Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 4-22)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - سبحانه - { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ … } كلام مستأنف لبيان جزاء الكافرين بعد أن تطلعت إليه النفس ، بعد سماعها لقوله - تعالى - { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } وابتداء - سبحانه - بذكر جزاء الكافر ، لأن ذكره هو الأقرب ولأن الغرض بيان جزائه على سبيل الإِجمال ، ثم تفصيل القول بعد ذلك فى بيان جزاء المؤمنين . والسلاسل جمع سلسلة ، وهى القيود المصنوعة من الحديد والتى يقيد بها المجرمون . وقد قرأ بعض القراء السبعة هذا اللفظ بالتنوين ، وقرأه آخرون بدون تنوين . والأغلال جمع غل - بضم الغين - وهو القيد الذى يقيد به المذنب ويكون فى عنقه ، قال - تعالى - { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ . فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } والمعنى إنا أعتدنا وهيأنا للكافرين سلاسل يقادون بها ، وأغلالا تجمع بها أيديهم إلى أعناقهم على سبيل الإِذلال لهم ، وهيأنا لهم - فوق ذلك - ناراً شديدة الاشتعال تحرق بها أجسادهم . ثم بين - سبحانه - ما أعده للمؤمنين الصادقين من خير عميم فقال { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } . والأبرار جمع بَرٍّ أو بَارٍّ . وهو الإِنسان المطيع لله - تعالى - طاعة تامة ، والمسارع فى فعل الخير ، والشاكر لله - تعالى - على نعمه . والكأس هو الإِناء الذى توضع فيه الخمر ، ولا يسمى بهذا الاسم إلا إذا كانت الخمر بداخله ، ويصح أن يطلق الكأس على الخمر ذاتها على سبيل المجاز ، من باب تسمية الحال باسم الحال ، وهو المراد هنا . لقوله - تعالى - { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } . و " من " للتبعيض . والضمير فى قوله { مِزَاجُهَا } يعود إلى الكأس التى أريد بها الخمر ، والمراد " بمزاجها " خليطها من المزج بمعنى الخلط يقال مزجت الشئ بالشئ ، إذا خلطته به . والكافور اسم لسائل طيب الرائحة ، أبيض اللون ، تميل إليه النفوس . أى إن المؤمنين الصادقين ، الذين أخلصوا لله - تعالى - الطاعة والعبادة والشكر … يكافئهم - سبحانه - على ذلك ، بأن يجعلهم يوم القيامة فى جنات عالية ، ويتمتعون بالشراب من خمر ، هذه الخمر كانت مخلوطة بالكافور الذى تنتعش له النفوس ، وتحبه الأرواح والقلوب ، لطيب رائحته ، وجمال شكله . وذكر - سبحانه - هذه الأشياء فى هذه السورة - من الكافور - والزنجبيل ، وغيرهما ، لتحريض العقلاء على الظفر فى الآخرة بهذه المتع التى كانوا يشتهونها فى الدنيا ، على سبيل تقريب الأمور لهم ، وإلا فنعيم الآخرة لا يقاس فى لذته ودوامه بالنسبة لنعيم الدنيا الفانى . قال ابن عباس كل ما ذكر فى القرآن مما فى الجنة وسماه ، ليس له من الدنيا شبيه إلا فى الاسم . فالكافور ، والزنجبيل ، والأشجار والقصور ، والمأكول والمشروب ، والملبوس والثمار ، لا يشبه ما فى الدنيا إلا فى مجرد الاسم . وقوله - سبحانه - { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ … } بدل من قوله { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } لأن ماءها فى بياض الكافور وفى رائحته وبرودته . أى أن الأبرار يشربون من كأس ، ماؤها ينبع من عين فى الجنة ، هذا الماء له بياض الكافور ورائحته وبرودته . وعدى فعل " يشرب " بالباء ، التى هى باء الإِلصاق ، لأن الكافور يمزج به شرابهم . أى عينا يشرب عباد الله ماءهم وخمرهم بها . أى مصحوبا بمائها وخمرها . ومنهم من جعل الباء هنا بمعنى من التبعيضية . أى عينا يشرب من بعض مائها وخمرها عباد الله ، وهم الأبرار . وعبر عنهم بذلك لتشريفهم وتكريمهم ، حيث أضافهم - سبحانه - إلى ذاته . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا ، وبحرف الإِلصاق آخرا ؟ قلت لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته ، وأما العين فبها يمزجون شرابهم ، فكأن المعنى يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول شربت الماء بالعسل … وقوله - سبحانه - { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } صفة أخرى للعين ، أى يسيرونها ويجرونها إلى حيث يريدون ، وينتفعون بها كما يشاؤون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يتوجهون إليه . فالتعبير بقوله { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } إشارة إلى كثرتها وسعتها وسهولة حصولهم عليها يقال فجَّر فلان الماء ، إذا أخرجه من الأرض بغزارة ومنه قوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك فى آيات متعددة ، الأسباب التى من أجلها وصلوا إلى النعيم الدائم . فقال - تعالى - { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } . والنذر ما يوجبه الإِنسان على نفسه من طاعة الله - تعالى - ، والوفاء به أداؤه أداء كاملا . أى أن من الأسباب التى جعلت الأبرار يحصلون على تلك النعم ، أنهم من أخلاقهم الوفاء بالنذر ، ومن صفاتهم - أيضا - أنهم يخافون يوما عظيما هو يوم القيامة ، الذى كان عذابه فاشياً منتشراً غاية الانتشار . فقوله { مُسْتَطِيراً } اسم فاعل من استطار الشئ إذا انتشر وامتد أمره ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وأصله طار . ومنه قولهم استطار الغبار ، إذا انتشر فى الهواء وتفرق وجئ بصيغة المضارع فى قوله { يُوفُونَ } للدلالة على تجدد وفائهم فى كل وقت وحين . والتعريف فى " النذر " للجنس ، لأنه يعم كل نذر . وجاء لفظ اليوم منكراً ، ووصف بأن له شراً مستطيرا … لتهويل أمره ، وتعظيم شأنه ، حتى يستعد الناس لاستقباله بالإِيمان والعمل الصالح . ثم وصفهم - سبحانه - بصفات أخرى فقال { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } . أى أن هؤلاء الأبرار من صفاتهم - أيضاً أنهم يطعمون الطعام مع حب هذا الطعام لديهم ، ومع حاجتهم إليه واشتهائهم له . ومع كل ذلك فهم يقدمونه للمسكين ، وهو المحتاج إلى غيره لفقره وسكونه عن الحركة … ولليتيم وهو من فقد أباه وهو صغير ، وللأسير وهو من أصبح أمره بيد غيره ، وخص الإِطعام بالذكر لما فى تقديمه من كرم وسخاء وإيثار ، لا سيما مع الحاجة إليه ، كما يشعر به قوله - تعالى - { عَلَىٰ حُبِّهِ } أى على حبهم لذلك الطعام ، وقيل الضمير فى قوله { عَلَىٰ حُبِّهِ } يعود إلى الله - عز وجل - أى يطعمون الطعام على حبهم له - تعالى . والأول أولى . ويؤيده قوله - تعالى - { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } و " على " هنا بمعنى مع ، والجملة فى محل نصب على الحال . أى حالة كونهم كائنين على حب هذا الطعام . وخص هؤلاء الثلاثة بالذكر ، لأنهم أولى الناس بالرعاية والمساعدة . وقد ذكروا فى سبيل نزول هذه الآية ، والآيتين اللتين يعدها ، روايات منها ، أنها نزلت فى الإِمام على وزوجه فاطمة - رضى الله عنهما - . قال القرطبى - بعد أن ذكر هذه الروايات - والصحيح أنها نزلت فى جميع الأبرار ، وفى كل من فعل فعلا حسنا ، فهى عامة … وقوله - سبحانه - { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ } بيان لشدة إخلاصهم ، ولطهارة نفوسهم ، وهو مقول لقول محذوف أى يقدمون الطعام لهؤلاء المحتاجين مع حبهم لهذا الطعام ، ومع حاجتهم إليه … ثم يقولون لهم بلسان الحال أو المقال إنما نطعمكم ابتغاء وجه الله - تعالى - وطلبا لمئويته ورحمته . { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } أى لا نريد منكم جزاء على ما قدمناه لكم ، ولا نريد منكم شكرا على ما فعلناه ، فإننا لا نلتمس ذلك إلا من الله - تعالى - خالقنا وخالقكم . ثم أضافوا إلى ذلك قولهم { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } . والعبوس صفة مشبهة لمن هو شديد العبس ، أى كلوح الوجه وانقباضه . والقمطرير الشديد الصعب من كل شئ يقال اقْمَطَرَّ يومُنا . إذا اشتدت مصائبه . ووصف اليوم بهذين الوصفين على سبيل المجاز فى الإِسناد ، والمقصود وصف أهله بذلك ، فهو من باب فلان نهاره صائم . أى ويقولون لهم - أيضا - عند تقديم الطعام لهم إنا نخاف من ربنا يوما ، تعبس فيه الوجوه ، من شدة هوله ، وعظم أمره ، وطول بلائه . أى أنهم لم يقدموا الطعام - مع حبهم له - رياء ومفاخرة ، وإنما قدموه ابتغاء وجه الله ، وخوفا من عذابه . والفاء فى قوله { فَوَقَاهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ … } للتفريع على ما تقدم ولبيان ما ترتب على إخلاصهم وسخائهم من ثواب . أى فترتب على وفائهم بالنذور ، وعلى خوفهم من عذاب الله - تعالى - وعلى سخائهم وإخلاصهم ، ترتب على كل ذلك أن دفع الله - تعالى - عنهم شر ذلك اليوم ، وهو يوم القيامة . { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } أى وجعلهم يلقون فيها حسنا وبهجة فى الوجوه ، وسرورا وانشراحا فى الصدور ، بدل العبوس والكلوح الذى حل بوجوه الكفار . { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } أى بسبب صبرهم { جَنَّةً } عظيمة … و { وَحَرِيراً } جميلا يلبسونه . { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا } أى فى الجنة { عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } أى على السرر ، أو على ما يتكأ عليه من سرير أو فراش ونحوه . { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } أى لا يرون فيها شمسا شديدة الحرارة بحيث تؤذيهم أو تضرهم ، ولا يرون فيها كذلك { زَمْهَرِيراً } أى بردا مفرطا ، يقال زمهر اليوم ، إذا اشتد برده . والمقصود من الآية الكريمة أنهم لا يرون فى الجنة إلا جوا معتدلا ، لا هو بالحار ولا هو بالبارد . وقوله - سبحانه - { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا … } معطوف على قوله قبل ذلك { متكئين } و " ظلالها " فاعل " دانية " والضمير فى " ظلالها " يعود إلى الجنة . أى أن الأبرار جالسون فى الجنة جلسة الناعم البال ، المنشرح الصدر . وظلال أشجار الجنة قريبة منهم ، ومحيطة بهم ، زيادة فى إكرامهم . { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } أى أنهم - فضلا عن ذلك - قد سخرت لهم ثمار الجنة تسخيرا ، وسهل الله - تعالى - لهم تناولها تسهيلا عظيما ، بحيث إن القاعد منهم والقائم والمضطجع ، يستطيع أن يتناول هذه الثمار اللذيذة بدون جهد أو تعب . فقوله - تعالى - { وَذُلِّلَتْ } من التذليل بمعنى الانقياد والتسخير ، يقال ذُلّل الكرم - بضم الذال - إذا تدلت عناقيده وصارت فى متناول اليد . والقطوف جمع قطف - بكسر القاف - وهو العنقود حين يُقْطَف أو الثمار المقطوفة . وبعد أن وصف - سبحانه - جانبا من طعامهم ولباسهم ومسكنهم أخذت السورة الكريمة فى وصف شرابهم . فقال - تعالى - { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ . قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } وقوله { وَيُطَافُ } من الطواف ، وهو السعى المكرر حول الشئ ، ومنه الطواف بالكعبة . والآنية جمع إناء ، وهو اسم لكل وعاء يوضع فيه الطعام والشراب والمراد بها هنا الأوانى التى يستعملونها فى مجالس شرابهم . والأكواب جمع كوب ، وهو القدح الذى لا عروة له ، وعطفه على الآنية من باب عطف الخاص على العام . والقوارير جمع قارورة وهى فى الأصل إناء رقيق من الزجاج النقى الشفاف ، توضع فيه الأشربة وما يشبهها ، فتستقر فيه . أى ويطاف على هؤلاء الأبرار بآنية كائنة من فضة ، وبأكواب وأقداح من فضة - أيضاً - وجعلت هذه الأكواب فى مثل القوارير فى صفائها ونقائها ، وفى مثل الفضة فى جمالها وحسنها ، بحيث يرى ما بداخلها من خارجها . وقوله - سبحانه - { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } أى إن الطائفين بهذه الأكواب عليهم ، قد وضعوا فيها من الشراب على مقدار ما يشبع هؤلاء الأبرار ويرويهم بدون زيادة أو نقصان والطائفون عليهم بذلك هم الخدم الذين جعلهم الله - تعالى - لخدمة هؤلاء الأبرار . وبنى الفعل للمجهول للعلم بهم . وقال - سبحانه - هنا { بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ } وفى سورة الزخرف { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ … } زيادة فى تكريمهم وفى سمو منزلتهم ، إذ تارة يطاف عليهم بأكواب من فضة ، وتارة يطاف عليهم بصحاف من ذهب ، ومن المعروف أنه كلما تعددت المناظر الحسنة ، والمشارب اللذيذة ، كان ذلك أبهج للنفس . والمراد بالكينونة فى قوله - تعالى - { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ … } أنها تكونت ووجدت على هذه الصفة . قال الآلوسى قوله - تعالى - { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } أى كانت تلك الأكواب قوارير ، جمع قارورة ، وهى إناء رقيق من الزجاج توضع فيه الأشربة ، ونصبه على الحال ، فإن " كان " تامة ، وهو كما تقول خلقت قوارير . وقوله - تعالى - { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } بدل . والكلام على التشبيه البليغ . والمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ، ولون الفضة وبياضها . وقرأ نافع والكسائى وأبو بكر بتنوين { قَوَارِيرَاْ } فى الموضعين وصلا ، وإبداله ألفا وقفا . وابن كثير يمنع صرف الثانى ويصرف الأول … والقراءة بمنع صرفهما للباقين . وقال الشوكانى وجملة " قدروها تقديرا " صفة لقوارير … أى قدرها السقاة من الخدم ، الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة ، من دون زيادة ولا نقصان … ، وقيل قدرها الملائكة . وقيل قدرها الشاربون لها من أهل الجنة على مقدار حاجتهم ، فجاءت كما يريدون فى الشكل لا تزيد ولا تنقص … ثم بين - سبحانه - محاسن شراب أهل الجنة فقال { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً . عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } . والمراد بالكأس هنا كأس الخمر . والضمير فى قوله { فيها } يعود إلى الجنة . والزنجبيل نبات ذو رائحة عطرية طيبة ، والعرب كانوا يستلذون الشراب الممزوج به . والسلسبيل وصف قيل مشتق من السلاسة بمعنى السهولة واللين ، يقال ماء سلْسَل ، أى عذب سائغ للشاربين ، ومعنى { تسمى } على هذا الرأى . أى توصف بالسلاسة والعذوبة . وقيل السلسبيل اسم لهذه العين ، لقوله - تعالى - { تسمى } . أى أن هؤلاء الأبرار - بجانب كل ما تقدم من نعم - يسقون فى الجنة من كأس مليئة بالخمر ، وهذه الخمر التى يشربونها ممزوجة بالزنجبيل ، فتزداد لذة على لذتها . ويسقون - أيضا - من عين فيها - أى فى الجنة - تسمى سلسبيلا ، وذلك لسلاسة مائها ولذته وعذوبته ، وسهولة نزوله إلى الحلق . قال صاحب الكشاف { سَلْسَبِيلاً } سميت بذلك - لسلاسة انحدارها فى الحلق ، وسهولة مساغها يعنى أنها فى طعم الزنجبيل ، وليس فيها لذعة ، ولكن فيها نقيض اللذع وهو السلاسة ، فقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، وقد زيدت الباء فى التركيب حتى صارت الكلمة خماسية . ودلت على غاية السلاسة … ثم أخبر - سبحانه - عن نوع آخر من الخدم ، يطوفون على هؤلاء الأبرار لخدمتهم ، فقال { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } . أى ويطوف على هؤلاء الأبرار { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أى دائمون على ما هم عليه من النضارة والشباب … إذا رأيتهم - أيها المخاطب { حَسِبْتَهُمْ } وظننتهم { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أى حسبتهم من حسنهم ، وصفاء ألوانهم ، ونضارة وجوههم … لؤلؤا ودرا مفرقا فى جنبات المجالس وأوسطها . فقوله - تعالى - { مُّخَلَّدُونَ } احتراس المقصود منه دفع توهم أنهم سيصيرون فى يوم من الأيام كهولا ، قالوا وشبهوا باللؤلؤ المنثور ، لأن اللؤلؤ إذا نثر على البساط ، كان أكثر جمالا منه فيما لو كان منظوما . { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } وثم هنا ظرف مكان مختص بالبعيد ، وهو منصوب على الظرفية ، ومفعول الرؤية غير مذكور ، لأن القصد وإذا صدرت منك - أيها المخاطب رؤية إلى هناك ، أى إلى الجنة ونعيمها … { رَأَيْتَ نَعِيماً } لا يقادر قدره { وَمُلْكاً كَبِيراً } أى واسعا لا غاية له . فقوله - سبحانه - { رَأَيْتَ } الثانية ، جواب إذا . والمشار إليه " بِثَمَّ " التى هى بمعنى هناك معلوم من المقام ، لأن المقصود به الجنة التى سبق الحديث عنها فى مثل قوله { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } أى وإذا سرحت ببصرك إلى هناك رأيت نعيما وملكا كبيرا . ثم فصل - سبحانه - جانبا من مظاهر هذا النعيم العظيم فقال { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } وقوله { عَالِيَهُم } بفتح الياء وضم الهاء - بمعنى فوقهم ، فهو ظرف خبر مقدم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل فوقهم ثياب ويصح أن يكون حالا للأبرار . أى تلك حال أهل النعيم والملك الكبير وهم الأبرار . وقرأ نافع وحمزة { عاليهم } - بسكون الياء وكسر الهاء - على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافا بيانياً ، لقوله - تعالى - { رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } ، ويكون لفظ { عَالِيَهُمْ } أسم فاعل مبتدأ . وقوله { ثِيَابُ سُندُسٍ } فاعله ساد مسد الخبر ، ويصح أن يكون خبرا مقدما ، وما بعده مبتدأ مؤخر . وإضافة الثياب إلى السندس بيانية ، مثل خاتم ذهب والسندس الديباج الرقيق . والاستبرق الديباج الغليظ . والمعنى أن هؤلاء الأبرار ، أصحاب النعيم المقيم ، والملك الكبير ، فوق أجسادهم ثياب من أفخر الثياب ، لأنهم يجمعون فى لباسهم بين الديباج الرقيق ، والديباج الغليظ ، على سبيل التنعيم والجمع بين محاسن الثياب . وكانت تلك الملابس من اللون الأخضر ، لأنها أبهج للنفس ، وشعار لباس الملوك . وكلمة " خضر " قرأها بعضهم بالرفع على أنها صفة لثياب ، وقرأها البعض الآخر بالجر ، على أنها صفة لسندس . وكذلك كلمة " وإستبرق " قرئت بالرفع عطفا على ثياب ، وقرئت بالجر عطفا على سندس . وقوله { وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } بيان لما يتزينون به فى أيديهم ، أى أن هؤلاء الأبرار يلبسون فى أيديهم أساور من فضة ، كما هو الشأن بالنسبة للملوك فى الدنيا ، ومنه ما ورد فى الحديث من ذكر سوارى كسرى . وقوله - تعالى - { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } أى وفضلا عن كل تلك الملابس الفاخرة سقاهم ربهم - بفضله وإحسانه - شراباً بالغا نهاية الطهر ، فهو ليس كخمر الدنيا ، فيه الكثير من المساوئ التى تؤدى إلى ذهاب العقول … وإنما خمر الآخرة شراب لذيذ طاهر من كل خبث وقذر وسوء . وجاء لفظ " طهورا " بصيغة المبالغة ، للإِشعار بأن هذا الشراب قد بلغ النهاية فى الطهارة . ثم ختم - سبحانه - هذا العطاء الواسع العظيم ، ببيان ما ستقوله الملائكة لهؤلاء الأبرار على سبيل التكريم والتشريف ، فقال { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } . وهذه الآية الكريمة مقول لقول محذوف ، والقائل هو الله - تعالى - أو ملائكته بأمره - سبحانه - وإذنه ، أى سقاهم ربهم شرابا طهورا فى الآخرة ، ويقال لهم عند تمتعهم بكل هذا النعيم ، { إِنَّ هَـٰذَا } النعيم الذى تعيشون فيه { كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } على إيمانكم وعملكم الصالح فى الدنيا . { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } أى مرضيا ومقبولا عند خالقكم ، فازدادو - أيها الأبرار - سرورا على سروركم ، وبهجة على بهجتكم . وبعد هذا التفصيل لما أعده الله - تعالى - لعباده الأخيار من أصناف النعيم ، المتعلق بمأكلهم ، ومشربهم … أخذت السورة الكريمة . فى أواخرها - فى تثبيت النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وفى دعوته صلى الله عليه وسلم إلى المداومة على التحلى بفضيلة الصبر ، وإلى الإِكثار من ذكره - تعالى - وأنذرت الكافرين والفاسقين إذا ما استمروا فى ضلالهم . فقال - تعالى - { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ … } .