Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 69, Ayat: 38-52)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الفاء فى قوله { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } للتفريع على ما فهم مما تقدم ، من إنكار المشركين ليوم القيامة ، ولكون القرآن من عند الله . و { لا } فى مثل هذا التركيب يرى بعضهم أنها مزيدة ، فيكون المعنى أقسم بما تبصرون من مخلوقاتنا كالسماء والأرض والجبال والبحار … وبما لا تبصرون منها ، كالملائكة والجن . وقوله { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } جواب القسم ، وهو المحلوف عليه أى أقسم إن هذا القرآن لقول رسول كريم ، هو محمد صلى الله عليه وسلم . وأضاف - سبحانه - القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه هو الذى تلقاه عن الله - تعالى - وهو الذى بلغه عنه بأمره وإذنه . أى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا القرآن ، وينطق به ، على وجه التبليغ عن الله - تعالى - . قال الإِمام ابن كثير قوله { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم أضافه إليه على معنى التبليغ ، لأن الرسول من شأنه أن يبلغ عن المُرسِل ، ولهذا أضافه فى سورة التكوير إلى الرسول الملكى فقال { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ . مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } وهو جبريل - عليه السلام - . وبعضهم يرى أن " لا " فى مثل هذا التركيب ليست مزيدة ، وإنما هى أصلية ، ويكون المقصود من الآية الكريمة ، بيان أن الأمر فى الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم ، إذ كل عاقل عندما يقرأ القرآن ، يعتقد أنه من عند الله . ويكون المعنى فلا أقسم بما تبصرونه من مخلوقات ، وبما لا تبصرونه … لظهور الأمر واستغنائه عن القسم … قال الشوكانى قوله { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ . وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } هذا رد لكلام المشركين ، كأنه قال ليس الأمر كما تقولون . و " لا " زائدة والتقدير فأقسم بما تشاهدونه وبما لا تشاهدونه . وقيل إن " لا " ليست زائدة ، بل هى لنفى القسم ، أى لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحق فى ذلك . والأول أولى . وتأكيد قوله { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } بإنَّ وباللام ، للرد على المشركين الذين قالوا عن القرآن الكريم أساطير الأولين . ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التأكيد تأكيدات أخرى فقال { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ . وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } والشاعر هو من يقول الشعر . والكاهن هو من يتعاطى الكهانة عن طريق الزعم بأنه يعلم الغيب . وانتصب " قليلا " فى الموضعين على أنه صفة لمصدر محذوف ، و " ما " مزيدة لتأكيد القلة . والمراد بالقلة فى الموضعين انتفاء الإِيمان منهم أصلا أو أن المراد بالقلة إيمانهم اليسير ، كإيمانهم بأن الله هو الذى خلقهم ، مع إشراكهم معه آلهة أخرى فى العبادة . أى ليس القرآن الكريم بقول الشاعر ، ولا بقول كاهن ، وإنما هو تنزيل من رب العالمين ، على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكى يبلغه إليكم ، ولكى يخرجكم بواسطته من ظلمات الكفر ، إلى نور الإِيمان . ولكنكم - أيها الكافرون - لا إيمان عندكم أصلا ، أو قليلا ما تؤمنون بالحق ، وقليلا ما تتذكرونه وتتعظون به . ففى الآيتين رد على الجاحدين الذين وصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو كاهن . وخص هذين الوصفين بالذكر هنا لأن وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه { رَسُولٍ كَرِيمٍ } كاف لنفى الجنون أو الكذب عنه صلى الله عليه وسلم أما وصفه بالشعر والكهانة فلا ينافى عندهم وصفه بأنه كريم ، لأن العشر والكهانة كان معدودين عندهم من صفات الشرف ، لذا نفى - سبحانه - عنه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر أو كاهن ، وأثبت له أنه رسول كريم . وقوله { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } تأكيد لكون القرآن من عند الله - تعالى - وأنه ليس بقول شاعر أو كاهن . أى هذا القرآن ليس كما زعمتم - أيها الكافرون - وإنما هو منزل من رب العالمين ، لا من أحد سواه - عز وجل - . ثم بين - سبحانه - ما يحدث للرسول صلى الله عليه وسلم لو أنه - على سبيل الفرض - غيرَّ أو بدل شيئا من القرآن فقال { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ . لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ . فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } والتقول افتراء القول ، ونسبته إلى من لم يقله ، فهو تفعل من القول يدل على التكلف والتصنع والاختلاق . والأقاويل جمع أقوال ، الذى هو جمع قول ، فهو جمع الجمع . أى ولو أن محمداً صلى الله عليه وسلم افترى علينا بعض الأقوال ، أو نسب إلينا قولا لم نقله ، أو لم نأذن له فى قوله … لو أنه فعل شيئا من ذلك على سبيل الفرض . { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } أى لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه ، وهو كناية عن إذلاله وإهانته . أو لأخذناه بالقوة والقدر ، وعبر عنهما باليمين ، لأن قوة كل شئ فى ميامنه . والمقصود بالجملة الكريمة التهويل من شأن الأخذ ، وأنه أخذ شديد سريع لا يملك معه تصرفا أو هربا . ثم أضاف - سبحانه - إلى هذا التهويل ما هو أشد منه فى هذا المعنى فقال { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } . أى ثم بعد هذا الأخذ بقوة وسرعة ، لقطعنا وتينه . وهو عرق يتصل بالقلب . متى قطع مات صاحبه . وهذا التعبير من مبتكرات القرآن الكريم ، ومن أساليبه البديعة ، إذ لم يسمع عن العرب أنهم عبروا عن الإِهلاك بقطع الوتين . ثم بين - سبحانه - أن أحدا لن يستطيع منع عقابه فقال { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } . أى فما منكم من أحد - أيها المشركون - يستطيع أن يدفع عقابنا عنه ، أو يحول بيننا وبين ما نريده ، فالضمير فى " عنه " يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات التقول افتعال القول ، كأن فيه تكلفا من المفتعل ، وسمى الأقوال المتقولة " أقاويل " تصغيراً بها وتحقيرا ، كقولك الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول . والمعنى ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا ، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم . معالجة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده ، وتضرب رقبته . وخص اليمين عن اليسار ، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب فى قفا المقتول أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه فى جيده وأن يكفحه بالسيف - وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف - أخذ بيمينه . ومعنى { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } لأخذنا بيمينه . كما أن قوله { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } لقطعنا وتينه ، والوتين نياط القلب ، وهو حبل الوريد ، إذا قطع مات صاحبه . وفى هذه الآيات الكريمة أقوى الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - لأنه لو كان - كما زعم الزاعمون أنه من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم لما نطق بهذه الألفاظ التى فيها ما فيها من تهديده ووعيده . كما أنها كذلك فيها إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقول شيئا … وإنما بلّغ هذا القرآن عن ربه - عز وجل - دون أن يزيد حرفا أو ينقص حرفا … لأن حكمة الله - تعالى - قد اقتضت أن يهلك كل من يفترى عليه الكذب ، ومن يزعم أن الله - تعالى - أوحى إليه ، مع أنه - سبحانه - لم يوح إليه . وقوله - سبحانه - { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } معطوف على قوله { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } . أى إن هذا القرآن لقول رسول كريم بلغه عن الله - تعالى - وإنه لتذكير وإرشاد لأهل التقوى ، لأنهم هم المنتفعون بهداياته . وقوله - تعالى - { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } تبكيت وتوبيخ لهؤلاء الكافرين ، الذين جحدوا الحق بعد أن تبين لهم أنه حق . أى وإنا لا يخفى علينا أن منكم - أيها الكافرون - من هو مكذب للحق عن جحود وعناد ، ولكن هذا لن يمنعنا من إرسال رسولنا بهذا الدين لكى يبلغه إليكم ، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وسنجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب . وقوله - سبحانه - { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } بيان لما يكون عليه الكافرون من ندم شديد ، عندما يرون حسن مصير المؤمنين ، وسوء مصير المكذبين . والحسرة هى الندم الشديد المتكرر ، على أمر نافع قد مضى ولا يمكن تداركه . أى وإن هذا القرآن الكريم ، ليكون يوم القيامة ، سبب حسرة شديدة وندامة عظيمة ، على الكافرين ، لأنهم يرون المؤمنين به فى هذا اليوم فى نعيم مقيم ، أما هم فيجدون أنفسهم فى عذاب أليم . وقوله { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } معطوف على ما قبله ، أى وإن هذا القرآن لهو الحق الثابت الذى لا شك فى كونه من عند الله - تعالى - وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بلغه إلى الناس دون أن يزيد فيه حرفا ، أو ينقص منه حرفا . وإضافة الحق إلى اليقين ، من إضافة الصفة إلى الموصوف . أى لهو اليقين الحق ، أو هو من إضافة الشئ إلى نفسه مع اختلاف اللفظين ، كما فى قوله { حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } ، إذ الحبل هو الوريد . والمقصود من مثل هذا التركيب التأكيد . وقد قالوا إن مراتب العلم ثلاثة أعلاها حق اليقين ، ويليها عين اليقين ، ويليها علم اليقين . فحق اليقين كعلم الإِنسان بالموت عند نزوله به ، وبلوغ الروح الحلقوم ، وعين اليقين كعلمه به عند حلول أماراته وعلاماته الدالة على قربه … وعلم اليقين كعلمه بأن الموت سينزل به لا محالة مهما طال الأجل … والفاء فى قوله - تعالى - { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } للإِفصاح . أى إذا كان الأمر كما ذكرنا لك من أن هذا الدين حق ، وأن البعث حق ، وأن القرآن حق ، فنزه اسم ربك العظيم عما لا يليق به ، من النقائص ، فى الاعتقاد أو فى العبادة ، أو فى القول ، أو فى الفعل . والباء فى قوله { بِٱسْمِ رَبِّكَ } للمصاحبة . أى نزه ربك تنزيها مصحوبا بكل ما يليق به من طاعة وإخلاص ومواظبة على مراقبته وتقواه .