Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 71, Ayat: 5-20)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } بيان للطرق والمسالك التى سلكها نوح مع قومه ، وهو يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - بحرص شديد ومواظبة تامة … وموقف قومه من دعوته لهم . والمقصود بهذا الخبر لازم معناه ، وهو الشكاية إلى ربه ، والتمهيد لطلب النصر منه - تعالى - عليهم ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه أن نوحا - عليه السلام - لم يقصر فى تبليغ رسالته . أى قال نوح متضرعا إلى ربه يا رب إنك تعلم أننى لم أقصر فى دعوة قومى إلى عبادتك ، تارة بالليل وتارة بالنهار ، من غير فتور ولا توان . { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ } لهم إلى عبادتك وطاعتك { إِلاَّ فِرَاراً } أى إلا تباعدا من الإِيمان وإعراضا عنه . والفرار الزَّوَغَان والهرب . يقال فر فلان يفر فرارا ، فهو فرور ، إذا هرب من طالبه ، وزاغ عن عينه . والتعبير بقوله { دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } ، يشعر بحرص نوح التام على دعوتهم ، فى كل وقت يظن فيه أن دعوته لهم قد تنفع . كما أن التعبير بقوله { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } يدل دلالة واضحة على إعراضهم التام عن دعوته ، أى فلم يزدهم دعائى شيئا من الهدى ، وإنما زادهم بُعْداً عنى ، وفرارا منى . وإسناد الزيادة إلى الدعاء ، من باب الإِسناد إلى السبب ، كما فى قولهم سرتنى رؤيتك . وقوله { فِرَاراً } مفعول ثان لقوله { فَلَمْ يَزِدْهُمْ } والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال والمستثنى منه مقدر ، أى فلم يزدهم دعائى شيئا من أحوالهم التى كانوا عليها إلا الفرار . ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا . أى فلم يزدهم دعائى قرباً من الحق ، لكن زادهم فرارا منه . ثم أضاف إلى فرارهم منه ، حالة أخرى . تدل على إعراضهم عنه ، وعلى كراهيتهم له ، فقال { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } . وقوله { كُلَّمَا } معمول لجملة { جَعَلُوۤاْ } التى هى خبر إن ، واللام فى قوله { لِتَغْفِرَ لَهُمْ } للتعليل . والمراد بأصابعهم جزء منها . واستغشاء الثياب معناه جعلها غشاء ، أى غطاء لرءوسهم ولأعينهم حتى لا ينظروا إليه ، ومتعلق الفعل " دعوتهم " محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، وهو أمرهم بعبادة الله وتقواه . والمعنى وإنى - يا مولاى - كلما دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتى فيما أمرتهم به ، لكى تغفر لهم ذنوبهم … ما كان منهم إلا أن جعلوا أصابعهم فى آذانهم حتى لا يسمعوا قولى ، وإلا أن وضعوا ثيابهم على رءوسهم . وأبصارهم حتى لا يرونى ، وإلا أن { وَأَصَرُّواْ } إصرارا تاما على كفرهم { وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } عظيما عن قبول الحق . فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد صورت عناد قوم نوح ، وجحودهم للحق ، تصويرا بلغ الغاية فى استحبابهم العمى على الهدى . فهى - أولا - جاءت بصيغة " كلما " الدالة على شمول كل دعوة وجهها إليهم نبيهم نوح - عليه السلام - أى فى كل وقت أدعوهم إلى الهدى يكون منهم الإعراض . وهى - ثانيا - عبرت عن عدم استماعهم إليه بقوله - تعالى - { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } . وعبر عن الأنامل بالأصابع على سبيل المبالغة فى إرادة سد المسامع ، فكأنهم لو أمكنهم إدخال أصابعهم جميعها فى آذانهم لفعلوا . حتى لا يسمعوا شيئا مما يقوله نبيهم لهم . فإطلاق اسم الأصابع على الأنامل من باب المجاز المرسل ، لعلاقة البعضية ، حيث أطلق - سبحانه - الكل وأراد البعض ، مبالغة فى كراهيتهم لسماع كلمة الحق . وهى - ثالثا - عبرت عن كراهيتهم لنبيهم ومرشدهم بقوله - تعالى - { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } أى بالغوا فى التَّغطِّى بها ، حتى لكأنهم قد طلبوا منها أن تلفهم بداخلها حتى لا يتسنى لهم رؤيته إطلاقا . وهذا كناية عن العداوة الشديدة ، ومنه قول القائل لبس لى فلان ثياب العداوة . وهى - رابعا - قد بينت بأنهم لم يكتفوا بكل ذلك ، بل أضافوا إليه الإِصرار على الكفر - وهو التشدد فيه ، والامتناع من الإِقلاع عنه مأخوذ من الصَّرة بمعنى الشدة - والاستكبار العظيم عن الاستجابة للحق . فقد أفادت هذه الآية ، أنهم عصوا نوحا وخالفوه مخالفة ليس هناك ما هو أقبح منها ظاهرا ، حيث عطلوا أسماعهم وأبصارهم ، وليس هناك ما هو أقبح منها باطنا ، حيث أصروا على كفرهم ، واستكبروا على اتباع الحق . ومع كل هذا الإِعراض والعناد … فقد حكت لنا الآيات بعد ذلك ، أن نوحا - عليه السلام - قد واصل دعوته لهم بشتى الأساليب . فقال - كما حكى القرآن عنه - { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } . وقوله { جِهَاراً } صفة لمصدر محذوف . أى دعوتهم دعاء جهارا . أى مجاهرا لهم بدعوتى ، بحيث صارت دعوتى لهم أمامهم جميعا . { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ } تارة { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } تارة أخرى . أى أنه - عليه السلام - توخى ما يظنه يؤدى إلى نجاح دعوته ، وراعى أحوالهم فى ذلك ، فهو تارة يدعوهم جهرا ، وتارة يدعوهم سرا ، وتارة يجمع بين الأمرين . قال صاحب الكشاف فإن قلت ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا ، ثم دعاهم جهارا ، ثم دعاهم فى السر والعلن ، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف ؟ قلت قد فعل - عليه السلام - كما يفعل الذى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فى الابتداء بالأهوان والترقى فى الأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة فى السر ، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإِسرار والإِعلان . ومعنى " ثم " الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإِسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما . . ثم حكى - سبحانه - جانبا من إرشادات نوح لقومه فقال { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أى فقلت لهم - على سبيل النصح والإِرشاد إلى ما ينفعهم ويغريهم بالطاعة - { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } بأن تتوبوا إليه ، وتقلعوا عن كفركم وفسوقكم { إِنَّهُ } - سبحانه - { كَانَ غَفَّاراً } . أى كثير الغفران لمن تاب إليه وأناب . { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } والمراد بالسماء هنا المطر لأنه ينزل منها ، وقد جاء فى الحديث الشريف أن من أسماء المطر السماء . فقد روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهنى أنه قال " صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية ، على إثر سماء كانت من الليل … " أى على إثر إمطار نازلة بالليل . ومنه قول بعض الشعرا @ إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا @@ والمدرار المطر الغزير المتتابع ، يقال درت السماء بالمطر ، إذا نزل منها بكثرة وتتابع ، والدر ، والدرور معناه السيلان … فقوله { مِّدْرَاراً } صيغة مبالغة منهما . أى استغفروا ربكم وتوبوا إليه ، فإنكم إذا فعلتم ذلك أرسل الله - تعالى - عليكم بفضله ورحمته ، أمطارا غزيرة متتابعة ، لتنتفعوا بها فى مختلف شئون حياتكم . وفضلا عن ذلك { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ } أى بساتين عظيمة ، { وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } جارية تحت أشجار هذه الجنات ، لتزداد جمالا ونفعا . قال الإِمام الرازى ما ملخصه " إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا ، حبس الله عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم … فرجعوا إلى نوح ، فقال لهم استغفروا ربكم من الشرك ، حتى يفتح عليكم أبواب نعمه . واعلم أن الاشتغال بالطاعة ، سبب لانفتاح أبواب الخيرات ، ويدل عليه وجوه أحدها أن الكفر سبب لخراب العالم . والإِيمان سبب لعمارة العالم . وثانيها الآيات الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى ، ومنها قوله - تعالى - { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ … } وثالثها أن عمر خرج يستسقى فما زاد على الاستغفار . فقيل له ما رأيتك استسقيت ؟ فقال لقد استسقيت لكم بمجاديح السماء ، والمجاديح جمع مِجْدَح - بكسر فسكون وهو نجم من النجوم المعروفة عند العرب . وشكا رجل إلى الحسن البصرى الفاقة ، وشكا إليه آخر الجدب ، وشكا إليه ثالث قلة النسل … فأمر الجميع بالاستغفار … فقيل له أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة ، فأمرتهم جميعا بالاستغفار ؟ فتلا الحسن هذه الآيات الكريمة . وما قاله الإِمام الرازى - رحمه الله - يؤيده القرآن الكريم فى كثير من آياته ، ويؤيده واقع الحياة التى نحياها ونشاهد أحداثها . أما آيات القرآن الكريم فمنها قوله - تعالى - { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } وقوله - سبحانه - على لسان هود - عليه السلام - { وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ … } وقال - عز وجل - { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } وأما واقع الحياة . فإننا نشاهد بأعيننا الأمم التى تطبق شريعة الله - تعالى - وتعمل بما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم من آداب وأحكام وهدايات . نرى هذه الأمم سعيدة فى حياتها ، آمنة فى أوطانها ، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، وإذا أصابها شئ من النقص فى الأنفس أو الثمرات … فذلك من باب الامتحان الذى يمتحن الله - تعالى - به عباده ، والذى لا يتعارض مع كون العاقبة الطيبة إنما هى لهذه الأمم الصادقة فى إيمانها . وما يجرى على الأمم والشعوب ، يجرى أيضا على الأفراد والجماعات ، فتلك سنة الله التى لا تتغير . أما الأمم الفاسقة عن أمر ربها ، فإنها مهما أوتيت من ثراء وبسطة فى الرزق … فإن حياتها دائما تكون متلبسة بالقلق النفسى ، والشقاء القلبى ، والاكتئاب الذى يؤدى إلى فساد الحال واضطراب البال . وقوله - سبحانه - بعد ذلك حكاية عن نوح - عليه السلام - { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً . وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } بيان لما سلكه نوح فى دعوته لقومه ، من جمعه بين الترغيب والترهيب . فهو بعد أن أرشدهم إلى أن استغفارهم وطاعتهم لربهم ، تؤدى بهم إلى البسطة فى الرزق … أتبع ذلك بزجرهم لسوء أدبهم مع الله - تعالى - منكرا عليهم استهتارهم واستخفافهم بما يدعوهم إليه . وقوله { مَّا لَكُمْ } مبتدأ وخبر ، وهو استفهام قصد به توبيخهم والتعجيب من حالهم . ولفظ " ترجون " يرى بعضهم أنه بمعنى تعتقدون . والوقار معناه التعظيم والإِجلال . والأطوار جمع طور ، وهو المرة والتارة من الأفعال والأزمان . أى ما الذى حدث لكم - أيها القوم - حتى صرتم لا تعتقدون لله - تعالى - عظمة أو إجلالا ، والحال أنه - سبحانه - هو الذى خلقكم وأوجدكم فى أطوار متعددة ، نطفة ، فعلقة ، فمضغة . كما قال - سبحانه - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } وكما قال - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } قال القرطبى ما ملخصه قوله - تعالى - { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } قيل الرجاء هنا بمعنى الخوف . أى مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم بالعقوبة . وقيل المعنى ما لكم لا تعلمون لله عظمة … أولا ترون لله عظمة … أو لا تبالون أن لله عظمة . . والوقار العظمة ، والتوقير التعظيم … وبعد هذا الترغيب والترهيب والتوبيخ … أخذ فى لفت أنظارهم إلى عجائب صنع الله فى خلقه ، فقال { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً . وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } . والاستفهام فى قوله { أَلَمْ تَرَوْاْ … } للتقرير ، والرؤية بصرية وعلمية ، لأنهم يشاهدون مخلوقات الله - تعالى - ويعلمون أنه - سبحانه - هو الخالق . و { طِبَاقاً } أى متطابقة كل طبقة أعلى من التى تحتها . أى لقد علمتم ورأيتم أن الله - تعالى - هو الذى خلق { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } متطابقة ، بعضها فوق بعض { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } أى وجعل - سبحانه - بقدرته القمر فى السماء الدنيا نورا للأرض ومن فيها . وإنما قال { فِيهِنَّ } مع أنه فى السماء الدنيا ، لأنها محاطة بسائر السموات فما فيها يكون كأنه فى الكل . أو لأن كل واحدة منها شفافة ، فيرى الكل كأنه سماء واحدة . فساغ أن يقال فيهن . وقوله { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } أى كالسراج فى إضاءتها وتوهجها وإزالة ظلمة الليل ، إذ السراج هو المصباح الزاهر نوره ، الذى يضئ ما حوله . قال الآلوسى قوله { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } أى منوراً لوجه الأرض فى ظلمة الليل ، وجعله فيهن مع أنه فى إحداهن - وهى السماء الدنيا - ، كما يقال زيد فى بغداد وهو فى بقعة منها . والمرجح له الإِيجاز والملابسة بالكلية والجزئية ، وكونا طباقا شفافة . { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } يزيل الظلمة … وتنوينه للتعظيم ، وفى الكلام تشبيه بليغ ولكون السراج أعرف وأقرب ، جعل مشبها به ، ولاعتبار التعدى إلى الغير فى مفهومه بخلاف النور ، كان أبلغ منه . وقال بعض العلماء وفى جعل القمر نورا ، إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته . فإن القمر مظلم . وإنما يستضئ بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه ، بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعض وتمام ، هو أثر ظهوره هلالا … ثم بدرا . وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجا ، لأنها ملتهبة ، وأنوارها ذاتية فيها ، صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر ، مثل أنوار السراج تملأ البيت . ثم انتقل نوح - عليه السلام - من تنبيههم إلى ما فى خلق السموات والشمس والقمر من دلالة على وحدانية الله وقدرته … إلى لفت أنظارهم إلى التأمل فى خلق أنفسهم ، وفى مبدئهم وإعادتهم إلى الحياة مرة أخرى بعد موتهم ، فقال - كما حكى القرآن عنه - { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً . ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } والمراد بأنبتكم أنشأكم وأوجدكم ، فاستعير الإِنبات للإِنشاء للمشابهة بين إنبات النبات ، وإنشاء الإِنسان ، من حيث إن كليهما تكوين وإيجاد للشئ بقدرته - تعالى - . والمراد بأنبتكم أنبت أصلكم وهو أبوكم آدم ، فأنتم فروع عنه . و { نَبَاتاً } مصدر لأنبت على حذف الزوائد ، فهو مفعول مطلق لأنبتكم ، جئ به للتوكيد ، ومصدره القياسى " إنباتا " واختير " نباتا " لأنه أخف . قال الجمل قوله نباتا ، يجوز أن يكون مصدرا لأنبت على حذف الزوائد . ويسمى اسم مصدر ، ويجوز أن يكون مصدرا لنبتم مقدرا . أى فنبتّم نباتا - فيكون منصوبا بالمطاوع المقدر . أى والله - تعالى - هو الذى أوجد وأنشأ أباكم آدم من الأرض إنشاء وجعلكم فروعا عنه ، ثم يعيدكم إلى هذه الأرض بعد موتكم لتكون قبورا لكم ، ثم يخرجكم منها يوم البعث للحساب والجزاء . وعبر - سبحانه - عن الإِنشاء بالإِنبات ، لأن هذا التعبير يشعر بأن الإِنسان مخلوق محدث ، وأنه مثل النبات يحصد مثل يعود إلى الحياة مرة أخرى . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله " استعير الإِنبات للإِنشاء كما يقال زرعك الله للخير . وكانت هذه الاستعارة أدل دليل على الحدوث لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات " . ثم ختم نوح - عليه السلام - إرشاداته لقومه ، بلفت أنظارهم إلى نعمة الأرض التى يعيشون عليها ، فقال { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً . لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } أى والله - تعالى - وحده هو الذى جعل لكم - بفضله ومنته - الأرض مبسوطة ، حيث تتقلبون عليها كما يتقلب النائم على البساط . وجعلها لكم كذلك { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً } أى لكى تتخذوا منها لأنفسكم طرقا { فِجَاجاً } أى متسعة جمع فج وهو الطريق الواسع . وقوله { بِسَاطاً } تشبيه بليغ . أى جعلها لكم كالبساط ، وهذا لا يتنافى مع كون الأرض كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا ، كانت القطعة منها كالسطح والبساط فى إمكان الانتفاع بها ، والتقلب على أرجائها . وهكذا نرى أن نوحا - عليه السلام - قد سلك مع قومه مسالك متعددة لإِقناعهم بصحة ما يدعوهم إليه ، ولحملهم على طاعته ، والإِيمان بصدق رسالته . لقد دعاهم بالليل والنهار ، وفى السر وفى العلانية ، وبين لهم أن طاعتهم لله - تعالى - تؤدى إلى إمدادهم بالأموال والأولاد ، والجنات والأنهار ووبخهم على عدم خشيتهم من الله - تعالى - وذكرهم بأطوار خلقهم ، ولفت أنظارهم إلى بديع صنعه - سبحانه - فى خلق السموات والشمس والقمر ، ونبههم إلى نشأتهم من الأرض ، وعودتهم إليها ، وإخراجهم منها للحساب والجزاء ، وأرشدهم إلى نعم الله - تعالى - فى جعل الأرض مبسوطة لهم . وهكذا حاول نوح - عليه السلام - أن يصل إلى آذان قومه وإلى عقولهم وقلوبهم ، بشتى الأساليب الحكيمة ، والتوجيهات القويمة ، فى صبر طويل وإرشاد دائم . ولكن قومه كانوا قد بلغوا الغاية فى الغباء والجهالة والعناد والطغيان ، لذى نرى السورة الكريمة تحكى عن نوح - عليه السلام - ضراعته إلى ربه ، والتماسه منه - تعالى استئصال شأفتهم ، وقطع دابرهم ، لنستمع فى تدبر إلى قوله - تعالى - . { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ … } .