Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 72, Ayat: 1-15)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات روايات منها ما أخرجه الشيخان والترمذى ، عن ابن عباس أنه قال " انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا مالكم ؟ قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب ، قالوا ما ذاك إلا لشئ حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر - من الجن - الذى أخذوا نحو تهامة ، عامدين إلى سوق عكاظ ، فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم بنخلة يصلى بأصحابه صلاة الصبح ، فلما سمعوا القرآن ، استمعوا إليه وقالوا هذا الذى حال بيننا وبين خبر السماء . فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا ، إنا سمعنا قرآنا عجبا ، يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا آحدا ، " وأنزل الله - تعالى - على نبيه { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } . وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " أتانى داعى الجن ، فذهبت معهم ، فقرأت عليهم القرآن … " وهناك رواية ثالثة لابن إسحاق ملخصها أنه لما مات أبو طالب ، خرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها ويدعوهم إلى الإِيمان … فأغروا به سفهاءهم ، يسبونه ويستهزئون به … فانصرف صلى الله عليه وسلم عنهم ، حتى إذا كان ببطن نخلة - هو موضع بين مكة والطائف - قام يصلى من الليل ، فمر به نفر من جن نصيبين - وهو موضع قرب الشام - فاستمعوا إليه ، فلما فرغ من صلاته ، ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا ، فقص الله - تعالى - خبرهم عليه … وهناك روايات أخرى فى عدد هؤلاء الجن ، وفى الأماكن التى التقوا فيها مع النبى صلى الله عليه وسلم وفيما قرأه الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، وفيمن كان معه من الصحابة خلال التقائه بهم … ويبدو لنا من مجموع الروايات ، أن لقاء النبى صلى الله عليه وسلم بالجن قد تعدد ، وأنهم تارة استمعوا إليه صلى الله عليه وسلم دون أن يراهم ، وتارة التقى بهم وقرأ عليهم القرآن . قال الآلوسى وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ، ويجمع بذلك بين اختلاف الروايات فى عددهم وفى غير ذلك . وذكر ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين … قال القرطبى واختلف أهل العلم فى أصل الجن . فعن الحسن البصرى أن الجن ولد إبليس ، والإِنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء فى الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولى الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان . وعن ابن عباس أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ومنهم المؤمن والكافر ، والشياطين هم ولد إبليس ، لا يموتون إلا مع إبليس … وقال بعض العلماء عالم الجن من العوالم الكونية ، كعالم الملائكة وقد أخبر الله - تعالى - أنه خلقه من مارج من نار ، أى أن عنصر النار فيه هو الغالب ، وأنه يرى الأناسى وهم لا يرونه ، أى بصورته الجبلية ، وإن كان يرى حين يتشكل بأشكال أخرى ، كما رئى جبريل حين تشكل بشكل آدمى . وأخبر - سبحانه - بأن الجن قادرون على الأعمال الشاقة . وأن الله سخر الشياطين لسليمان يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل … وأخبر بأن من الجن مؤمنين ، وأن منهم شياطين متمردين ، ومن هؤلاء إبليس اللعين . ولم يختلف أهل الملل فى وجودهم ، بل اعترفوا به كالمسلمين ، وإن اختلفوا فى حقيقتهم ، ولا تلازم بين الوجود والعلم بالحقائق ، ولا بينه وبين الرؤية بالحواس ، فكثير من الأشياء الموجودة لا تزال حقائقها مجهولة ، وأسرارها محجوبة ، وكثير منها لا يرى بالحواس . ألا ترى الروح - وهى مما لا شك فى وجودها فى الإِنسان والحيوان - لم يدرك كنهها أحد ولم يرها أحد ، وغاية ما علم من أمرها بعض صفاتها وآثارها … وقد بعث النبى صلى الله عليه وسلم إلى الجن ، كما بعث إلى الإِنس ، فدعاهم إلى التوحيد ، وأنذرهم وبلغهم القرآن ، وسيحاسبون على الأعمال يوم الحساب كما يحاسب الناس ، فمؤمنهم كمؤمنهم ، وكافرهم ككافرهم وكل ذلك جاء صريحا فى القرآن والسنة … وقد افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس ما حدث من الجن عند سماعهم للقرآن . فقال { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } . وفى هذا الأمر دلالة على أن المأمور به شئ هام ، يستدعى من السامعين التيقظ والانتباه ، والامتثال للمأمور به ، وتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به . والنفر الجماعة من واحد إلى عشرة ، وأصله فى اللغة الجماعة من الإِنس فأطلق على الجماعة من الجن وعلى وجه التشبيه . أى قل - أيها الرسول الكريم - للناس ، إن الله - تعالى - قد أخبرك عن طريق أمين وحيه جبريل أن جماعة من الجن قد استمعوا إليك وأنت تقرأ القرآن … فقالوا - على سبيل الفرح والإِعجاب بما سمعوا - { إِنَّا سَمِعْنَا } من الرسول صلى الله عليه وسلم { قُرْآناً عَجَباً } أى إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن ، بديع الأسلوب ، عظيم القدر … هذا القرآن { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ } أى إلى الخير والصواب والهدى { فَآمَنَّا بِهِ } إيمانا حقا ، لا يخالطه شك أو ريب { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } أى فآمنا بما اشتمل عليه هذا الكتاب من دعوة إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، ولن نشرك معه فى العبادة أحدا كائنا من كان هذا الحد . والمقصود من أمره صلى الله عليه وسلم بذلك ، دعوة مشركى قريش إلى الإِيمان بالحق الذى جاء به صلى الله عليه وسلم كما آمن جماعة من الجن به ، وإعلامهم بأن رسالته صلى الله عليه وسلم تشمل الجن والإِنس . وضمير " أنه " للشأن ، وخبر " أن " جملة { ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } ، وتأكيد هذا الخبر بأن ، للاهتمام به لغرابته . ومفعول " استمع " محذوف لدلالة قوله { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } عليه . ووصفهم للقرآن بكونه { قُرْآناً عَجَباً . يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْد } يدل على تأثرهم به تأثرا شديدا ، وعلى إعجابهم العظيم بنظمه المتقن ، وأسلوبه الحكيم ، ومعانيه البديعة … ولذا أعلنوا إيمانهم به بدون تردد ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء فى قوله { فَآمَنَّا بِهِ … } . والتعبير بقوله - تعالى - { فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا … } يحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم ، أو لإِخوانهم الذين رجعوا إليهم ، كما فى قوله - تعالى - فى سورة الأحقاف { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } ويحتمل أنهم قالوا ذلك فى أنفسهم على سبيل الإِعجاب ، كما فى قوله - تعالى - { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } بل إننا نرجح أن قولهم هذا قد شمل كل ذلك ، لأن هذا هو الذى يتناسب مع إعجابهم بالقرآن الكريم ، ومع حرصهم على إيمان أكبر عدد منهم به . ثم حكى - سبحانه - أن هذا النفر من الجن بعد استماعهم إلى القرآن وإيمانهم به ، أخذوا فى الثناء على الخالق - عز وجل - فقال حكاية عنهم { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } . ولفظ " وأن " قد تكرر فى هذه السورة الكريمة أكثر من عشر مرات ، تارة بالإِضافة إلى ضمير الشأن ، وتارة بالإِضافة إلى ضمير المتكلم . ومن القراء السبعة من قرأة بفتح الهمزة ، ومنهم من قرأه بكسرها ، فمن قرأ { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا … } بالفتح فعلى أنه معطوف على محل الجار والمجرور فى قوله { فَآمَنَّا بِهِ … } فكأنه قيل فصدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا … ومن قرأ بالكسر فعلى أنه معطوف على المحكى بعد القول ، أى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ، وقالوا إنه تعالى جد ربنا … قال الجمل فى حاشيته ما ملخصه قوله - تعالى - { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا … } قرأه حمزة والكسائى وأبو عامر وحفص بفتح " أنّ " وقرأه الباقون بالكسر … وتلخيص هذا أن " أنّ " المشددة فى هذه السورة على ثلاثة أقسام قسم ليس معه واو العطف ، فهذا لا لخلاف بين القراء فى فتحه أو كسره ، على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ . … } لا خلاف فى فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } لا خلاف فى كسره لأنه محكى بالقول . القسم الثانى أن يقترن بالواو ، وهو أربع عشرة كلمة ، إحداها لا خلاف فى فتحها ، وهى قوله { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ … } وهذا هو القسم الثالث . والثانية وهى قوله { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ … } كسرها ابن عامر وأبو بكر وفتحها الباقون . والاثنتا عشرة الباقية ، فتحها بعضهم ، وكسرها بعضهم وهى قوله - تعالى - { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا … } وقوله { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ … } { وَأَنَّا ظَنَنَّآ … } { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ … } { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ … } { وَأَنَّا لَمَسْنَا … } { وَأَنَّا كُنَّا … } { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ … } { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ … } { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ … } { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } . وقوله { تَعَالَىٰ } من التعالى وهو شدة العلو . و { جَدُّ رَبِّنَا } الجد - بفتح الجيم - العظمة والجلال . قال القرطبى الجد فى اللغة العظمة والجلال ، ومنه قول أنس كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد فى عيوننا . أى عظم . فمعنى جد ربنا عظمته وجلاله . وقيل معنى " جد ربنا … " غناه ، ومنه قيل للحظ جد ، ورجل مجدود ، أى محظوظ . وفى الحديث " ولا ينفع ذا الجد منك الجد " أى ولا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وإنما تنفعه الطاعة … وجملة { مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا } بيان وتفسير لما قبله . أى آمنا به - سبحانه - إيمانا حقا ، وصدقنا نبيه فيما جاءنا به من عنده ، وصدقنا - أيضا - أن الحال والشأن تعالى وتعاظم جلال ربنا ، وتنزه فى ذاته وصفاته ، عن أن يكون له شريك فى ملكه . أو أن تكون له صاحبة أو أن يكون له ولد ، كما زعم الزاعمون من الكافرين الجاهلين . وفى هذا القول من هذا النفر من الجن ، رد على أولئك المشركين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله - تعالى - ، وأنهم - أى الملائكة - جاءوا عن طريق مصاهرته - سبحانه - للجن ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } ثم حكى - سبحانه - أقوالا أخرى لهؤلاء المؤمنين من الجن فقال { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً … } والمراد بالسفيه هنا إبليس - لعنة الله - وقيل المراد به الجنس فيشمل كل كافر ومتمرد من الجن ، والشطط ، مجاوزة الحد والعدل فى كل شئ ، أى أننا ننزه الله - تعالى - عما كان يقوله سفهاؤنا - وعلى رأسهم إبليس - من أن الله - عز وجل - صاحبة أو ولدا ، فإن هذا القول بعيد كل البعد عن الحق والعدل والصواب . وقوله { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } اعتذار منهم عن كفرهم السابق ، فكأنهم يقولون بعد أن استمعوا إلى القرآن ، وآمنوا بالله - تعالى - وحده إننا ننزه الله - تعالى - عما قاله السفهاء فى شأنه … وإذا كنا قد اتبعناهم قبل إيماننا ، فسبب ذلك أننا صدقنا هؤلاء السفهاء فيما قالوه لنا ، وما كنا نعتقد أو نتصور أو نظن أن هؤلاء السفهاء يصل بهم الفجور والكذب … إلى هذا الحد الشنيع . وقوله { كذبا } مفعول به لتقول ، أو صفة لمصدر محذوف ، أى قولا مكذوبا . ثم - حكى - سبحانه - عنهم تكذيبهم لما كان متعارفا عليه فى الجاهلية من أن الجن سلطانا على الناس ، وأن لهم قدرة على النفع والضر … فقال - تعالى - { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً … } . وقوله { يَعُوذُونَ } من العَوْذ بمعنى الاستجارة بالشئ والالتجاء إليه طلبا للنجاة . والرهق الإِثم وغشيان المحارم . قال صاحب الكشاف والرهق غشيان المحارم ، والمعنى أن الإِنس باستعاذتهم بهم - أى بالجن - زادوهم كفرا وتكبرا . وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى فى واد قفر فى بعض مسايره ، وخاف على نفسه قال أعوذ بسيد هذا الوادى من سفهاء قومه ، يريد الجن وكبيرهم ، فإذا سمعوا ذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإِنس ، فذلك رهقهم ، أو فزاد الجنُّ والإِنسَ رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم … فالمقصود به من الآية الكريمة بيان فساد ما كان شائعا فى الجاهلية - بل وفى بعض البيئات حتى الآن - من أن الجن لهم القدرة على النفع والضر وأن بعض الناس كانوا يلجأون إليهم طلبا لمنفعتهم وعونهم على قضاء مصالحهم . وإطلاق اسم الرجال على الجن ، من باب التشبيه والمشاكلة لوقوعه من رجال من الإِنس ، فإن الرجل اسم للمذكر البالغ من بنى آدم . وقوله - سبحانه - { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } . بيان لما استنكره هؤلاء النفر المؤمنون من الجن على قومهم الكافرين . وعلى من يشبهونهم فى الكفر من الإِنس . أى وأنهم - أى الإِنس - ظنوا واعتقدوا { كَمَا ظَنَنتُمْ } واعتقدتم أيها الجن ، أن الله - تعالى - لن يبعث أحدا بعد الموت ، وهذا الظن منهم ومنكم ظن خاطئ فاسد ، فإن البعث حق ، وإن الحساب حق ، وإن الجزاء حق . وفى هذا القول من مؤمنى الجن ، تعريض بمشركى قريش ، الذين أنكروا البعث ، وقالوا { مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ … } ثم حكى - سبحانه - عنهم ما قالوه عند اقترابهم من السماء ، طلبا لمعرفة أخبارها … قبل أن يؤمنوا فقال { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } . وقوله { لَمَسْنَا } من اللمس ، وحقيقته الجس واليد ، واستعير هنا ، لطلب أخبار السماء ، لأن الماس للشئ فى العادة ، إنما يفعل ذلك طلبا لاختباره ومعرفته . والحرس اسم جمع للحراس ، كخدم وكخدام ، والشهب جمع شهاب ، وهو القطعة التى تنفصل عن بعض النجوم ، فتسقط فى الجو أو على الأرض أو فى البحر . أى وأنا طلبنا أخباء السماء كما هى عادتنا قبل أن نؤمن { فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } أى فوجدناها قد امتلأت بالحراس الأشداء من الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع … كما أنا قد وجدناها قد امتلأت بالشهب التى تنقض على مسترقى السمع فتحرقهم . { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا } أى من السماء { مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } أى كنا نقعد منها مقاعد كائنة للسمع ، خالية من الحرس والشهب . { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ } بعد نزول القرآن ، الذى هو معجزة للنبى صلى الله عليه وسلم والذى آمنا به وصدقناه . { يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أى فمن يجلس الآن ليسترق السمع من السماء يجد له شهابا معدا ومهيأ للانقضاض عليه فيهلكه . فالرصد جمع راصد ، وهو الحافظ للشئ ، وهو وصف لقوله " شهابا " . والفاء فى قوله { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ } للتفريع على محذوف ، وكلمة " الآن " فى مقابل كلمة " كنا " الدالة على المحذوف . والتقدير كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فنستمع أشياء ، وقد انقضى ذلك ، وصرنا من يستمع الآن منا يجد له شهابا رصدا ، ينقض عليه فيحرقه . والمقصود من هاتين الآيتين تأكيد إيمانهم بالله - تعالى - ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، وحض غيرهم على اتباعهم ، وتحذيرهم من التعرض لاستراق السمع . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين الآيتين " يخبر الله - تعالى - عن الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وحفظت من سائر أرجائها ، وطردت الشياطين عن مقاعدها التى كانت تقعد فيها قبل ذلك ، لئلا يسترقوا شيئا من القرآن ، فيلقوه على ألسنة الكهنة ، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق ، وهذا من لطف الله بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز ، ولهذا قالت الجن { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أى من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا ، لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يمحقه ويهلكه " . وقال بعض العلماء والصحيح أن الرجم كان موجودا قبل المبعث . فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر وازداد ، كما ملئت السماء بالحرس والشهب . وليس فى الآية دلالة على أن كل ما يحدث من الشهب إنما هو للرجم ، بل إنهم إذا حاولوا استراق السمع رجموا بالشهب ، وإلا فالشهب الآن وفيما مضى قد تكون ظواهر طبيعية ولأسباب كونية . . ثم حكى - سبحانه - ما قالوه على سبيل الإِقرار بأنهم لا يعلمون شيئا من الغيوب فقال { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } . أى وقال هؤلاء الجن المؤمنون على سبيل الاعتراف بأن مرد علم الغيوب إلى الله - تعالى - وحده قالوا وإنا لا ندرى ولا نعلم الآن ، بعد هذه الحراسة المشددة للسماء ، أأريد بأهل الأرض ما يضرّ بهم ، أم أراد الله - تعالى - بها ما ينفعهم ؟ . قال الآلوسى ولا يخفى ما فى قولهم هذا من الأدب ، حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله - تعالى - ، كما صرحوا به فى الخير ، وإن كان فاعل الكل هو الله - تعالى - ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد … ثم حكى - سبحانه - ما قالوه فى وصف حالهم وواقعهم فقال { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ … } أى منا الموصوفون بالصلاح والتقوى … وهم الذين آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا ، ولم يشركوا معه فى العبادة أحدا … { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أى ومنا قوم دون ذلك فى الصلاح والتقوى … وهم الذين فسقوا عن أمر ربهم ، ولم يستقيموا على صراطه ودينه . وقوله { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } تشبيه بليغ . والطرائق جمع طريقة ، وهى الحالة والمذهب . وقددا جمع قِدَّة ، وهى الفرقة والجماعة من الناس ، الذين تفرقت مشاربهم وأهواؤهم . والجملة الكريمة بيان وتفسير لما قبلها . أى وأنا فى واقع أمرنا منا الصالحون الأخيار … ومنا من درجته ورتبته أقل من ذلك بكثير أو بقليل … فنحن فى حياتنا كنا قبل سماعنا للقرآن كالمذاهب المختلفة فى حسنها وقبحها ، وكالطرق المتعددة فى استقامتها واعوجاجها … أما الآن فقد وفقنا الله - تعالى - إلى الإِيمان به ، وإلى إخلاص العبادة له … ومن وجوه البلاغة فى الآية الكريمة ، أنهم قالوا { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } ، ليشمل التعبير من هم دون الكمال فى الصلاح ، ومن هم قد انحدروا فى الشرور والآثام إلى درجة كبيرة ، وهم الأشرار . والمقصود به الآية الكريمة ، مدح الصالحين ، وذم الطالحين ، ودعوتهم إلى الاقتداء بأهل الصلاح والتقوى والإِيمان . ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بشأن عجزهم المطلق أمام قدرة خالقهم فقال { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } . والظن هنا بمعنى العلم واليقين . وقوله { نُّعْجِزَهُ } من الإِعجاز ، وهو جعل الغير عاجزا عن الحصول على ما يريد . وقوله { فِي ٱلأَرْضِ } و { هَرَباً } فى موضع الحال . أى وأننا قد علمنا وتيقنا بعد إيماننا وبعد سماعنا للقرآن … أننا فى قبضة الله - تعالى - وتحت قدرته ، ولن نستطيع الهرب من قضائه سواء أكنا فى الأرض أم فى غيرها . فقوله { فِي ٱلأَرْضِ } إشارة إلى عدم قدرتهم على النجاة من قضائه - تعالى - مهما حاولوا اللجوء إلى أية بقعة من بقاعها ، ففى أى بقعة منها يكونون ، يدركهم قضاؤه وقدره . وقوله { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } إشارة إلى أن هربهم إلى السماء لا إلى الأرض ، لن ينجيهم مما يريده - سبحانه - بهم . فالمقصود بالآية الكريمة إظهار عجزهم المطلق أمام قدرة الله - تعالى - وعدم تمكنهم من الهرب من قضائه ، سواء ألجأوا إلى الأرض ، أم إلى السماء . وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } ثم حكى - سبحانه - حالهم عندما سمعوا ما يهديهم إلى الرشد … فقال - تعالى - { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً … } . أى وأننا لما سمعنا الهدى ، أى القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم { آمَنَّا بِهِ } بدون تردد أو شك { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ } وبما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } أى نقصا فى ثوابه { وَلاَ رَهَقاً } أى ولا يخاف - أيضا - ظلما يلحقه بزيادة فى سيئاته ، أو إهانة تذله وتجعله كسير القلب ، منقبض النفس . فالمراد بالبخس الغبن فى الأجر والثواب . والمراد بالرهق الإِهانة والمذلة والمكروه . والمقصود بالآية الكريمة إظهار ثقتهم المطلقة فى عدالة الله - تعالى - . وقوله - سبحانه - { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً . وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } تأكيد وتفصيل لما قبله . والقاسطون هم الجائرون الظالمون ، جمع قاسط ، وهو الذى ترك الحق واتبع الباطل ، اسم فاعل من قسط الثلاثى بمعنى جار ، بخلاف المقسط فهو الذى ترك الباطل واتبع الحق . مأخوذ من أقسط الرباعى بمعنى عدل . أى وأنا - معاشر الجن - { مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } الذين أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة . { وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } أى الجائرون المائلون عن الحق إلى الباطل . { فَمَنْ أَسْلَمَ } منا { فَأُوْلَـٰئِكَ } المسلمون { تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أى توخوا وقصدوا الرشد والحق . { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ } وهم الذين آثروا الغى على الرشد { فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أى وقودا لجهنم ، كما توقد النار بما يلقى فيها من حطب وما يشبهه . وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد حكت أقوالا متعددة ، لهؤلاء النفر من الجن ، الذين استمعوا إلى القرآن ، فآمنوا به ، وقالوا لن نشرك بربنا أحدا . ثم بين - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف ، وهى أن الاستقامة على طريقة توصل إلى السعادة ، وأن الإِعراض عن طاعته - تعالى - يؤدى إلى الشقاء ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن للناس حقائق دعوته ، وخصائص رسالته ، وإقراره أمامهم بأنه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، وأن علم الغيب مرده إلى الله - تعالى - وحده ، فقال - سبحانه - { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى … } .