Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 71, Ayat: 21-28)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - سبحانه - { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ … } كلام مستأنف . لأن ما سبقه يستدعى سؤالا تقديره ماذا كانت عاقبة قوم نوح بعد أن نصحهم ووعظهم بتلك الأساليب المتعددة ؟ فكان الجواب { قَالَ نُوحٌ } - عليه السلام - بعد أن طال نصحه لقومه ، وبعد أن مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وبعد أن يئس من إيمانهم وبعد أن أخبره - سبحانه - أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . { قَالَ } متضرعا إلى ربه { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } أى إن قومى قد عصونى وخالفوا أمرى ، وكرهوا صحبتى ، وأصروا واستكبروا استكبارا عظيما فى دعوتى . { وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أى إنهم أصروا على معصيتى ، ولم يكتفوا بذلك بل بجانب إعراضهم عنى ، اتبعوا غيرى … اتبعوا رؤساءهم أهل الأموال والأولاد الذين لم تزدهم النعم التى أنعمت بها عليهم إلا خسرانا وجحودا ، وضلالا فى الدنيا ، وعقوبة فى الآخرة . فالمراد بالذين لم يزدهم مالهم وولدهم إلا خسارا أولئك الكبراء والزعماء الذين رزقهم الله المال والولد ، ولكنهم استعملوا نعمه فى معصيته لا فى طاعته . وقوله { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } صفة أخرى من صفاتهم الذميمة ، وهو معطوف على صلة " مَن " والجمع باعتبار معناها ، كما أن الإِفراد فى الضمائر السابقة باعتبار اللفظ . والمكر هو التدبير فى خفاء لإِنزال السوء بالممكور به . أى أن هؤلاء الزعماء الذين استعملوا نعمك فى الشر ، لم يكتفوا بتحريض أتباعهم على معصيتى ، بل مكروا بى وبالمؤمنين مكرا قد بلغ النهاية فى الضخامة والعظم . فقوله { كُبَّاراً } مبالغة فى الكبر والعظم . أى مكرا كبيرا جدا لا تحيط بحجمه العبارة . وكان من مظاهر مكرهم تحريضهم لسفلتهم على إنزال الأذى بنوح - عليه السلام - وبأتباعه - وإيهامهم لهؤلاء السفلة أنهم على الحق ، وأن نوحا ومن معه على الباطل . وكان من مظاهر مكرهم - أيضا - ما حكاه القرآن بعد ذلك عنهم فى قوله { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } . أى ومن مظاهر مكر هؤلاء الرؤساء أنهم قالوا لأتباعهم . احذروا أن تتركوا عبادة آلهتكم ، التى وجدتم على عبادتها آباءكم ، واحذروا أيضا أن تتركوا عبادة هذه الأصنام الخمسة بصفة خاصة ، وهى ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه وهذه أسماء أصنامهم التى كانوا يعبدونها من دون الله . فقد روى البخارى عن ابن عباس صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب بعد ، أما " ود " فكانت لقبيلة بنى كلب بدومة الجندل . وأما " سواع " فكانت لهذيل ، وأما " يغوث " فكانت لبنى غطيف ، وأما " يعوق " فكانت لهمدان ، وأما " نسر " فكانت لحمير . وهى أسماء رجال صالحين من قوم نوح - عليه السلام - فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم ، أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون عليها أنصابا ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا . وقال ابن جرير كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدرون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم ، وبهم يسقون المطر . فعبدوهم . وقوله - تعالى - { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } معمول لقول مقدر ، وهذا القول المقدر معطوف على أقوال نوح السابقة . أى قال نوح مناجيا ربه بعد أن يئس من إيمان قومه يا رب ، إن قومى قد عصونى ، وإنهم قد اتبعوا رؤساءهم المغرورين ، وإن هؤلاء الرؤساء قد مكروا بى وبأتباعى مكراً عظيما ، ومن مظاهر مكرهم أنهم حرضوا السفهاء على العكوف على عبادة أصنامهم … وأنهم قد أضلوا خلقا كثيرا بأن حببوهم فى الكفر وكرهوا إليهم الإِيمان . وقال نوح - أيضا - وأسألك يا رب أن لا تزيد الكافرين إلا ضلالا على ضلالهم ، فأنت الذى أخبرتنى بأنه " لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ " وإذاً فدعاء نوح - عليه السلام - عليهم بالازدياد من الضلال الذى هو ضد الهدى ، وإنما كان بعد أن يئس من إيمانهم ، وبعد أن أخبره ربه أنهم لن يؤمنوا . قال صاحب الكشاف قوله { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } الضمير للرؤساء ، ومعناه وقد أضلوا كثيرا قبل هؤلاء الذين أمروهم بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام … ويجوز أن يكون الضمير للأصنام ، كقوله - تعالى - { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرا مِنَ ٱلنَّاسِ } فإن قلت علام عطف قوله { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } ؟ قلت على قوله { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } على حكاية كلام نوح … ومعناه قال رب إنهم عصون ، وقال ولا تزد الظالمين إلا ضلالا . فإن قلت كيف جاز أن يريد لهم الضلال ، ويدعو الله بزيادته ؟ قلت لتصميمهم على الكفر ، ووقوع اليأس من إيمانهم … ويجوز أن يريد بالضلال الضياع والهلاك … وقوله - سبحانه - { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } كلام معترض بين ضراعات نوح إلى ربه ، والمقصود به التعجيل ببيان سوء عاقبتهم ، والتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه . و " من " فى قوله { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ } للتعليل ، و " ما " مزيدة لتأكيد هذا التعليل . والخطيئات جمع خطيئة ، والمراد بها هنا الإِشراك به - تعالى - وتكذيب نوح - عليه السلام - والسخرية منه ومن المؤمنين . أى بسبب خطيئاتهم الشنيعة ، وليس بسبب آخر { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } يصلون سعيرها فى قبورهم إلى يوم الدين ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى . وهم عندما نزل بهم الطوفان الذى أهلكهم ، وعندما ينزل بهم عذاب الله فى الآخرة . لن يجدوا أحدا ينصرهم ويدفع عنهم عذابه - تعالى - لامن الأصنام التى تواصوا فيما بينهم بالعكوف على عبادتها ، ولا من غير هذه الأصنام . فالآية الكريمة تعريض بمشركى قريش ، الذين يزعمون أن أصنامهم ستشفع لهم يوم القيامة ، والذين حكى القرآن عنهم قولهم { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } والتعبير بالفاء فى قوله { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } للإشعار بأن دخولهم النار كان فى أعقاب غرقهم بدون مهلة ، وبأن صراخهم وعويلهم كان بعد نزول العذاب بهم مباشرة ، إلا أنهم لم يجدوا أحدا ، يدفع عنهم شيئا من هذا العذاب الأليم . ثم واصلت السورة الكريمة حكاية ما ناجى نوح به ربه ، فقالت { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } . أى وقال نوح متابعا حديثه مع ربه ، ومناجاته له يا رب ، لا تترك على الأرض من هؤلاء الكافرين { دَيَّاراً } أى واحدا يسكن دارا ، أو واحدا منهم يدور فى الأرض ويتحرك عليها ، بل خذهم جميعا أخذ عزيز مقتدر . فقوله { دَيَّاراً } مأخوذ من الدار ، أو الدوران ، وهو التحرك ، والمقصود لا تذر منهم أحد أصلا ، بل اقطع دابرهم جميعا . قالوا والديار من الأسماء التى لا تستعمل إلا فى النفى العام . يقال ما بالدارديار . أى ليس بها أحد ألبتة ، وهو اسم بزنة فَيْعَال . وقوله { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } تعليل لدعائه عليهم جميعا بالهلاك . أى يا رب لا تترك منهم أحدا سالما ، بل أهلكهم جميعا لأنك إن تترك منهم أحدا على أرضك بدون إهلاك ، فإن هؤلاء المتروكين من دأبهم - كما رأيت منهم زمانا طويلا - إضلال عبادك عن طريق الحق . وقوله { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } زيادة فى ذمهم وفى التشنيع عليهم . والفاجر هو المتصف بالفجور ، والملازم له ملازمة شديدة ، والفجور هو الفعل البالغ للنهاية فى الفساد والقبح . والكَفار هو المبالغ فى الكفر ، والجحود لنعم الله - تعالى - . أى إنك يا إلهى إن تتركهم بدون إهلاك ، يضلوا عبادك عن كل خير ، وهم فوق ذلك ، لن يلدوا إلا من هو مثلهم فى الفجور والكفران لأنهم قد نشَّأوا أولادهم على كراهية الحق ، وعلى محبة الباطل . قال الجمل فإن قيل كيف علم نوح أن أولادهم يكفرون ؟ أجيب بأنه لبث فيهم ألف سنة إلأ خمسين عاماً ، فعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل منهم ينطلق إليه بابنه ويقول له احذر هذا - أى نوحا - فإنه كذاب ، وإن أبى حذرنى منه ، فيموت الكبير ، وينشأ الصغير على ذلك . وعلى أية حال فالذى نعتقده أن نوحا - عليه السلام - ما دعا عليهم بهذا الدعاء ، وما قال فى شأنهم هذا القول - وهو واحد من أولى العزم من الرسل - إلا بعد أن يئس من إيمانهم ، وإلا بعد أن أخبره ربه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، وإلا بعد أن رأى منهم - بعد ألف سنة إلا خمسين عاما عاشها معها - أنهم قوم قد استحبوا العمى على الهدى ، وأن الأبناء منهم يسيرون على طريقة الآباء فى الكفر والفجور . . وإلى جانب دعاء نوح - عليه السلام - على الكافرين بالهلاك الساحق … نراه يختتم دعاءه بالمغفرة والرحمة للمؤمنين ، فيقول { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } . أى يا رب أسألك أن تغفر لى ذنوبى ، وأن تغفر لوالدى - أيضا - ذنوبهما ، ويفهم من هذا الدعاء أنهما كانا مؤمنين ، وإلا لما دعا لهما بهذا الدعاء . { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } واغفر يا إلهى لكل من دخل بيتى وهو متصف بصفة الإِيمان ، فيخرج بذلك من دخله وهو كافر كامرأته وابنه الذى غرق مع المغرقين . { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أى واغفر يا رب ذنوب المؤمنين والمؤمنات بك إلى يوم القيامة . { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } أى ولا تزد الظالمين إلا هلاكا وخسارا ودمارا . يقال تبره يتبره ، إذا أهلكه . ويتعدى بالتضعيف فيقال تبره الله تتبيرا ، ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } وهكذا اختتمت السورة الكريمة بهذا الدعاء الذى فيه طلب المغفرة للمؤمنين ، والهلاك للكافرين . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .