نفسه … وقوله { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } تأكيد وتفصيل لنعمة الله - تعالى - التى أنعم بها على عبده يونس - عليه السلام - ، وهو معطوف على مقدر . أى فتدراكته النعمة فاصطفاه ربه - عز وجل - حيث رد عليه الوحى بعد انقطاعه ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون من الناس ، وقبل توبته ، فجعله من عباده الكاملين فى الصلاح والتقوى ، وفى تبليغ الرسالة عن ربه . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، ببيان ما كان عليه الكافرون من كراهية للنبى صلى الله عليه وسلم ومن حقد عليه ، فقال - تعالى - { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ . وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } . وقوله { لَيُزْلِقُونَكَ } من الزَّلَق - بفتحتين - ، وهو تزحزح الإِنسان عن مكانه ، وقد يؤدى به هذا التزحزح إلى السقوط على الأرض ، يقال زَلَقه يَزْلِقه ، وأزْلقه يُزْلِقه إزلاقا ، إذا نحاه وأبعده عن مكانه ، واللام فيه للابتداء . قال الشوكانى قرأ الجمهور { لَيُزْلِقُونَكَ } بضم الياء من أزلقه ، أى أزل رجله … وقرأ نافع وأهل المدينة { لَيُزْلِقُونَكَ } - بفتح الياء - من زلق عن موضعه . و { إن } هى المخففة من الثقيلة ، - واسمها ضمير الشأن محذوف ، و " لما " ظرفية منصوبة بيزلقونك . أو هى حرف ، وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه . أى لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك … أى وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك ، أو ليزلون قدمك عن موضعها ، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرا ، بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر ، وهو القرآن الكريم … { وَيَقُولُونَ } على سبيل البغض لك { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لمن الأشخاص الذين ذهبت عقولهم … { وَمَا هُوَ } أى القرآن الذى أنزلناه عليك { إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أى تذكير بالله - تعالى - وبدينه وبهداياته … وشرف لهم وللعالمين جميعا . وجاء قوله { يَكَادُ } بصيغة المضارع ، للإِشارة إلى استمرار ذلك فى المستقبل . وجاء قوله { سَمِعُواْ } بصيغة الماضى ، لوقوعه مع { لما } ، وللإِشعار بأنهم قد حصل منهم هذا القول السَّيئ . وجاء قوله { لَيُزْلِقُونَكَ } بلام التأكيد للإِشعار بتصميمهم على هذه الكراهية ، وحرصهم عليها . وقوله - سبحانه - { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } رد على أكاذيبهم ، وإبطال لأقوالهم الزائفة ، حيث وصفوه صلى الله عليه وسلم بالجنون ، لأنه إذا كان ما جاء به شرف وموعظة وهداية وتذكير بالخير للناس … لم يكن معقولا أن يكون مبلغه مجنونا . ومنهم من فسر قوله - تعالى - { لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ … } أى ليحسدونك عن طريق النظر الشديد بعيونهم … قال الإِمام ابن كثير وقوله { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما { لَيُزْلِقُونَكَ } لينفذونك بأبصارهم ، أى لَيعَينوك بأبصارهم ، بمعنى ليحسدونك لبغضهم إياك ، لولا وقاية الله لك ، وحمايتك منهم . وفى هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله - عز وجل - ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة . ثم ساق - رحمه الله - جملة من الأحاديث فى هذا المعنى ، منها ما رواه أبو داود فى سننه ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا رقية إلا من عين أو حُمَه - أى سم - ، أودم لا يرقأ " . وروى الإمام مسلم فى صحيحه عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " العين حق ، ولو كان شئ سابَق القدر سَبَقَت العين " . وعن ابن عباس - أيضا - قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين فيقول " أعيذ كما بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة - والهامة كل ذات سم يقتل - ، ومن كل عين لامة " . وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " العين حق حتى لتورد الرجل القبر ، والجمل القدر ، وإن أكثر هلاك أمتى فى العين " . وبعد فهذا تفسير محرر لسورة " ن " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده . والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم …