Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 69, Ayat: 25-37)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أى { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } أى من الجهة التى يعلم أن الإِتيان منها يؤدى إلى هلاكه وعذابه . { فَيَقُولُ } على سبيل التحسر والتفجع { يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } أى فيقول يا ليتنى لم أعط هذا الكتاب ، لأن إعطائى إياه بشمالى دليل على عذابى وعقابى . { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أى ويا ليتنى لم أعرف شيئا عن حسابى ، فإن هذه المعرفة التى لم أحسن الاستعدا لها ، أوصلتنى إلى العذاب المبين . { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } أى ويا ليت الموتة التى متها فى الدنيا ، كانت هى الموتة النهائية التى لا حياة لى بعدها . فالضمير للموتة التى ماتها فى الدنيا ، وإن كان لم يجر لها ذكر ، إلا أنها عرفت من المقام . والمراد بالقاضية القاطعة لأمره ، التى لا بعث بعدها ولا حساب … لأن ما وجده بعدها أشد مما وجده بعد حلوله بها . قال قتادة تمنى الموت ولم يكن عنده فى الدنيا شئ أكره منه . وشر من الموت ما يطلب منه الموت . ثم أخذ الذى أوتى كتابه بشماله يتحسر على تفريطه وغروره ، ويحكى القرآن ذلك فيقول { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } أى هذه الأموال التى كنت أملكها فى الدنيا ، وأتفاخر بها . لم تغن عنى شيئا من عذاب الله ، ولم تنفعنى ولو منفعة قليلة . فما نافية ، والمفعول محذوف للتعميم ، ويجوز أن تكون استفهامية والمقصود بها التوبيخ . أى أى شئ أغنى عنى مالى ؟ إنه لم يغن عنى شيئاً . { هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أى ذهب عنى ، وغاب عنى فى هذا اليوم ما كنت أتمتع به فى الدنيا من جاه وسلطان ، ولم يحضرنى شئ منه ، كما أن حججى وأقوالى التى كنت أخاصم بها المؤمنين . قد ذهبت أدراج الرياح . وعدى الفعل " هلك " بعن ، لتضمنه معنى غاب وذهب . وخلال هذا التفجع والتحسر الطويل … يأتى أمر الله - تعالى الذى لا يرد ، فيقول - سبحانه - للزبانية المكلفين بإنزال العذاب بالكافرين { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أى خذوا هذا الكافر ، فاجمعوا يديه إلى عنقه . فقوله { خُذُوهُ } معمول لقول محذوف . وهو جواب عن سؤال نشأ مما سبق من الكلام . فكأنه قيل وماذا يفعل به بعد هذا التحسر والتفجيع . فكان الجواب أمر الله - تعالى - ملائكته بقوله { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } … وقوله { فَغُلُّوهُ } من الغُل - بضم الغين - وهو ربط اليدين إلى العنق على سبيل الإِذلال . { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أى ثم بعد هذا التقييد والإِذلال … اقذفوه به إلى الجحيم ، وهى النار العظيمة ، الشديدة التأجج والتوهج . ومعنى { صَلُّوهُ } بالغوا فى تصليته النار ، بغمسه فيها مرة بعد أخرى . يقال صَلِى فلان النار ، إذا ذاق حرها ، وصَلّى فلان فلانا النار ، إذا أدخله فيها . وقلبه على جمرها كما تقلب الشاة فى النار . { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } والسلسلة اسم لمجموعة من حَلَق الحديد ، يربط بها الشخص لكى لا يهرب ، أو لكى يزاد فى إذلاله وهو المراد هنا . وقوله { ذَرْعُهَا } أى طولها . والمراد بالسبعين حقيقة هذا المقدار فى الطول ، أو يكون هذا العدد كناية عن عظيم طولها ، كما فى قوله - تعالى - { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ … } وقوله { فَاسْلُكُوهُ } من السَّلك بمعنى الإِدخال فى الشئ ، كما فى قوله - تعالى - { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } أى ما أدخلكم فيها . أى خذوا هذا الكافر ، فقيدوه ثم أعدوه للنار المحرقة . ثم اجعلوه مغلولا فى سلسلة طولها سبعين ذرعا ، بحيث تكون محيطة به إحاطة تامة . أى ألقوا به فى الجحيم وهو مكبل فى أغلاله . و { ثم } فى كل آية جئ بها للتراخى الرتبى ، لأن كل عقوبة أشد من سابقتها . إذ إدخاله فى السلسلة الطويلة . أعظم من مطلق إلقائه فى الجحيم كما أن إلقاءه فى الجحيم ، أشد من مطلق أخذه وتقييده . وفى هذه الآيات ما فيها من تصوير يبعث فى القلوب الخوف الشديد ، ويحملها على حسن الاستعداد لهذا اليوم . الذى لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئاً . وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث والآثار ، منها ما رواه ابن أبى حاتم ، عن المنهال بن عمرو قال إذا قال الله - عز وجل - { خُذُوهُ … } ابتدره سبعون ألف ملك ، وإن الملك منهم ليقول هكذا - أى ليفعل هكذا - فيلقى سبعين ألفا فى النار . ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت بهذا الشقى إلى هذا المصير الأليم فقال { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ . وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } . أى إن هذا الشقى إنما حل به ما حل من عذاب … لأنه كان فى الدنيا ، مصرا على الكفر ، وعلى عدم الإِيمان بالله الواحد القهار … وكان كذلك { وَلاَ يَحُضُّ } أى لا يحث نفسه ولا غيره { عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أى على بذل طعامه أو طعام غيره للمسكين ، الذى حلت به الفاقة والمسكنة . ولعل وجه التخصيص لهذين الأمرين بالذكر ، أن أقبح شئ يتعلق بالعقائد ، وهو الكفر بالله - تعالى - وأن أقبح شئ فى الطباع ، هو البخل وقسوة القلب . ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات ، بزيادة البيان للمصير الأليم لهذا الشقى فقال { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ } أى يوم القيامة { هَا هُنَا حَمِيمٌ } أى ليس له فى هذا اليوم من صديق ينفعه ، أو من قريب يشفق عليه ، أو يحميه ، أو يدفع عنه . { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } أى وليس له فى جهنم من طعام سوى الغسلين وهو صديد أهل النار … أو شجر يأكله أهل النار ، فيغسل بطونهم ، أى يخرج أحشاءهم منها ، أو ليس لهم إلا شر الطعام وأخبثه . { لاَّ يَأْكُلُهُ } أى الغسلين { إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } أى إلا الكافرون الذين تعمدوا ارتكاب الذنوب ، وأصروا عليها ، من خَطِئَ الرجل إذا تعمد ارتكاب الذنب . فالخاطئ هو من يرتكب الذنب عن تعمد وإصرار . والمخطئ هو من يرتكب الذنب عن غير إصرار وتعمد . وهكذا . نجد الآيات الكريمة قد ساقت أشد ألوان الوعيد والعذاب … للكافرين ، بعد أن ساقت قبل ذلك ، أعظم أنواع النعيم المقيم للمؤمنين . وبعد هذا العرض - الذى بلغ الذروة فى قوة التأثير - لأهوال يوم القيامة ، ولبيان حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة المكذبين … بعد كل ذلك أخذت السورة فى أواخرها ، فى تقرير حقيقة هذا الدين ، وفى تأكيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وفى بيان أن هذا القرآن من عنده - تعالى - وحده … فقال - سبحانه - { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا … } .