Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 72, Ayat: 16-28)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله سبحانه { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً … } معطوف على قوله - تعالى - { أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ … } فهو من جملة الموحى به ، وهو من كلام الله - تعالى - لبيان سنة من سننه فى خلقه ، واسم " أن " المخففة ضمير الشأن والخبر قوله ، { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُوا … } والضمير يعود على القاسطين سواء أكانوا من الإِنس أم من الجن . والماء الغدق هو الماء الكثير ، يقال غَدِقَتْ عين فلان غَدَقاً - كفرح - إذا كثر دمعها فهى غدقة ، ومنه الغيداق للماء الواسع الكثير ، والمراد لأعطيناهم نعما كثيرة . أى ولو أن هؤلاء العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل استقاموا على الطريقة المثلى ، التى هى طريق الإِسلام ، والتزموا بما جاءهم به النبى صلى الله عليه وسلم من عند ربه … لو أنهم فعلوا ذلك ، لفتحنا عليهم أبواب الرزق ، ولأعطيناهم من بركاتنا وخيراتنا الكثير … وخص الماء الغدق بالذكر ، لأنه أصل المعاش والسعة . ومن الآيات التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } وقوله - سبحانه - { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ … } وقوله - تعالى - { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ثم بين - سبحانه - الحكمة فى هذا العطاء لعباده فقال { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } وأصل الفتن الامتحان والاختبار . تقول فتنت الذهب بالنار ، أى اختبرته لتعرف مقدار جودته . والمعنى نعطيهم ما نعطيهم من خيراتنا ، لنختبرهم ونمتحنهم ، ليظهر للخلائق موقفهم من هذه النعم ، أيشكروننا عليها فنزيدهم منها ، أم يجحدون ويبطرون فنمحقها من بين أيديهم … ؟ . والجملة الكريمة معترضة بين ما قبلها ، وبين قوله - تعالى - بعد ذلك { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } . وقوله { يَسْلُكْهُ } من السلك بمعنى إدخال الشئ فى الشئ ومنه قوله - تعالى - { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } والصَّعَد الشاق . يقال فلان فى صَعَد من أمره ، أى فى مشقة وتعب ، وهو مصدر صَعِد - كفرح - صعداً وصعودا . أى ومن يعرض عن طاعة ربه ومراقبته وخشيته … يدخله - سبحانه - فى عذاب شاق أليم ، لا مفر منه ، ولا مهرب له عنه . ومن الحقائق والحكم التى نأخذها من هاتين الآيتين ، أن الاستقامة على أمر الله ، تؤدى إلى السعادة التى ليس بعدها سعادة ، وأن رخاء العيش وشظافته هما لون من ألوان الابتلاء والاختبار ، كما قال - تعالى - { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } وأن الإِعراض عن ذكر الله … عاقبته الخسران المبين ، والعذاب الأليم . قال القرطبى ما ملخصه قوله { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أى لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم . وقال عمر بن الخطاب فى هذه الآية أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة فمعنى { لأَسْقَيْنَاهُم } لوسعنا عليهم فى الدنيا ، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ، لأن الخير والرزق كله ، بالمطر يكون ، فأقيم مقامه . وفى صحيح مسلم ، عن أبى سعيد الخدرى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أخوف ما أخاف عليكم ، ما يخرج لكم من زهرة الدنيا ، قالوا وما زهرة الدنيا ؟ قال بركات الأرض … " . وقال صلى الله عليه وسلم " والله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم ، فتنافسوها ، كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " . ثم بين - سبحانه - أن المساجد التى تقام فيها الصلاة والعبادات ، يجب أن تنسب إلى الله - تعالى - وحده ، فقال { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } . والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } والمساجد جمع مسجد ، وهو المكان المعد لإِقامة الصلاة والعبادة فيه . واللام فى قوله { لله } ، للاستحقاق . أى وأوحى إلىَّ - أيضا - أن المساجد التى هى أماكن الصلاة والعبادة لا تكون إلا لله - تعالى - وحده ، ولا يجوز أن تنسب إلى صنم من الأصنام ، أو طاغوت من الطواغيت . قال الإِمام ابن كثير قال قتادة كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم ، أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه والمؤمنين ، أن يوحدوه وحده . وقال سعيد بن جبير نزلت فى أعضاء السجود أى هى لله فلا تسجدوا بها لغيره … وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين ، والركبتين ، وأطراف القدمين . ويبدو لنا أن المراد بالمساجد هنا الأماكن المعدة للصلاة والعبادة ، لأن هذا هو المتبادر من معنى الآية ، وأن المقصود بها توبيخ المشركين الذين وضعوا الأنصاب والأصنام ، فى المسجد الحرام وأشركوها فى العبادة مع الله - تعالى - . وأضاف - سبحانه - المساجد إليه ، على سبيل التشريف والتكريم وقد تضاف إلى غيره - تعالى - على سبيل التعريف فحسب ، وفى الحديث الشريف " الصلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فى غيره ، إلا المسجد الحرام " . ثم بين - سبحانه - حال الصالحين من الجن ، عندما استمعوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ، ويتقرب إلى الله - تعالى - بالعبادة فقال { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } أى وأوحى الله - تعالى - فيما أوحى من شأن الجن ، { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوه } أى يدعو الله - تعالى - ويعبده فى الصلاة ، { كَادُواْ } أى الجن { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } أى كادوا من شدة التزاحم عليه ، والتكتل حوله . . يكونون كاللبد ، أى كالشئ الذى تلبد بعضه فوق بعض . ولفظ " لِبَدا " جمع لِبْدَة ، وهى الجماعة المتزاحمة ، ومنه لبدة الأسد للشعر المتراكم فى رقبته . ووضع - سبحانه - الاسم الظاهر موضع المضمر ، إذ مقتضى الظاهر أن يقال وأنه لما قمت تدعو الله … أو لما قمتُ أدعو الله … تكريما للنبى صلى الله عليه وسلم حيث وصفه بأنه " عبد الله " لما فى هذه الإِضافة من التشريف والتكريم . والجن إنما ازدحموا حول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ويقرأ القرآن … تعجبا مما شاهدوه من صلاته ، ومن حسن قراءته ، ومن كمال اقتداء أصحابه ، قياما ، وركوعا ، وسجودا … ومنهم من يرى أن الضمير فى " كادوا " يعود لكفار قريش ، فيكون المعنى وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ربه … كادوا من تزاحمهم عليه ، يكونون كاللبد ، لا لكى ينتفعوا بما يسمعون ، ولكن لكى يطفئوا نور الله بأفواههم ، والحال أن الله - تعالى - قد رد كيدهم فى نحورهم ، وأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون . قال صاحب الكشاف " عبد الله " هو النبى صلى الله عليه وسلم ، فإن قلت هلا قيل رسول الله أو النبى ؟ قلت لأن تقديره وأوحى إلى أنه لما قام عبد الله ، فلما كان واقعا فى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه ، جئ به على ما يقتضيه التواضع والتذلل ، أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله ، لله - تعالى - ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر ، حتى يكونوا عليه لبدا . ومعنى " قام يدعوه " قام يعبده . يريد قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن ، فاستمعوا لقراءته ، وتزاحموا عليه . وقيل معناه لما قام رسول يعبد الله وحده ، مخالفا المشركين فى عبادتهم كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته ، يزدحمون عليه متراكمين … ويبدو لنا أن عودة الضمير فى " كادوا " على مؤمنى الجن أرجح ، لأن هذا هو الموافق لإِعجابهم بالقرآن الذى سمعوه من النبى صلى الله عليه وسلم لأن هذا هو الظاهر من سياق الآيات ، حيث ن الحديث عنهم ، ولأن الآثار قد وردت فى أن الجن قد التفوا حول النبى صلى الله عليه وسلم حين سمعوا يقرأ القرآن . ومن هذه الآثار قول الزبير بن العوام هم الجن حين استمعوا القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم كادوا يركب بعضهم بعضا ازدحاما عليه … ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن لجميع من أرسل إليهم ، أنه لا يعبد أحدا سواه - عز وجل - فقال { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } . أى قل - أيها الرسول الكريم - لجميع من أرسلناك إليهم من الجن والإِنس إنى أعبد ربى وحده ، وأتوجه إليه وحده بالدعاء والطلب ، ولا أشرك معه أحدا فى عبادتى أو صلاتى أو نسكى … وقل لهم ، كذلك { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً } أى لا أملك ما يضركم { وَلاَ رَشَداً } أى ولا أملك ما ينفعكم ، وإنما الذى يملك ذلك هو الله - تعالى - وحده . وقل لهم للمرة الثالثة { إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ } أى إنى لن يمنعنى أحد من الله - تعالى - إن أرادنى بسوء . { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أى ولن أجد من دونه ملجأ أركن إليه . يقال التحد فلان إلى كذا ، أى مال إليه . فالآية الكريمة بيان لعجزه صلى الله عليه وسلم عن شئون نفسه أمام قدرة خالقه - عز وجل - بعد بيان عجزه عن شئون غيره . وقوله - سبحانه - { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ … } استثناء من مفعول { لاَ أَمْلِكُ } ، وهما قوله قبل ذلك { ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } وما يليهما اعتراض مؤكد لنفى الاستطاعة . أى قل لهم - أيها الرسول الكريم - إنى لا أملك ما يضركم ولا أملك ما ينفعكم ، وإنما الذى أملكه هو تبليغ رسالات ربى إليكم ، بأمانة واجتهاد . والبلاغ مصدر بلَّغ ، وهو إيصال الكلام أو الحديث إلى الغير ، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول ، مثل " هذا خلق الله " ، و " من " ابتدائية صفة لقوله " بلاغا " أى بلاغا كائنا من جهة الله - تعالى - وأمره . والرسالات جمع رسالة ، وهى ما يرسل إلى الغير من كلام أو كتاب . والمراد بها هنا تبليغ ما أوحاه الله - تعالى - إلى نبيه للناس . قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ … } استثناء من مفعول لا أملك … وما بينهما اعتراض … فإن كان المعنى لا أملك أن أضركم ولا أن أنفعكم ، كان استثناء متصلا ، كأنه قيل لا أملك شيئا إلا بلاغا ، وإن كان المعنى لا أملك أن أقسركم على الغى والرشد ، كان منقطعا ، أو من باب لا عيب فيهم غير أن سيوفنا … أى أنه من أسلوب تأكيد الشئ بما يشبه ضده ، وقوله { وَرِسَالاَتِهِ } عطف على قوله { بَلاَغاً } وقوله { مِّنَ ٱللَّهِ } متعلق بمحذوف وقع صفه له . أى بلاغا كائنا من الله … ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة من يخالف أمره فقال { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } فيما أمرا به ، أو نهيا عنه . { فَإِنَّ لَهُ } أى لهذا العاصى { نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى فحكمه أن له نار جهنم ، وجمع - سبحانه - خالدين باعتبار معنى " مَن " ، كما أن الإِفراد فى قوله { فَإِنَّ لَهُ } باعتبار لفظها . وقوله " أبدا " مؤكد لمعنى الخلود . أى خالدين فيها خلودا أبديا لا نهاية له . وقوله - سبحانه - { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } تهديد ووعيد للكافرين بسبب استهزائهم بالمؤمنين ، فقد حكى القرآن عن الكفار أنهم قالوا { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } وقالوا { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } و { حتى } هنا حرف ابتداء ، وهى متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام ، وهو سخرية الكافرين من المؤمنين . و { إذا } اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط ، وهى فى محل نصب بجوابه الذى هو قوله { فَسَيَعْلَمُونَ } . والمعنى أن هؤلاء الكفار لا يزالون على ما هم عليه من غرور وعناد وجحود … حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب فى الدنيا والآخرة { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذ من هو أضعف جندا وأقل عددا ، أهم المؤمنون - كما يزعم هؤلاء الكافرون - ؟ أم أن الأمر سيكون على العكس ؟ لا شك أن الأمر سيكون على العكس ، وهو أن الكافرين فى هذا اليوم سيكونون فى غاية الضعف والذلة والهوان . وجئ بالجملة التى أضيف إليها لفظ " إذا " فعلا ماضيا ، للتنبيه على تحقق الوقوع . والآية الكريمة تشير إلى خيبة هؤلاء الكافرين ، وتلاشى آمالهم … فإنهم فى هذا اليوم سيفقدون الناصر لهم ، كما أنهم سيفقدونه من جهة أنفسهم ، لأنهم مهما كثر عددهم ، فهم مغلوبون . ثم أمر الله - تعالى - رسوله للمرة الرابعة ، أن يعلن للناس أن هذا اليوم الذى يأتى فيه نصر الله للمؤمنين لا يعلمه إلا هو ، فقال - تعالى - { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً … } . أى وقل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين إن نصر الله لنا آت لا ريب فيه ، وعذاب الله لكم آت - أيضا - لا ريب فيه ، ولكنى لا أدرى ولا أعلم أيتحقق ذلك فى الوقت العاجل القريب ، أم يجعل الله - تعالى - لذلك " أمدا " أى غاية ومدة معينة من الزمان ، لا يعلم وقتها إلا هو - سبحانه - . والمقصود من الآية الكريمة بيان أن العذاب نازل بهم قطعا ولكن موعده قد يكون بعد وقت قريب ، وقد يكون بعد وقت بعيد ، لأن تحديد هذا الوقت مرده إلى الله - تعالى - وحده . وقوله - تعالى - بعد ذلك { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } تعليل لما قبله . أى أنا لا أدرى متى يكون عذابكم - أيها الكافرون - لأن مرد علم ذلك إلى الله - تعالى - الذى هو عليم بكل شئ من الظواهر والبواطن ، والذى اقتضت حكمته أن لا يطلع أحدا على غيوبه ، وعلى ما استتر وخفى من أمور خلقه . وقوله { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } استثناء من النفى فى قوله { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } . أى هو - سبحانه - عالم الغيب ، فلا يطلع على غيبه أحدا من خلقه ، إلا الرسول الذى ارتضاه واختاره من خلقه ، فإنه - سبحانه - قد يطلعه على بعض غيوبه ، ليكون ذلك معجزة له ، دالة على صدقه أمام قومه . فإذا ما أراد - سبحانه - إطلاع رسوله المصطفى لحمل رسالته على بعض غيوبه ، سخر له من جميع جوانبه حرسا من الملائكة يحرسونه من وسوسة الشيطان ونوازعه ، ومن كل ما يتعارض مع توصيل وحيه - سبحانه - إلى رسله - بكل أمانة وصيانة . ومعنى { مَنِ ٱرْتَضَىٰ … } من اختار واصطفى واجتبى ، وعبر عن ذلك بقوله { مَنِ ٱرْتَضَىٰ } ، للإِشعار بأنه - سبحانه - يخص هؤلاء الذين رضى عنهم ورضوا عنه بالاطلاع على بعض غيوبه ، على سبيل التأييد والتكريم لهم . و " من " فى قوله { مِن رَّسُولٍ } للبيان . والمراد بالرسول هنا ما يشمل كل رسول اختاره - سبحانه - لحمل رسالته ، سواء أكان من البشر أم من الملائكة . والضمير فى قوله - تعالى - { فَإِنَّهُ } و { يَسْلُكُ } يعودان على الله - عز وجل - وأطلق السلك على إيصال الخبر إلى الرسول المرتضى ، للإِشعار بأن هذا الخبر الذى أطلع الله - تعالى - رسوله عليه ، قد وصل إليه وصولا مؤكدا ، ومحفوظا من كل تحريف ، كما يدخل الشئ فى الشئ دخولا تاما بقوة وضبط ، إذ حقيقة السلك . إدخال الشئ فى الشئ بشدة وعناية … والمراد بقوله { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } جميع الجهات ، وعبر عن جميع الجهات بذلك ، لأن معظم ما يتعرض له الإِنسان يكون من هاتين الجهتين . والرصد جمع راصد ، وهو ما يحفظ الشئ ، ويصونه من كل ما لا يريده ، أى إلا من ارتضى - سبحانه - من رسول ، فإنه - عز وجل - يطلعه على ما يشاؤه من غيوبه ، ويجعل له حراسا من جميع جوانبه ، يحفظونه من كل سوء . قال الآلوسى قوله { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ … } أى لكن الرسول المرتضى بظهره - جل وعلا - على بعض الغيوب المتعلقة برسالته … إما لكون بعض هذه الغيوب من مباديها ، بأن يكون معجزة ، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية ، وكيفيات الأعمال وأجزيتها ، ونحو ذلك من الأمور الغيبية ، التى بيانها من وظائف الرسالة . بأن يسلك من جميع جوانبه عند إطلاعه على ذلك ، حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين ، لما أريد إطلاعه عليه … واللام فى قوله - تعالى - { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ . . } متعلقة بقوله { يَسْلُكُ } . والضمير فى { يعلم } يعود إلى الله - تعالى - ، والمراد بالعلم علم المشاهدة الذى يترتب عليه الجزاء ، أى أطلع الله - تعالى - من ارتضاهم على بعض غيوبه ، وحرسهم من وصول الشياطين إلى هذا الذى أظهرهم عليه من غيوب … ليعلم - تعالى - علم مشاهدة يترتب عليه الجزاء ، أن الرسل قد أبلغو رسالته - سبحانه - إلى خلقه ، وأنه - تعالى - قد { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أى أحاط علمه - تعالى - بكل ما لدى الرسل وغيرهم من أقوال وأفعال ، { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أى وأحصى كل شئ فى هذا الكون إحصاء تاما ، وعلما كاملا . قال الشوكانى قوله { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ … } اللام متعلقة بيسلك ، والمراد به العلم المتعلق بالإِبلاغ الموجود بالفعل ، و " أن " هى المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن ، والخبر الجملة ، والرسالات عبارة عن الغيب الذى أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول … وقال قتادة ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو ، وفيه حذف تتعلق به اللام ، أى أخبرناه صلى الله عليه وسلم بحفظنا الوحى ، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ بالحق والصدق . وقيل ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم … ويبدو لنا أن عودة الضمير فى " ليعلم " إلى الله - تعالى - هو الأظهر ، أى ليعلم الله - تعالى - أن رسله قد أبلغوا رسالاته علم مشاهدة كما علمه غيبا ، لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع … وهكذا ساقت لنا سورة " الجن " الكثير من الحقائق التى تتعلق بإصلاح العقائد والأخلاق والسلوك والأفكار التى طغى كثير منها على العقول والأفهام … وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .