Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 175-177)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال صاحب المنار " هذا مثل ضربه الله - تعالى - للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها قادرا على بيانها والجدل بها ، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم ، بل كان عمله مخالفا تمام المخالفة لعلمه فسلب هذه الآيات ، لأن العلم الذى لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التى تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض ، أو كان فى التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له ، كالثوب الخلق يلقيه صاحبه ، والثعبان يتجرد من جلده حتى لا تبقى له به صلة على حد قول الشاعر @ خلقوا ، وما خلقوا لمكرمة فكأنهم خلقوا وما خلقوا رزقوا ، وما رزقوا سماح يد فكأنهم رزقوا وما رزقوا @@ فحاصل معنى المثل أن المكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله مع إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذى حرم ثمرة الانتفاع من علمه ، لأن كلا منهما لم ينظر فى الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص " . وقوله - تعالى - { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِيۤ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } أى أقرأ على قومك يا محمد ليعتبروا ويتعظوا خبر ذلك الانسان الذى آتيناه بأن علمناه إياها ، وفهمناه مراميها ، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة ، أو الحية من جلدها . والمراد أنه خرج منه بالكلية بأن كفر بها ، ونبذها وراء ظهره ، ولم ينتفع بما اشتملت عليه من عظات وإرشادات . وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه ، ويقال لكل شىء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه . وفى التعبير به مالا يخفى من المبالغة وقوله { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } أى فلحقه الشيطان وأدركه فصار هذا الإِنسان بسبب ذلك من زمرة الضالين الراسخين فى الغواية ، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين وفى التعبير بقوله { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ } مبالغة فى ذم هذا الإِنسان وتحقيره ، جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه ، فهو على حد قول الشاعر @ وكان فتى من جند إبليس فارتقى به الحال حتى صار إبليس من جنده @@ قال الجمل أتبعه فيه وجهان أحدهما أنه متعد لواحد بمعنى أدركه ولحقه ، وهو مبالغة فى حقه حيث جعل إماما للشيطان . وثانيهما أن يكون متعديا لاثنين لأنه منقول بالهمزة من تبع ، والمفعول الثانى محذوف تقديره فأتبعه الشيطان خطواته ، أى جعله تابعا لها وقوله { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه . والضمير فى قوله { لَرَفَعْنَاهُ } يعود إلى الشخص المعبر عنه بالاسم الموصول { ٱلَّذِيۤ } والضمير فى قوله { بِهَا } يعود إلى الآيات . ومفعول المشيئة محذوف . أى ولو شئنا رفعه بسبب تلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان لرفعناه لأننا لا يستعصى على قدرتنا شىء ، ولكننا لم نفعل ذلك لأن سنتنا جرت أن نرفع من عنده الاستعداد لذلك أما الذين استحبوا العمى على الهدى فنذرهم فى ضلالهم يعمهون . وقد بين القرآن هذا المعنى فى قوله { وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ } أخلد إلى الأرض أى ركن إليها . وأصل الإِخلاد اللزوم للمكان من الخلود . أى ولو شئنا لرفعنا هذا الإِنسان إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات ولكنه هو الذى ركن إلى الدنيا ، واطمأن بها ، واستحوذت بشهواتها على نفسه ، واختار لنفسه طريق التسفل المنافى للرفعة ، واتبع هواه فى ذلك فلم ينتفع بشىء من الآيات التى آتيناه إياه . أى أن مقتضى هذه الآيات أن ترفع صاحبها إلى أعلى عليين ، ولكن هذا المقتضى عارضه مانع وهو إخلاد من أتى هذه الآيات إلى الأرض واتباعه للهوى ، فتغلب المانع على المقتضى ، فهو كما قال القائل @ قالوا فلان عالم فاضل فأكرموه مثلما يقتضى فقلت لما لم يكن عاملا تعارض المانع والمقتضى @@ قال الآلوسى وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه - تعالى - ونسبة الانسلاخ والإِخلاد إلى العبد ، مع أن الكل من الله - تعالى - ، أذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه . ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك " . وقوله { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } . اللهث إدلاع اللسان بالنفس الشديد . يقال لهث الكلب يلهث - كسمع ومنع - لهثا ولهاثا ، إذا أخرج لسانه فى التنفس . والمعنى فمثل هذا الإِنسان الذى آتيناه فانسلخ منها وأصبح إيتاء الآيات وعدمها بالنسبة له سواء ، مثله كمثل الكلب إن شددت عليه وأتبعته لهث ، وإن تركته على حاله لهث - أيضا - ، فهو دائم اللهث فى الحالين . لأن اللهث طبيعة فيه ، وكذلك حال الحريص على الدنيا ، المعرض عن الآيات بعد إيتائها ، إن وعظته فهو لإِيثاره الدنيا على الآخرة لا يقبل الوعظ ، وإن تركت وعظه فهو حريص - أيضا - على الدنيا وشهواتها . والإِشارة فى قوله { ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ } إلى وصف الكلب أو إلى المنسلخ من الآيات ، أى ذلك المثل البعيد الشأن فى الغرابة مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من الجاحدين المستكبرين المنسلخين عن الهدى بعد أن كان فى حوزتهم . وقوله { فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أى إذا ثبت ذلك ، فاقصص على قومك أيها الرسول الكريم المقصوص عليك من جهتنا لعلهم يتفكرون فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال . والفاء فى قوله { فَٱقْصُصِ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها . والقصص مصدر بمعنى اسم المفعول ، واللام فيه للعهد ، وجملة الترجى فى محل نصب على أنها حال من ضمير المخاطب أو فى موضع المفعول له . أى فاقصص القصص راجيا لتفكرهم ، أو رجاءً لتفكرهم . وقوله { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } استئناف مسوق لبيان كمال قبحهم بعد البيان السابق . و { سَآءَ } بمعنى بئس وفاعلها مضمر . و { مَثَلاً } تمييز مفسر له ، والمخصوص بالذم قوله - تعالى - { ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } . أى ساء مثلا مثل أولئك القوم الذين كذبوا بآياتنا حيث شبهوا بالكلاب إما فى استواء الحالتين فى النقصان وأنهم ضالون وعظوا أم لم يوعظوا ، وإما فى الخسة ، فإن الكلاب لاهمة لها إلا فى تحصيل أكلة أو شهوة ، فمن خرج عن خير الهدى والعلم وأقبل على هواه صار شبيها بالكلب ، وبئس المثل مثله ولهذا ثبت فى الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس لنا مثل السوء . العائد فى هبته كالكلب يعود فى قيئه " . وقوله { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } معطوف على { كَذَّبُواْ } داخل معه فى حكم الصلة بمعنى أنهم جمعوا بين أمرين قبيحين التكذيب وظلمهم أنفسهم أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم وحدها بارتكابهم تلك الموبقات والخطيئات . فإن العقوبة لا تقع إلا عليهم لا على غيرهم . هذا ، والذى ذهب إليه المحققون من العلماء أن هذه الآيات الكريمة المثل فيها مضروب لكل إنسان أوتى علما ببعض آيات الله ، ولكنه لم يعمل بمقتضى علمه ، بل كفر بها وبنذها وراء ظهره وصار هو والجاهل سواء . وقيل إن الآيات الكريمة واردة فى شخص معين ، واختلفوا فى هذا المعين . فبعضهم قال إنها فى أمية بن أبى الصلت ، فإنه كان قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسل رسولا وتمنى أن يكون هو هذا الرسول ، فلما أرسل الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم حسده ومات كافراً . وبعضهم قال نزلت فى أبى عامر الراهب الذى سماه النبى صلى الله عليه وسلم " الفاسق " كان يترهب فى الجاهلية فلما جاء الإِسلام خرج إلى الشام ، وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار والشقاق . وبعضهم قال إنها فى منافقى أهل الكتاب ، كانوا يعرفون صفة النبى صلى الله عليه وسلم ومخرجه ، فلما بعثه الله - تعالى - كفروا به . وبعضهم قال إنها نزلت لتحكى قصة رجل من علماء اليهود اسمه بلعم ابن باعوراء أوتى علم بعض كتب الله ثم انسلخ منها بأن كفر بها ونبذها بعد أن رشاه اليهود . والذى نراه أن الرأى الأول الذى عليه المحققون من المفسرين هو الراجح ، وأن هؤلاء الذين ذكروا يندرجون تحته ، لأنه لم يرد نص صحيح يعين اسم الذى وردت الآيات فى حقه ، فوجب أن نحملها على أنها واردة فى شأن كل من علم الحق فأعرض عنه واتبع هواه . ثم يعقب القرآن على هذا المثل ببيان أن الهداية والضلال من الله وأن هناك أقواماً من الجن والإِنس قد خلقوا لجهنم بسبب إيثارهم طريق الشر على طريق الخير قال - تعالى - { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ … } .