Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 1-3)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام فى قوله - تعالى - { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ … } للتقرير . والمراد بالإِنسان جنسه ، فيشمل جميع بنى آدم ، والحين المقدار المجمل من الزمان ، لأحد لأكثره ولا لأقله . والدهر الزمان الطويل غير المحدد بوقت معين . والمعنى لقد أتى على الإِنسان { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } أى وقت غير محدد من الزمان الطويل الممتد فى هذه الحياة الدنيا . { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } أى لم يكن هذا الإِنسان فى ذلك الحين من الدهر ، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه ، وإنما كان شيئا غير موجود إلا فى علم الله - تعالى - . ثم أوجده - سبحانه - بعد ذلك من نطفة فعلقة فمضغة … ثم أنشأه - سبحانه - بعد ذلك خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين . فالمقصود بهذه الآية الكريمة بيان مظهر من مظاهر قدرته - عز وجل - حيث أوجد الإِنسان من العدم ، ومن كان قادرا على ذلك ، كان - من باب أول - قادرا على إعادته إلى الحياة بعد موته ، للحساب والجزاء . قال الإِمام الفخر الرازى ما ملخصه اتفقوا على أن " هل " هاهنا ، وفى قوله - تعالى - { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ٱلْغَاشِيَةِ } بمعنى قد ، كما تقول هل رأيت صنيع فلان ، وقد علمت أنه قد رآه . وتقول هل وعظتك وهل أعطيتك ، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته . والدليل على أن " هل " هنا ليست للاستفهام الحقيقى … أنه محال على الله - تعالى - فلابد من حمله على الخبر . وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الاستفهام ، لما فيه من التشويق إلى معرفة ما سيأتى بعده من كلام . وجملة { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فى وضع نصب على الحال من الإِنسان ، والعائد محذوف . أى حالة كون هذا الإِنسان ، لم يكن فى ذلك الحين من الدهر ، شيئا مذكورا من بين أفراد جنسه . وإنما كان نسيا منسيا ، لا يعلم بوجوده أحد سوى خالقه - عز وجل - . ثم فصل - سبحانه - بعد هذا التشويق ، أطوار خلق الإِنسان فقال { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } والمراد بالإِنسان هنا - أيضا - جنسه وجميع أفراده . و " أمشاج " بمعنى أخلاط من عناصر شتى ، مشتق من المشج بمعنى الخلط ، يقال مشج فلان بين كذا وكذا - من باب ضرب - إذا خلط ومزج بينهما ، وهو جمع مشَج - كسبب ، أو مَشِج - ككتف ، أو مشيج - كنصير . قال الجمل " أمشاج " نعت لنطفة . ووقع الجمع صفة لمفرد ، لأنه فى معنى الجمع ، أو جعل كل جزء من النطفة نطفة ، فاعتبر ذلك فوصف بالجمع … ويرى صاحب الكشاف ان لفظ " أمشاج " مفرد جاء على صيغة أفعال ، كلفظ أعشار فى قولهم برمة أعشار ، أى برمة متكسرة قطعا قطعا ، وعليه يكون المفرد قد نعت بلفظ مفرد مثله . فقد قال - رحمه الله - { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } كبرمة أعشار … وهى ألفاظ مفردة غير جموع . ولذلك وقعت صفات للأفراد ، والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان … وجملة " نبتليه " حال من الإِنسان . أو من فاعل " خلقنا " . أى إنا خلقنا الإِنسان بقدرتنا وحدها . " من نطفة " أى من مَنِىٍّ ، وهو ماء الرجل وماء المرأة ، " أمشاج " أى ممتزج أحدهما بالآخر امتزاجا تاما . أو خلقناه من نطفة مختلطة بعناصر متعددة ، تتكون منها حياة الإِنسان بقدرتنا وحمكتنا . وخلقناه كلذلك حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره بالتكاليف ، فى مستقبل حياته حين يكون أهلا لهذه التكاليف . { فَجَعَلْنَاهُ } بسبب إرادتنا ابتلاءه واختباره بالتكاليف عند بلوغه سن الرشد { سَمِيعاً بَصِيراً } أى فجعلناه بسبب هذا الابتلاء والاختبار والتكاليف مزودا بوسائل الإِدراك ، التى بواسطتها يسمع الحق ويبصره ويستجيب له ويدرك الحقائق والآيات الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وصدق رسلنا … إدراكا سليما ، متى اتبع فطرته ، وخالف وساوس الشيطان وخطواته . وخص - سبحانه - السمع والبصر بالذكر ، لأنهما أنفع الحواس للإِنسان ، إذ عن طريق السمع يتلقى دعوة الحق وما اشتملت عليه من هدايات ، وعن طريق البصر ينظر فى الأدلة المتنوعة الكثيرة التى تدل على وحدانية الله - تعالى - وعلى صدق أنبيائه فيما جاءوا به من عند ربهم . وقوله - سبحانه - { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } تعليل لقوله { نَّبْتَلِيهِ } ، وتفصيل لقوله - تعالى - { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } ، والمراد بالهداية هنا الدلالة إلى طريق الحق ، والإِرشاد إلى الصراط المستقيم . أى إنا بفضلنا وإحساننا - قد أرشدنا الإِنسان إلى ما يوصله إلى طريق الحق والصواب ، وأرشدناه إلى ما يسعده ، عن طريق إرسال الرسل وتزويده بالعقل المستعد للتفكر والتدبر فى آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا . وقوله { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } حالان من ضمير الغيبة فى " هديناه " وهو ضمير الإِنسان . و " إما " للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أو للتقسيم للمهدى بحسب اختلاف الذوات والصفات . أى إنا هديناه ودللناه على ما يوصله إلى الصراط المستقيم ، فى حالتى شكره وكفره ، لأنه إن أخذ بهدايتنا كان شاكرا ، وإن أعرض عنها كان جاحدا وكافرا لنعمنا ، فالهداية موجودة فى كل الأحوال ، إلا أن المنتفعين بها هم الشاكرون وحدهم . ومثل ذلك كمثل رجلين ، يرشدهما مرشد إلى طريق النجاة ، فأحدهما يسير فى هذا الطريق فينجو من العثرات والمتاعب والمخاطر … والآخر يعرض عن ذلك فيهلك . ولما كان الشكر قل من يتصف به ، كما قال - سبحانه - { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } جاء التعبير بقوله - سبحانه - { شَاكِراً } بصيغة اسم الفاعل . ولما كان الجحود والكفر يعم أكثر الناس ، جاء التعبير بقوله - تعالى - { كَفُوراً } بصيغة المبالغة . والمقصود من الآية الكريمة قفل الباب أمام الذين يفسقون عن أمر ربهم ، ويرتكبون ما يرتكبون من السيئات … ثم بعد ذلك يعلقون أفعالهم هذه على قضاء الله وقدره ، ويقولون - كما حكى القرآن عن المشركين - { لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ثم بين - سبحانه - بعد هذه الهداية ، ما أعده لفريق الكافرين ، وما أعده لفريق الشاكرين ، فقال - تعالى - { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ … } .