Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 34-43)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - سبحانه - { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ … } بيان لما وعد به - سبحانه - المؤمنين الصادقين ، بعد بيان وعيده للجاحدين المكذبين . أى إن للذين اتقوا ربهم ، وصانوا أنفسهم عما حرمه … جنات ليس لهم فيها إلا النعيم الخالص ، والسرور التام . والخير الذى لا ينقطع ولا يمتنع . واللام فى قوله { لِّلْمُتَّقِينَ } للاستحقاق ، وقال - سبحانه - { عِنْدَ رَبِّهِمْ } للتشريف والتكريم . أى هذه الجنات اختص الرب - عز وجل - بها الذين اتقوه فى كل أحوالهم . وإضافة الجنات إلى النعيم ، للإِشارة إلى أن النعيم ملازم لها لا يفارقها فلا يكون فيها ما يكون فى جنات الدنيا من تغير فى الأحوال ، فهى تارة مثمرة ، وتارة ليست كذلك . والاستفهام فى قوله { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } للنفى والإِنكار . والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام . أى أنحيف فى أحكامنا فنجعل الذين أخلصوا لنا العبادة . كالذين أشركوا معنا آلهة أخرى ؟ أو نجعل الذين أسلموا وجوههم لنا ، كالذين فسقوا عن أمرنا ؟ كلا ، لن نجعل هؤلاء كهؤلاء ، فإن عدالتنا تقتضى التفريق بينهم . قال الجمل لما نزلت هذه الآية وهى قوله { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ … } قال كفار مكة للمسلمين إن الله فضلنا عليكم فى الدنيا ، فلابد وأن يفضلنا عليكم فى الآخرة ، فإذا لم يحصل التفضيل ، فلا أقل من المساواة فأجابهم الله - تعالى - بقوله { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } . ثم أضاف - سبحانه - إلى توبيخهم توبيخا آخر فقال { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } . وقوله { مَا لَكُمْ } جملة من مبتدأ وخبر ، وهى بمثابة تأنيب آخر لهم وقوله { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } تجهيل لهم ، وتسفيه لعقولهم . أى ما الذى حدث لعقولكم ، حتى ساويتم بين الأخيار والأشرار والأطهار والفجار ، ومن أخلصوا لله عبادتهم ، ومن كفروا به ؟ ثم انتقل - سبحانه - من توبيخهم على جهلهم ، إلى توبيخهم على كذبهم فقال { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ . إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُون } . و { أم } هنا وما بعدها للإِضراب الانتقالى ، وهى بمعنى بل ، والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود على الكتاب . وقوله { تَدْرُسُونَ } أى تقرأون بعناية وتفكير . وقوله { تَخَيَّرُون } أصله تتخيرون . والتخير تطلب ما هو خير . يقال فلان تخير الشئ واختاره ، إذا أخذ خيره وجيده . أى بل ألكم - أيها المشركون - كتاب قرأتم فيه بفهم وتدبر المساواة بين المتقين والمجرمين ، وأخذتم منه ما اخترتموه من أحكام ؟ إنه لا يوجد كتاب سماوى ، أو غير سماوى ، يوافقكم على التسوية بين المتقين والمجرمين . وأنتم إنما تصدرون أحكاما كاذبة . ما أنزل الله بها من سلطان . ثم انتقل - سبحانه - إلى توبيخهم على لون آخر من مزاعمهم فقال { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } . أى وقل لهم - يا محمد - على سبيل إلزامم الحجة بل ألكم { أَيْمَانٌ } أى عهود ومواثيق مؤكدة { عَلَيْنَا } وهذه العهود { بَالِغَة } أقصى مداها فى التوكيد ، وثابتة لكم علينا { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } بأنا قد سوينا بين المسلمين والمجرمين فى أحكامنا ، كما زعمتم أنتم ؟ إن كانت لكم علينا هذه الأيمان والعهود ، فأظهروها للناس ، وفى هذه الحالة يكون من حقكم أن تحكموا بما حكمتم به . ومما لا شك فيه ، أنهم ليست لهم عهود عند الله بما زعموه من أحكام ، وإنما المقصود من الآية الكريمة ، بيان كذبهم فى أقوالهم ، وبيان أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بجواب يثبتون به مدعاهم . وقوله { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } جواب القسم ، لأن قوله { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا } بمعنى أم أقسمنا لكم إيمانا موثقة بأننا رضينا بأحكامكم التى تسوون فيها بين المسلمين والمجرمين . ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم سؤال تبكيت وتأنيب فقال { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } . والزعيم هو الضامن ، والمتكلم عن القوم ، والناطق بلسانهم … واسم الإِشارة يعود على الحكم الباطل الذى حكموه ، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين . أى سل - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المشركين ، سؤال تقريع وتوبيخ ، أى واحد منهم سيكون يوم القيامة ، كفيلا بتحمل مسئولية هذا الحكم ، وضامنا بأن المسلمين سيكونون متساوين مع المجرمين فى الأحكام عند الله - تعالى - . ثم انتقل - سبحانه - إلى إلزامهم الحجة عن طريق آخر فقال { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } . أى بل ألهم شركاء يوافقونهم على هذا الحكم الباطل ، إن كان عندهم ذلك ، فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين فى زعمهم التسوية بين المتقين والمجرمين . والمراد بالشركاء هنا الأصنام التى يشركونها فى العبادة مع الله - عز وجل - . وحذف متعلق الشركاء لشهرته . أى أم لهم شركاء لنا فى الألوهية يشهدون لهم بصحة أحكامهم . والأمر فى قوله { فَلْيَأتُواْ … } للتعجيز . والمتدبر فى هذه الآيات الكريمة ، يرى أن الله - تعالى - قد وبخهم باستفهامات سبعة أولها قوله - تعالى - { أَفَنَجْعَلُ … } الثانى { مَا لَكُمْ … } الثالث { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } الرابع { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ } الخامس { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ } السادس { أَيُّهُم بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ } السابع { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } . قال الآلوسى وقد نبه - سبحانه - فى هذه الآيات ، على نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به فى تحقيق دعواهم ، حيث نبه - سبحانه - على نفى الدليل العقلى بقوله { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } . وعلى نفى الدليل النقلى بقوله { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ … } ، وعلى نفى أن يكون الله وعدهم بذلك بقوله { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ … } وعلى نفى التقليد الذى هو أوهن من حبال القمر بقولهم { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ … } . ثم بين - سبحانه - جابنا من أهوال يوم القيامة ، ومن حال الكافرين فيه ، فقال { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } . والظرف " يوم " يجوز أن يكون متعلقا بقوله - تعالى - قبل ذلك { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ … } ويصح أن يكون متعلقا بمحذوف تقديره ، اذكر ، والمراد باليوم ، يوم القيامة . والكشف عن الساق معناه التشمير عنها وإظهارها ، وهو مثل لشدة الحال ، وصعوبة الخطب والهول ، وأصله أن الإِنسان إذا اشتد خوفه ، أسرع فى المشى ، وشمر عن ثيابه ، فينكشف ساقه . قال صاحب الكشاف الكشف عن الساق ، والإِبداء عن الخَدام - أى الخلخال الذى تلبسه المرأة فى رجلها - وهو جمع خَدَمة كرقاب جمع رقبة - مثل فى شدة الأمر ، وصعوبة الخطب ، وأصله فى الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن فى الهرب ، وإبداء خِدَامهن عند ذلك … كما قال الشاعر @ أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن سوقها الحرب شمرا @@ فمعنى يوم يكشف عن ساق يوم يشتد الأمر يتفاقم ، ولا كشف ولا ساق ، كما تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثَمَّ ولا غل ، وإنما هو مثل فى البخل … فإن قلت فلم جاءت منكرة فى التمثيل ؟ قلت للدلالة على أنه أمر مبهم فى الشدة ، فظيع خارج عن المألوف … والمعنى اذكر لهم - أيها الرسول الكريم - لكى يعتبروا ويتعظوا أهوال يوم القيامة ، يوم يشتد الأمر ، ويعظم الهول . { وَيُدْعَوْنَ } هؤلاء الذين فسقوا عن أمر ربهم فى هذا اليوم { إِلَى ٱلسُّجُودِ } لله - تعالى - على سبيل التوبيخ لهم ، لأنهم كانوا ممتنعين عنه فى الدنيا … { فَلاَ يَسْتَطِيعُون } أى فلا يستطيعون ذلك ، لأنه الله - تعالى - سلب منهم القدرة على السجود له فى هذا اليوم العظيم ، لأنه يوم جزاء وليس يوم تكليف والذين يدعونهم إلى السجود ، هم الملائكة بأمره - تعالى - . وقوله { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ … } حال من فاعل { يدعون } وخشوع الأبصار كناية عن الذلة والخوف الشديد ، ونسب الخشوع إلى الأبصار ، لظهور أثره فيها . أى هم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ذلك . لأنه - تعالى - سلب منهم القدرة عليه ، ثم يساقون إلى النار ، حالة كونهم ذليلة أبصارهم ، منخفضة رءوسهم … { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أى تغشاهم وتعلوهم ذلة وانكسار … { وَقَدْ كَانُواْ } فى الدنيا { يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ } لله - تعالى - { وَهُمْ سَالِمُونَ } أى وهم قادرون على السجود له - تعالى - ، ومتمكنون من ذلك أقوى تمكن … ، ولكنهم كانوا يعرضون عمن يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - ، ويستهزئون به … قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه قوله { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ … } يعنى يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال ، والزلازل ، والبلايا ، والامتحان ، والأمور العظام … روى البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد فى الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره ، طبقا واحدا - أى يصير ظهره كالشئ الصلب فلا يقدر على السجود - . وعن ابن عباس قال { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } وهو يوم كرب وشدة … ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بالتهديد الشديد للكافرين ، وببيان جانب من تصرفه الحكيم معهم ، وبتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، ويأمره بالصبر على أذاهم ، وعلى أحقادهم التى تنبئ عنها نظراتهم المسمومة إليه ، فقال - تعالى - { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ … } .